أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسرح العالمي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسرح العالمي. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

هل من كتب مسرحيات شكسبير امرأة؟ مديرة مسرح ببريطانيا تطرح فرضية غريبة

مجلة الفنون المسرحية

هل من كتب مسرحيات شكسبير امرأة؟ مديرة مسرح ببريطانيا تطرح فرضية غريبة



تخيل لو أن الأعمال العظيمة لويليام شكسبير من شعر ومسرحيات وروايات، قد كتبتها امرأة بدلاً من الشاعر البريطاني الكبير.

لا تستغرب فهذه الفرضية هي ما تستعد المديرة الفنية لمسرح شكسبير غلوب ببريطانيا، ميشيل تيري، لتناولها في افتتاح الموسم الأول للمسرح، بحسب صحيفة Telegraph البريطانية.

المرأة التي تدور حولها المسرحية هي إيميليا بسانيو، الشاعرة التي نُشرت لها أعمال خلال فترة حياتها، وعشيقة هنري كاري، ابن العم الأول للملكة إليزابيث الأولى.

ويعتقد بعض الأكاديميين أنَّ هذه "السيدة السمراء"، التي وُلدت لعائلةٍ يهودية من أصولٍ تعود إلى مدينة البندقية وتزوجت من موسيقي إيطالي، هي من ألهمت قريحة شكسبير الشعرية لكتابة أعماله.

في حين ذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، مقترحين أنَّها ربما قامت بتأليف بعض أعماله بنفسها.

وقال الكاتب البريطاني جون هدسون سابقاً، فإن إيميليا خلال فترة المراهقة بدأت بالاهتمام بالمسرح البريطاني والتحقت بشركة "رجال لورد تشامبرلين" للتمثيل.

ووفقاً لتحليل هدسون فإن إيميليا كانت في موقع جيد يسهل عليها صقل مهاراتها المعرفية. خصوصاً وأنها كانت على علاقة بالكاتب المسرحي كريستوفر مارلو، وأصبحت حاملاً منه قبل أن يتوفى عام 1645، نقلاً صحيفة "الأهرام".

من ضمن الأسباب أيضاً التي يراها هدسون، هو عدم خروج شكسبير خارج بريطانيا طوال حياته، في حين أن العديد من أعمال شكسبير تتحدث عن أماكن خارج إنكلترا.


رفضها مؤرخون

لكن رغم سحر هذه الفرضية فقد رفضها مؤرخون، غير أنَّ ميشيل تتمتع بعقل منفتح حول مسألة ما إذا كان شكسبير هو من كتب المسرحيات التي تحمل اسمه.

وقالت مديرة المسرح عن بسانيو: "يعتقد البعض أنَّها من ألفت بعض المسرحيات، وبدوري لن أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لأننَّي لا أعرف".

وأضافت ميشيل التي قرأت جميع روايات شكسبير: "رأيي هو: سواءٌ ما كان رجل واحد، أو امرأة واحدة، أو 10 أشخاص، فالفرضية قائمة. وما من شخصٍ آخر أو أي مجموعة من الأشخاص استطاعوا إنتاج أعمال مشابهة أبداً. أعماله من أعظم أعمال الأدب على الإطلاق".


-------------------------------------------------------------------
المصدر :هاف بوست عربي 

«المعلمة الفقيرة» تستعيد مرتبة الأعلى أجراً عالمياً

مجلة الفنون المسرحية

«المعلمة الفقيرة» تستعيد مرتبة الأعلى أجراً عالمياً

لندن - الحياة

استعادت الكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ صاحبة «ملحمة هاري بوتر» المرتبة الأولى بين الكتّاب الأعلى أجراً في العالم، بعد مرور تسع سنوات على فقدانها إياها. هذا ما أوردته قبل أيام مجلة «فوربس» الأميركية التي أدرجتها في طليعة الكتّاب الأكثر رواجاً، بعدما تخطّت خلال هذه السنة منافسيها العالميين من أمثال جيمس باترسون، ودان براون، وحتى ستيفن كينغ.
في الثانية والخمسين من عمرها، استرجعت المعلمة «الفقيرة» التي كانت تدرّس الأدب الإنكليزي في المدارس وتقيم لدى شقيقتها في أدنبره مكانتها وخطفت الأضواء ثانية بعدما سجلت أرقاماً هائلة في المبيع لم يبلغها أحد قبلها. فبين الأول من حزيران (يونيو) 2016 و31 أيار( مايو) 2017، حقّقت الكاتبة دخلاً مقداره 95 مليون دولار، أي ما يعني 180 دولاراً في الدقيقة الواحدة. هذه أرقام خرافية حقاً. أي كاتب استطاع أن يجني ثروة في هذا الحجم خلال بضعة أشهر؟ طوال عشرين عاماً، أصدرت ج. ك. رولينغ (اسمها الأصلي جوان رولينغ) سبعة أجزاء من «ملحمة هاري بوتر».
يمكن تفسير استعادة رولينغ مكانتها هذه عبر النجاح الذي حقّقته مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» التي بيع منها 4.5 مليون نسخة في بريطانيا فقط، ناهيك عن العائدات التي تم حصدها من متنزه ملاهي هاري بوتر في كاليفورنيا ومن فيلم «الحيوانات الخيالية»... وقد حقّقت هذه المسرحية نجاحاً هائلاً عندما قدّمت على خشبة المسرح. وحقّق نص المسرحية الذي صدر في موازاة عرضها في تموز (يوليو) 2016، نجاحاً مدوّياً في الولايات المتّحدة، فبيع منه مليون نسخة في ثلاثة أيام فقط. ويمكن تفسير النتائج الجيّدة التي حقّقتها الروائية البريطانية أيضاً من خلال صدور فيلم «الحيوانات الخيالية» عام 2016 أيضاً.
لم تعد «ملحمة هاري بوتر» مجرد مجموعة روايات توفّق بين المغامرة والحكاية الخرافية، بل أصبحت أيضاً امتيازاً ببلايين الدولارات! فالعالم السحري الذي يملأه المشعوذون أو السحرة في الروايات، انبثقت منه مجموعة كبيرة من الدمى والألعاب والمجسّمات المستوحاة من الحكايات ووقائعها وشخصياتها، وهي تباع في أرجاء العالم الذي تروّج فيه الروايات التي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة. أما عربياً فلم تلقَ ترجمة بعض أجزاء «هاري بوتر» إلى العربية نجاحاً على رغم صدورها في سلسلة شعبية في القاهرة، فالترجمة كانت أشبه بالاقتباس والتلخيص وعانت مشكلات كثيرة في المصطلحات والتركيب اللغوي.
ومع احتفالها بالذكرى العشرين لانطلاق الجزء الأول من السلسلة، تثبت رولينغ اليوم مكانتها كاتبة لامعة نجحت في تحقيق ما يشبه الأسطورة في سوق النشر من غير أن تقع في الإسفاف أو المجانية، بل حافظت على أسلوبها الحكائي المشرق وعلى قوّة مخيّلتها المبدعة. ويا له من طريق سلكته منذ عام 1997، مع أول كتاب لها وهو «هاري بوتر في مدرسة المشعوذين» الذي لم تتخط طبعته آنذاك خمسة آلاف نسخة! واليوم، بيع من هذا الكتاب أكثر من 450 مليون نسخة، وحقّقت الرواية المقدار ذاته من الأرباح، مع الترجمات إلى لغات عالمية، ما عدا حقوق التأليف.
وبالعودة إلى تصنيف مجلة «فوربس»، فقد حلّ في المرتبة الثانية الكاتب الأميركي جيمس باترسون الذي يناهز أجره 87 مليون دولار. وقد تمّ تحويل عدد من رواياته إلى أفلام سينمائية، ومنها مثلاً «هاوي التجميع» و «قناع العنكبوت». ويليهما جيف كيني (21 مليون دولار)، ودان براون صاحب «شيفرة دافنشي» (20 مليون دولار)، وستيفن كينغ (15 مليون دولار «فقط»). أمّا جورج ر.ر. مارتن، مؤلّف ملحمة «صراع العروش»، فغادر المرتبة العاشرة من التصنيف.
من جهة أخرى، تبوّأت رولينغ المرتبة الثالثة في تصنيف المشاهير الصادر عن مجلة «فوربس» أيضاً، وقد تلت مغنّي الراب ب. ديدي (116.6 مليون) والمغنية بيونسيه (94 مليوناً).

الأحد، 27 أغسطس 2017

فن التعبير من دون كلمات..أونوديرا: أريد تشجيع الجمهور ليمضي في عالمه المجهول ويغامر

مجلة الفنون المسرحية
ك

فن التعبير من دون كلمات..أونوديرا: أريد تشجيع الجمهور ليمضي في عالمه المجهول ويغامر

ترجمة: عادل العامل - المدى 

"ليس كل شيء يمكن تفسيره بالكلمات. فكل واحد منا يستمد تعبيراً مختلفاً من كلمة "حب"، على سبيل المثال"، يقول الفنان الياباني البالغ من العمر 51 عاماً شوجي أونوديرا. "ومع هذا فإني اكتشفتُ، خلال الرقص، جمالاً خاصاً وراء الكلمات". وكان أونوديرا، وهو مخرج وفنان إيمائي mime، يتحدث هنا عن لغة الرقص بعد يوم طويل من التمارين التمهيدية لعمله الجديد "مغامرات أليس في بلاد العجائب"، التي افتُتحت في حزيران الماضي في المسرح القومي الجديد بطوكيو، كما تقول نوبوكو تاناكا في مقابلتها الصحفية هذه مع أونوديرا وشريكته في العمل موموكو فيجيتا (الظاهرين في الصورة).
ويشرح أونوديرا ذلك قائلاً، "لكن لأن الإيماء (التمثيل الصامت) يدمج الإيماءات الإنسانية في سلسلة حركاته البهية، فهو يمكنه بذلك أن يُظهر الخلفية الثقافية للشخصية بشكل أكثر واقعيةً مما يفعل الرقص لوحده".
لقد بدأ أونوديرا طريقه نحو وضعه الفني الحالي منذ عام 1994، حيث درس الإيماء وعمل في بعض المسرحيات في الجامعة. وبعدها شارك مع عدد من الزملاء في إنشاء فرقة (الماء والزيت  Mizu to Abura)، التي كوّنت لها على مدى العقد التالي سمعة كبيرة لا في اليابان وحدها بل وفي عدة بلدان زارتها الفرقة. وفي عام 2006 حصل أونوديرا على منحة دراسية ليعيش ويعمل في باريس مدة عامٍ حيث شارك في تأسيس فرقته " ديراشينيرا" مع زميلة له من الفرقة السابقة. وقد دعت الفرقة منذ ذلك الحين العديد من الممثلين والراقصين للأداء في عملها الأصلي، " مسرحيات من دون كلمات"، غالباً ما استندت الى أعمال عظيمة مثل "روميو وجوليت" لشكسبير، وملحمة " الأخوة كرامازوف" لدوستويفسكي، و"المسخ" لفرانز كافكا.   
وفي الوقت التي تشتهر فيه هذه التكييفات الممتازة للتعبيرات الراقصة من دون كلمات عن هذه الكلاسيكيات، فإن مزج أونوديرا القوي لتلك الأشكال الفنية قد أدى أيضاً بالكثير من الفرق المسرحية الأخرى إلى مناشدته تصميم إنتاجاتها الخاصة ــ  وهو بُعد مستقل شهد فوزه بجائزة أفضل كادر عمل من جوائز يوميري عام 2011.
ونتيجةً لهذه النجاحات، ظل أونوديرا يعمل من دون توقف منذ أن أسس فرقة ديراشينيرا ــ وتلك نعمة لأي فنان، لكن ليس من دون ثمن بالنسبة لشريكته موموكو فيجيتا. وهي تقول، " لقد كنا مشغولين جداً بالعمل مع المؤدين الجُدد ذلك أننا لم نكن قادرين على التفكير بالذاهب إلى الخارج كما فعلنا مع فرقة "الماء والزيت". لكن الآن وبعد ثلاث سنوات مع جماعة من الفنانين الشباب الذي جربناهم في "سلسلة المسرح الأبيض"، حيث أنجزنا قطعة جديدة كل عام، أعتقد بأننا نستطيع البدء تدريجياً للقيام بذلك معاً".
وقد قرر الشريكان مؤخراً التهيؤ لعملهما المقبل، "مغامرات أليس في بلاد العجائب" فاستدعيا عدداً من المؤدين للعمل فيه. وكانوا قد عملوا لفترة مع أونوديرا، الذي يقول عنهم ضاحكاً، " وهكذا فإنهم يثقون بي، ويدينون لي، إلى مدىً معين، ببعض المعروف"! 
ومع هذا، يُقر بأنه تحدٍّ صعبٌ القيام بخلق عمل جديد مستند على رواية فنتازية شهيرة بالعنوان نفسه للويس كارول عام 1865، قائلاً، " أساساً، لقد أحببت القصة وعالمها التجريدي الفنتازي. ونحن في أعمالنا الخاصة نخلق في العادة مشاهد فنتازية لتحفيز خيال الجمهور، لكن الكتاب فيه الكثير من هذا ــ مثل تحول أليس إلى صغيرة ثم فجأةً إلى كبيرة ــ وهذا ما يجعل من الصعب معرفة الكيفية التي يُعرف بها استحداث عالمها الملغز". وأضاف، قائلاً، "وكان سيكون من المضجر لو أننا اتبعنا فقط أوصاف الرواية بإظهار أليس الصغيرة الحجم وهي تستخدم التكنولوجيا الرقمية، مثلاً. وبدلاً من ذلك، أردتُ أن يتساءل الجمهور ما إذا كانت أليسنا هي تلك التي يعرفها الجميع أم لا. وفي الحقيقة، فإني لا أُظهر البطلة كأليس، بل أدخلتُ شخصية أخرى شبيهة بأليس".
وتوضح فيوجيتا قائلةً، "إننا نود إعداد فخ للحمهور عن طريق جعله يفكر من هي أليس هذه ولماذا تحدث تلك الأمور الخاصة هناك. وهكذا سيكون المسرح بسيطاً تماماً بإعداد مكشوف، وستدق البطلة على ستة أبواب بحثاً عن الفردوس. وفي الحقيقة، فإن "الفردوس" فكرة أساسية في هذا الإنتاج، حتى وإن كان يروغ منها كما يبدو على الدوام".
ويقول أونوديرا، " هناك في ذهني، وأنا أقوم بهذا العمل، نوع من العالم الثنائي بين ما تحركه أليس.  وعن طريق تغيير المشاهد بشكل مربك من خلال حركات مؤقتة بدقة واستعمال كل تلك الأبواب، آمل في أن يتمتع الجمهور بمشهد بصري سحري ذي تحولات مذهلة". ويضيف إلى ذلك ، " لقد أدركت أنه ليس هناك فقط العالم الذي أعيش فيه، لأن هناك فعلياً عوالم مختلفة متعددة قائمة بشكل متزامن. وبالتالي، يمكنني أن أصور بلاد عجائب أليس كقصة حقيقية وليس كمجرد قصة حلم، وأنها تستطيع أن تقوم برحلتها بين الحياة الواقعية وفردوسها المجهول بينما هي تواجه الصعوبات بشجاعة في "بلاد العجائب" أينما كانت".
وبهذه الفكرة في رأسه، فإن أونوديرا يريد أن يشجع الجمهور، كما يقول، على  السير في عوالمهم المجهولة والشعور بإثارة الدخول في مغامرة كما يحدث لأليس في بلاد العجائب. 

 عن: The Japan Times

الخميس، 17 أغسطس 2017

قابيل وهابيل في عمان

مجلة الفنون المسرحية

قابيل وهابيل في عمان

عواد علي - العرب 


'القبو' عرض مسرحي تشيلي يروي قصة أسرة تقرر العزلة عن المجتمع والحياة المعاصرة طيلة ألف يوم.

تستحضر مسرحية “القبو”، لفرقة كيوربولمايت التشيلية، التي حصلت على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان المسرح الحر في الأردن، قصة “قابيل وهابيل” بمقاربة درامية معاصرة ذات منحى بصري يقوم على الأداء الجسدي، مستغنية عن الحوار إلا في الحدود الدنيا. وسبق للعرض الذي أداه كل من مايرا كاودرا وبنجامين جورونو وبابلو جويرا وباولا هوفمان وكارلوس سانشيز أن قُدّم في الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي العام الماضي.

تمثّل شخصيات العرض أسرة محافظة مؤلَّفة من أم وأب وأبنائهما الثلاثة (ولدان وصبية). يشعر الوالدان بالخيبة من البيئة التي يعيشان فيها وعدم قدرتهما على مسايرة قيمها، فيقرران الانعزال عن المجتمع بالانتقال إلى قبو محصن لتعيش فيه الأسرة حياة أفضل بعيدا عن المجتمع طوال ألف يوم. لكن مخرجة العرض باولا كالديرون افتتحت العرض بمشهد ثابت يستمر بضع دقائق تظهر فيه الشخصيات الخمس مرتدية كمامات وألبسة واقية من الغازات يوحي للمتلقين أن الأسرة لجأت إلى القبو هربا من كارثة أقرب ما تكون إلى ضربة كيميائية تعرضت لها المدينة. ثم يتضح أن ذلك المشهد كان كناية عن الوباء الأخلاقي الذي أصاب المجتمع من وجهة نظر الوالدين اللذين لا يشير العرض إلى سبب تزمتهما الأخلاقي وقد يُعزى إلى دافع ديني (بيوريتاني).

الوالدان داخل القبو يسيطران على أبنائهما ويتحكمان في كل صغيرة وكبيرة من عاداتهم وطبائعهم الشخصية، مثل طريقة الأكل والنوم والاستيقاظ وغسل الأسنان. وبينما يستغرق الأب في قراءة جريدة قديمة تنهمك الأم بتفاصيل الحياة اليومية في القبو على نحو مبالغ فيه تعويضا عن حرمانها من التعبير عن مشاعرها
يسيطر الوالدان داخل القبو على أبنائهما ويتحكمان في كل صغيرة وكبيرة من عاداتهم وطبائعهم الشخصية، مثل طريقة الأكل والنوم والاستيقاظ وغسل الأسنان. وبينما يستغرق الأب في قراءة جريدة قديمة تنهمك الأم بتفاصيل الحياة اليومية في القبو على نحو مبالغ فيه تعويضا عن حرمانها من التعبير عن مشاعرها.

كلاهما تغمره برودة عاطفية وجنسية، وحينما يحاولان أن يلتقيا جسدياً يضيق بهما المكان ويخشيان من رؤية الأبناء لهما أثناء الليل حتى وهما ينتحيان ركنا معزولا في المستوى العلوي المكشوف عند مدخل القبو.

وبمرور الوقت الطويل ينتاب الأبناء الملل من رتابة أيامهم المتشابهة في القبو ويُصابون باضطراب نفسي وتصبح حياتهم لا تطاق، فيسلكون سلوكات غريبة تزعزع استقرار الأسرة وتثير حفيظة الوالدين اللذين كان جل همهما الحيلولة دون انجراف أبنائهما مع أخلاق البيئة التي أدارا ظهرهما لها، فإذا بهم يسيرون في مجراها وكأنها طبع غريزي وليست “مفهوما” اجتماعيا متغيّرا أو سلوكا مكتسبا، حيث تنشأ علاقة حب محرّمة بين أحد الشقيقين وشقيقته من جراء الكبت والعزلة المفروضة التي توقظ الجنون وينتج عنها تفسخ يصعب السيطرة عليه.

وهي إشارة إلى أن الأُسر المنغلقة تعزز هذه العلاقة المتأججة في أعماق اللاشعور، ذلك لأن الفرد لا يجد إشباعا لعاطفته ورغبته الدفينة خارجيا، فيلجأ إلى داخل الأسرة. وتفتح هذه العلاقة الباب لدورة جديدة من الحياة تملأها الفوضى والصراع بين الشقيقين وشقيقتهما من جهة، وبينهما وبين الأب والأم من جهة أخرى.

لكن الشقيق يتزوج من شقيقته بعد موت الشقيق الثاني خلال الصراع ويأخذان دور الأب والأم في “القبو”. وفي ذلك استعارة رمزية للصراع بين “قابيل” و”هابيل” الذي يُعدّ تمثيلا للصراع التاريخي بين الحالة البدائيّة الغريزيّة للإنسان والنظم الأخلاقيّة والدينيّة التي تكوّنت في مرحلة التحول إلى الحضارة وسعت لتأطير هذه الحالة والسيطرة عليها.

شكّلت المخرجة باولا كالديرون فضاء العرض بسينوغرافيا ذات مستويين علوي يمثّل مدخل القبو المسيّج في عمق المسرح وسفلي يمثّل أرضية القبو التي تحتل وسط المسرح، ويوصل بينهما درج خشبي، وثمة طاولة في مقدمة المسرح. واكتفت باستخدام إكسسوارات بسيطة مثل الصحون والحقائب الحافظة للطعام وسطل صغير.

وتمكنت من توظيف هذا الفضاء توظيفا مبهرا حركت فيه الممثلين بأداء جسدي بليغ في إيماءاته وتنوعه وإيقاعه المنضبط وهدوئه وتناغمه ورشاقته حتى في لحظات الصراع المتأججة داخليا من دون أيّ توتر أو انفعال خارجي. وقد دعمت هذا الأداء المدهش إضاءة وموسيقى جمعتا بين المنحى الجمالي والدلالي المعبّر عن الجو الخانق الذي ينزع الإنسان من فطرته السليمة ويرغمه على تكوين علاقات مشوهة.


الاثنين، 14 أغسطس 2017

مسرحية 'تصليح الأحياء' مغامرات قلب متنقل بين الجسد والروح

مجلة الفنون المسرحية



    مسرحية 'تصليح الأحياء' مغامرات قلب متنقل بين الجسد والروح

    أبو بكر العيادي - العرب 

    “تصليح الأحياء” عنوان رواية متميزة للكاتبة الفرنسية مايليس دو كرَنْغال، عن رحلة تمزج الواقع بالخيال، حوّلتها كاتيل كييفيري إلى شريط سينمائي ناجح، ثم أخرجها للمسرح إمانويل نوبليه باقتدار نال عنه مؤخرا جائزة بومارشيه لأجمل عرض، بالتساوي مع “غرفة في الهند” لأريان مانوشكين، بعد تقديمه مؤخرا في “مسرح المدينة” بباريس.

    تقوم مسرحية “تصليح الأحياء” لإمانويل نوبليه على نص روائي عميق للروائية الفرنسية مايليس دو كرَنْغال التي فازت بعدة جوائز أدبية أهمها جائزة ميديسيس، أولا من حيث بعده الإنساني، والقيم التي يروم تبليغها، ثانيا من حيث بناؤُه الفني المحكم، ونسيجه السردي الشائق، رغم أن الموضوع دقيق يمكن أن يوقِع غيرَ المتمكن في ميلودراما تلفزيونية رتيبة، إذ إن مداره حادث مرور فظيع يُنقل إثره المصابون إلى قسم الطوارئ بمدينة لوهافر الفرنسية المطلة على بحر المانش، فيشخّص الأطباء وفاة أحدهم دماغيا، ويقرر أهله عندئذ التبرع بقلبه لامرأة على فراش الموت.

    وهذه اللحظة الفارقة بين الحياة والموت، بين حال شاب يسير به قدره إلى حتفه وحال امرأة لا تزال تتمسك بالرمق الأخير، هي التي توليها الكاتبة عنايتها لتتحول الرواية إلى سعي لاهث لإنقاذ القلب قبل هلاك صاحبه تماما، وزرعه في جسد المعتلة كي تتعافى، في زمن لا ينبغي أن يتعدى أربعا وعشرين ساعة، كما أكد الأطباء المتخصصون، وإلاّ صارت عملية الزرع غير مجدية.

    كل ذلك من خلال رحلة عجيبة يسردها ذلك القلب المتنقل من جسد إلى جسد، ومن وضع فتى يافع يدعى سيمون لا يتعدى التاسعة عشرة من عمره إلى قلب سيدة في الخمسين تدعى كلير، والمهاجر من منطقة إلى منطقة أخرى، فيغدو الارتحال نشيدا لأجل الحياة عبر سباق ضد الساعة يخضع فيه الجميع إلى تنسيق دقيق لبلوغ الغاية، ولكنه ارتحال سيهز أطرافا كثيرة.

    فحول هذه التراجيديا، تدور العواطف النبيلة ومشاعر الحب بدرجاته، كحب الوالدين لابن وحيد، وحب سيمون لجولييت، وحب كورديليا لعشيقها، فضلا عن الصداقة بين هواة السُّرْف الثلاثة، وشغف الجراحين بمهنتهم، ومحبة توماس لأبويه، ولكن أهمها هو ذلك السخاء المطلق، حين نتعاطف مع متلقّ دون أن نعرف هويته، فالرهان الإنساني الأكبر هو مسألة الحياة أو الموت التي تحدو سلسلة من الشخصيات، في وحدة زمنية مضبوطة تضفي تشويقا حادا على الدراموتورجيا.

    نص روائي عميق من حيث بعده الإنساني، علاوة على بنائه الفني المحكم، ونسيجه السردي الشائق رغم دقة موضوعه
    فكيف يمكن أن نجعل من نص سرديّ ثيمته الأساس تحويل ألم مطلق إلى فرحة محتملة باستعادة الحياة، وعبور من الموت إلى الحياة، عملا مسرحيا يشدّ الانتباه، لا، بل يلقى استحسان الجمهور؟

    اعتمد المخرج على سارد (أدّاه بنفسه) ليس له من سند غير الخشبة وكرسيين ولحاف، وعلى ممثل يقف على بساط متحرك ويعدد الأدوار ويحافظ على التوازن الماثل في الرواية، في موضع بين الانشراح والعبوس، بين الحياة والموت.

    ولما كانت الرواية خالية من بطل محوري، عدا قلب سيمون، فقد استعان المخرج بصور في الخلفية توضّح ما يحيا داخل جسم الإنسان، من الدورتين الدموية والرئوية إلى الملامح الخارجية مرورا باقتران الصبغيّات وتدفق الطاقة.

    ولكن ما يشدّ المتفرج في المقام الأول هو مزج المشاعر الحميمة بمغامرة جماعية كريمة ونبيلة، عبر منح شيء من الطاقة الحيوية لمقاومة اليأس، وخلق لحظة عزاء وسلوان من رحم الألم كدلالة على ذكاء شريحة من المجتمع، تفضل الانفتاح في وجوه الآخرين حتى في أحلك الظروف، على الانكفاء والتقوقع، فالسلوك السليم كما يقول تشيخوف في مسرحية “بلاتونوف” هو “دفن الموتى، وتصليح الأحياء”، وهي المقولة التي استمدت منها مايليس دو كرَنْغال عنوان روايتها، الصادرة عن غاليمار عام 2014.

    وفي هذا الاقتباس الذي أعده سيلفان موريس عن الرواية الأصلية، يسكن فانسان ديسّيه النص بعمق نادر، وقواه ملتمة داخل جسد ناشف مرن يحاول الإبقاء على توازنه في آخر لحظة على بساط متحرك تحت قدميه، ذلك أن سرده في ممر ذي أرضية زلقة يجد صداه مع الموضوع، أي سباق ضد الساعة، بالدقيقة والثانية، لإنقاذ قلب المتزحلق الشاب الذي لقي حتفه دماغيا كما أسلفنا، وبين وجهات نظر الفريق الطبي وموقف الأسرة، يتنقل ديسّيه بغير انقطاع من سرد الحياة إلى سرد الموت، في توازن مفارق مؤثر، فيمنح النص بعده الإنساني العميق، مستعينا في أدائه بالموسيقي جواكيم لاتارجيه عازف القيثارة والترمبون.

    ويقول المخرج إمانويل نوبليه “أن يتبرع الإنسان بعضو، فذلك معناه مواجهة كل الرموز التي يحمّلها إياه المجتمع، والمعتقدات والأساطير الفردية والجماعية التي تنزّل القلب منزلة خاصة، بخلاف الكلى والرئة مثلا. والمشكل الحساس هنا هو القرار الذي يتخذه أقارب هالك لم يُستشر في حياته، وهو كذلك السؤال الذي يلقى عليهم وهم في حال من اللوعة والأسى، ليعطوا إجابة بعجالة أمام جسد مسجى، هذه الوضعية تطرح في الواقع قضية مجتمعية، أن نهب الحياة، أو الأمل في الحياة، أن نعطي شيئا ثمينا بلا مقابل وبشكل مجهول، هو نوع من الأثرة المطلقة، البطولية والسرية، التي تخالف تماما ما يزفره المجتمع يوميا”.

    الثلاثاء، 8 أغسطس 2017

    المسرح التجاري والكوميديا الموسيقية

    مجلة الفنون المسرحية

    المسرح التجاري والكوميديا الموسيقية

    ترجمة: المدى 

    اعجب لماذا تأثرت كثيراً بتلك الدرامات التي تقدم بالدرجة الرئيسة في المسارح الكبيرة والمسماة (المسرح التجاري) مسرح (نو) و(كيرغن) و(بدنراكو) و(الكابوكي) امثلة للكلاسيكيات المسرحية اليابانية والتي مازالت على قيد الحياة عبر الأزمنة المتغيرة لقد كانت موضع تقدير فعلي مع المسارح الجديدة الأخرى الموجودة في اليابان. حقاً فإن تلك المسارح التقليدية هي مسارح جيدة ولكن من الصعب اعتبارها كونها تمثل زماننا هذا.   

    تقدم الدرامات التجارية وهدفها الأساس لتسلية الجماهير الواسعة تقدم في المسارح الكبيرة والتي تشجعنا على تسميتها درامات حديثة منذ أن سمينا (شينغيكي) والمسارح الصغيرة بالاسم نفسه، ويفترض أن (شينغيكي) قد تأصلت في الأدب واعتبرت المسارح الصغيرة وحركتها كونها باغية. لا استطيع أن انزع عن تفكيري أن المسرح التجاري يخسر كثيراً شخصيته التي تمثل التعبير عن العصر الحالي. 
    وحينما اعود الى الماضي تراودني الفكرة نفسها، موضوعات المسرح التجاري الحالي نادراً ما تتعرض للمجتمع الحديث نفسه، ويبدو ان هناك ميلاً متعاظماً لأن لا تمثل الدراما التجارية المصاعب الكامنة في المجتمع الحديث، ويبدو انها توقفت عن اعتمادها على الاخلاقيات الحديثة الواضحة واخذت مسارحها تمسرح نوعاً من القصص الدرامية تخص الماضي. هناك تحوّل متعاقب في جميع الحقب الزمنية. ويبدو أن زمننا بشكل خاص في مرحلة تحول، ولا يستطيع أحد منا ان يعبر دراماتيكياً عن الأوجه المختلفة للمجتمع الحديث وبفهم عميق.. ومن الأفضل كتابة قصة درامية تحيلك الى الماضي ولنا عنها وجهة نظر مقبولة سلفاً لأن مثل هكذا قصة ليس فيها الا القليل مما هو مرغوب فيه، وعندما نأخذ بنظر الاعتبار اتجاه صفة المسرح فإن المسرح التجاري الياباني يحاول نوعاً ما أن يتجاوز مصاعب المرحلة الانتقالية حيث يزيد ويراقب التغير الزمني. 
    عند إلقاء نظرة على السنة الماضية نستطيع القول ونحن بمأمن بأن (الممثلين القادة) وقلة من النجوم تم ترشيحهم للعمل وساندتهم الادارة المستقرة والمتعاقبة لتقديمهم في المسارح الكبيرة.. على سبيل المثال فقط ظهر (يا مادا أيسوزو) في مسرحية بعنوان (ذكريات بودو) فقط وهكذا غيره من اولئك الممثلين المعروفين. 
    وقد يكون حقيقة أن التقديم المتكرر أو التكرار intermittent  يحصل بسبب افتقار المسرح الياباني الى نظام العروض الطويلة الأمد (وهي من صفات المسرح التجاري). 
    ومن ناحية أخرى، ليس لدينا إلا القليل من الاعمال الجديدة والقليل من كتاب الدراما الذين يجهزون المسارح الكبيرة بالأعمال الجديدة، وعليه فإن المسارح التجارية تعاني من ذلك الافتقار. 
    وتعتمد قيمة المادة المسرحية على مدى تقديمها قيماً معتبرة مضافة على سبيل المثال فإن مسرحية (فتاة مضحكة) ادتها (موري) قد حققت تقدماً وتجاوزت عروضها الأولى الاصلية. وقد اظهرت الممثلة (موري) نموها عبر تمثيلها مع الممثل (اشيا غانوسوكي) حيث أدت دوراً انثوياً كوميدياً جاهزاً للبطلة التي توفيت في النصف الأول من مرحلة (شودا). 
    البعض من الدرامات المكررة تم اصلاحها واخذت شكلاً جديداً، وعلى سبيل المثال مسرحية مثل (صرفاً في الربيع) كانت من الروائع ومع ذلك فقد اعيدت صياغتها بشكل مسرحية تاريخية، كما تم تحديث نسخة من مقطوعة من مسرح الكابوكي التقليدي بعنوان (زهرة في الظلام) ولكنها لم تحدث ايّ تأثير درامي. بحسب تقديرات الجمهور، فإن القليل من الاعمال الجديدة نالت درجة عالية وذلك بسبب بلادة السنة الماضية وركودها.. مع ذلك فقد جذب كاتب جديد هو (هوريكوشي شين) انتباه الجمهور المسرحي بمسرحيته (جنون في مدينة قديمة) ومسرحيته الأخرى (حياة في قطار متفرقع) وعرضت المسرحيتان من غير ادعاء بكسر بلادة المسرح التجاري المتأصلة، وكانت هناك محاولات مماثلة استحقت الثناء واعتبارها محاولات لتقديم اعمال ناجحة في المسارح الكبيرة لجمهور واسع. 
    كانت الكوميديات الموسيقية هي العمود الفقري للمسرح التجاري (لم يطرق المسرح التجاري عندنا ذلك الباب إلا مع (سيدتي الجميلة) من مسرح النجاح من اخراج (محسن العلي). ومن الملاحظ أن عدداً من الكوميديات الموسيقية المترجمة عن الانكليزية أو المقتبسة من المسرح الاميركي قد نجحت تجارياً في اليابان بعد أن استمرت عروضها لمدة طويلة ومنها سأذكر ثلاثاً:
    الأولى، مسرحية (قطط) قدمتها (فرقة شيكي المسرحية) في مسرح خاص من مدينة (فوغويا) لمدة سنة كاملة، وأعيد عرضها لألف وخمسمئة وتسعين مرة بعد أن قدمت في (طوكيو) لجمهور تعداده اكثر من مليون وستمائة الف متفرج، وقدمت مسرحية (التعساء) لمدة ثلاثة اشهر هذه السنة واعيد عرضها لخمسمئة واثنتين وتسعين مرة منذ عام 1987 واستذوقها نحو مليون متفرج، اما المسرحية الثالثة فهي (شبح الأوبرا) فقد اعيد عرضها لأربعمئة وتسع عشرة مرة منذ عام 1988 وبلغ تعداد جمهور ما يزيد على الأربعة والخمسين ألفاً.
    هناك ايضاً عدد من الكوميديات الموسيقية قدمتها فرق اجنبية في اليابان تولى انتاجها مستثمرون وعرضت تلك المسرحيات لمدد طويلة ومنها (سيدتي الجميلة) و(كان كان) و(سيدات محبطات) ومن الجهة الأخرى هناك اتجاه متنامٍ لتقديم فنون العرض كأحداث مسرحية مثل اوبرا عايدة واوركارمن ومثل هذه الحقيقة تعكس رد فعل ضد انتعاش المسرحيات الاعتيادية في المسرح التجاري القديم.
    أود ان اعطي أمثلة قليلة أخرى عن عروض مسرحية لمسرحيات كوميدية موسيقية مترجمة الى اليابانية، (رجل من لامانجا- دون كيشوت) و(الملك وانا) اخرجهما (توهو)، و(عيسى المسيح الأسمى) اخرجها (شبكي) ويبدو أن (توهو) يبحث عن حل وذلك بالعودة الى العصر الذهبي للمسرح التجاري. وكوميدياته في اليابان هناك بالطبع، حركة متنامية باتجاه كوميديا موسيقية يابانية ولكنها مازالت تقع في اخطاء، ومن الحلول التي توصل اليها (توهو) هو الجمع بين الكابوكي الياباني والاوبرا الصينية حيث ستكون فيها تسلية جيدة، ومن جهة أخرى وجد من الضروري العودة الى توظيف النجوم من الفنانين في المسرحيات التجارية لغرض جماهير اوسع من المعجبين بأولئك الفنانين، وذلك لمحاولة اقناعهم للظهور في الكوميديات الموسيقية بعد أن كانوا يرفضون ذلك.

    مسرح الغرقى والمنكوبين

    مجلة الفنون المسرحية

    مسرح الغرقى والمنكوبين 


    حبيب سروري - ضفة ثالثة 


    منذ 2015، يتجه عشرات آلاف الهاربين من حروبِ وطغاةِ أوطانهم (من أفريقيا حتى أفغانستان، مرورًا بسورية)، نحو البحر الأبيض المتوسط.
    للوصول إليه، يعبرون "دروباً صليبيّة" يذوقون خلالها كل الأهوال، بما فيها الاغتصاب والتعذيب أحيانًا، أو البيع في "سوق العبيد". 

    ثمّ يدفعون آلاف الدولارات (كلّ مدخرات حيواتهم) لِمُهرِّبين جشعين قراصنة، يرمون بهم وسط مراكب مهترئة، يختفون فيها داخل ثلاجات تبريد بجانب سمكٍ ولحومٍ مثلّجة، أو يقفون فيها مرتصين كأسنان المشط، لا يستطيعون المشي خطوة واحدة لقضاء حاجة، قبل أن يتبعثروا بين أمواج البحر الأبيض المتوسط الذي أضحت طيّاته العميقة اليوم مقابر تضمّ أكثر من عشرة آلاف لاجئ، منذ 2014.

    "اللاجئون لا يجيدون السباحة"، كما يقول عنوان فيلم، على يوتيوب، يحوي شهادات لاجئين تعصر الروح، وتدمي الكبد.

    يصل بعضهم أخيرًا إلى القارة العجوز التي اخترع فيها الإغريق مفهوم الديمقراطية، وابتكرت فيها الثورة الفرنسية مفهوم "حقوق الإنسان" وشعار "حريّة، مساواة، أخوّة" (الذي امّحتْ منه الكلمة الثالثة كما يبدو، إن لم تطمر في القاموس أيضاً).

    يقول المخرج المسرحي البلجيكي الفلامندي الكبير جي كاسييرس، مخرج مسرحية: "حدود"، (Grensgeval بالهولندية)، ومدير مسرح مدينة أنفير البلجيكية:

    "اللاجئون هم الأوروبيون الأخيرون" المؤمنون وحدهم بهذه الشعارات الأوروبية الإنسانية (التي نساها غالبًا، أو تنكّر كثيرا لها، الأوربيون أنفسهم)، وهم يتّجهون إلى أوروبا، باعتبارها ملجأ الإنسانية المعذّبة الضائعة.

    في كل لاجئٍ عولس، ولكل لاجئ أوديسيا عبوره المتوسط.

    ولهم جميعا حلمٌ واحد: الوصول إلى إيتاكا، جزيرة عولس، حيث تنتظره زوجته بينيلوب: أوروبا.



    مسرحية "حدود"، التي نالت أعجابًا كبيرًا في مهرجان أفينيون 2017، مستخلصةٌ من وحي نصّ أدبيٍّ للهولندية إلفرييد جيلينِك، الحائزة على جائزة نوبل، كتبَتهُ في عام 2013، قبل انفجار تراجيدية اللاجئين بعامين.

    تنبأت عبره بتراجيديا الهاربين إلى أوروبا عبر المتوسط، وما زالت تواصل إثراءه يوميًا في "بلوغ" لها على الإنترنت.

    لعلها الصوت الإنساني الأهم دوليًا، المسكون بهذه التراجيدية.



    اللجوء عبر المتوسط إلى أوروبا تحدٍّ هائل يواجه القارة العجوز اليوم. تنحدر المواقف إزاءه من أقصى الإنسانية، إلى أقصى اللاإنسانية.

    في أقصى المواقف الإنسانية المضيئة، ثمّة سفن المنقِذين المتطوِّعين، مثل أكواريوس الأوروبية، التي أنجتْ من الغرق أكثر من 21 ألف لاجئ حتى اليوم، منذ مزاولة عملها الإنقاذي في 7 مارس 2016 (الذي أنقذت حتى نهايته 13991 لاجئ).


    تُمشِّط هذه السفينة البحر المتوسط، ليل نهار. تتوّزع مراكبها وتجول عدسات نواظير مُراقيبها أرجاءَ البحر في كل الاتجاهات، بحثًا عن اللاجئين.

    تصرف يوميا 11 ألف يورو، ثمن استئجارها وحاجاتها، تأتي 99% منها من تبرعات المواطنين الأوروبيين فقط، و1% منها، لا غير، من مصادر حكومية.

    تضمّ السفينة طواقم طبية، مترجمين، فرق إنقاذ، بحّارة، جميعهم من المتطوعين الأوروبيين.


    تسكنهم جميعا صدمةُ لحظة مواجهة اللاجئين، وما يسمّونه: "رعب النظرة الأولى". أمّ الصدمات. حياة المنقذِين وليالِيهم مهووسة بذكريات تلك اللحظة، تلك النظرة.

    تبدأ بعدها أصعب المهام التي تواجه المنقذِين والأطباء: تعويد اللاجئين على سماع كلمات مثل: "أهلاً"، "السلام عليكم"، "صباح الخير"، "عفواً"، وإعادة شعورهم بوجود روح الأخوّة والتعاضد على هذه الأرض، وإمكانية استعادة الكرامة فيها، عبر التعامل معهم بإنسانية لا غير، بعد أن كفروا قطعاً بالإنسان!

     عديدة حالات النساء الحاملات اللواتي أنجبنَ في السفينة بعد الإنقاذ مباشرة، أو المرضى والغرقى الذين نجوا من الموت بأعجوبة لا تُصدّق.

    وفي أقصى المواقف غير الإنسانية، تقع ردود اليمين المتطرف التي تعرقل هذه السفن بسفنٍ مضادة، لتمنعها من الإنقاذ وضيافة اللاجئين، بحجة أن أوروبا "لا تتسع لكل هموم العالم"، وبذريعة مقاومة "غزو المهاجرين لأوروبا" و"كبح جماح مدّ الهجرة".

    وكذلك بعض مواقف الحكومات الأوروبية الجبانة التي تُفضِّل تقديم المساعدات أحيانًا للفرق العسكرية في حدود شمال أفريقيا، أو المليشيات والعصابات المسلحة، لِحثّها على منع سُفن المهاجرين من الوصول إلى حدود أوروبا، مع علم تلك الحكومات بما يمارسه هؤلاء العسكر والمسلحون من عنفٍ ضد اللاجئين، واغتصاباتٍ فظيعة أحيانًا.

    بين القطبين الإنساني واللاإنساني، تتموضع كل المواقف الأوروبية الأخرى من قضية اللاجئين؛ بدءاً بتلك التي تحاول أن تتناسى تراجيديات غرقى المتوسط ومنكوبيه، أو تتهرب من مساعدتهم، إلى تلك التي تحيد النظر، تزيغه، لِتقفزَ إلى مواضيع أخرى عند الخوض فيه.



    تتمحور مسرحية "حدود" حول موضوع اللاجئين إلى أوروبا عبر الأبيض المتوسط، وحول موقف المواطن الأوروبي منه.

    لا تبحث المسرحية عن إسالة دموع المُشاهد، أو هزّ مشاعره. همُّها أن تتداخل كل الأصوات وزوايا النظر من هذه القضية، على نحو تعدّدي متوازٍ، في صيغة إبداعية متميزة عبقرية.

    تخلو ساحة المسرحية من سفينة أو بحر. تملؤها أكداس من الممثلين، تختلط أجسادهم كالدود، تلتصق وتتماوج. يعلوهم قضيب أفقي ضخم، يجبرهم على الانحناء ويمنع أجسادهم من الحركة.

    ما أصعب منع راقصي فريق مدرسة الرقص الملكية الشهيرة لمدينة أنفير من الرقص!

    في ركن المسرح، أربعة أوروبيين على طاولة، يراقبون من بعيد حركة تلك الأجساد الساكنة جدًا.

    من هم؟ أربعة أصوات أوروبية؟ أعضاء سفينة إنقاذ؟



    عبارات المسرحية تصل آذان المُشاهدِ كالمسامير.

    أحد الأربعة: "لو كنتُ مثلهم لا أعرف السباحة، لما ركبتُ السفينة!".

    آخرُ يأخذ للاجئين وهو يراهم من بعيد صورةً يُرَّكِنها في زاوية في الآيفون.

    ألوانٌ داكنة في كل المسرح. جداره الخلفي مرايا ضخمة ترتسم فيها، بتماوجٍ مائي وانحرافاتٍ واعوجاجاتٍ فنيّة، أجسادُ اللاجئين، وأوجه المشاهدين الأربعة. تمتلئ الشاشات حينا بوجهٍ فقط، بنظرات تعبيرية حادّة تهزّ المشاهد، أو بمسحٍ بانورامي يستوعب كل المشهد حينا آخر.

    الشاشات سيلٌ من رعشات درامية لا تتوقف.

    بعد مرحلة عبور البحر، تبدأ اللحظة الدرامية الأشد خدشاً: اللقاء وجهًا لوجه بين اللاجئين والمشاهدين الأربعة. السواد يطمّ المسرح وملابس الممثلين.

    عبارات مثل: "تمّ استثلاجي في ثلاجة تبريد"، أو: "بعد إخراجي من وضعي الثلجي" تُجمِّدُ قلب المشاهد.

    الشعور العام بالخجل سيد الموقف.

    ثمّ المرحلة الثالثة الأخيرة: بدءُ حياة جديدة في أوروبا لهؤلاء اللاجئين، تُلخِّصها عبارة صمّاء: "نحن هنا، ونحن لسنا هنا".

    حينها تختلط حيوات المشاهدين الأربعة بحيوات اللاجئين، وتتوحد أصواتهم ورجفاتهم جميعًا بِرجفات مُشاهد المسرحية.

    قبل مهرجان أفينيون، كانت هذه المسرحية قد مُثّلت في كنائس وساحات أوروبية، وقام أحيانًا بالتمثيل فيها لاجئون حقيقيون، حكى كل واحد فيها ما ذاقه شخصيا من آلام.

    تجدر الإشارة أيضاً إلى أن فريقًا من خمسين لاجئاً قَدّم عرضاً في مهرجان أفينيون 2017. بالإضافة إلى مسرحيات أخرى مسّت قضايا اللاجئين، وندوةٍ في "ورشات الفكر" في المهرجان كُرِّست للنقاش حول تراجيدياتهم. ضمّت مُنقذين، أطبّاء ولاجئين.

    الأحد، 6 أغسطس 2017

    مسرحية "سوبرو": ذاكرة الكواليس المنسية

    الجمعة، 4 أغسطس 2017

    «عندما تحدث أخطاء في المسرحية» الكوميديا القادمة

    مجلة الفنون المسرحية


    «عندما تحدث أخطاء في المسرحية» الكوميديا القادمة


     أحمد ناصر - القبس

    ماذا يحدث عندما ينسى أحد الممثلين على المسرح جملة من النص أثناء العرض؟ أو حين يفتح أحدهم بابا فيخلعه بيده؟! وماذا يمكن أن يحدث حين يسقط جزء من الديكور على الخشبة، هل يكمل الممثلون العرض، أم يوقفونه بسبب هذه الأخطاء التي وقعت فيه؟ هذه هي قصة مسرحية «عندما تحدث أخطاء في المسرحية» The Play Goes Wrong، من تأليف هنري لويس وجوناثان ساير ومن إخراج هنري لويس.
    الفكرة غريبة.. وهذا هو سر كمالها وروعتها، أخذت فكرة المسرحية من قصة قديمة لجريمة قتل وقعت في أحد ضواحي لندن سنة ١٩٢٠، وكانت أخطاء المخبرين يومها وإفسادهم لمسرح الجريمة هي التي دلّت المخبر الشهير شيرليك هولمز في التوصل إلى المجرم، وبالفعل نجحت الشرطة في القبض عليه، من هذه الفكرة استمد لويس وساير فكرة هذا العمل.. التي تبنى على فكرة أخطاء تقع أثناء تقديم المسرحية، فينكسر الباب وتقع الثرية الكبيرة وسط المسرح، وينسى أحد الممثلين النص ويغمى على بطلة العمل بسبب خطأ من زميل لها في المسرحية، فيضطرون للاستعانة بخبيرة الماكياج التي تمسك النص معها وتمثل.. فوضى عارمة تنتهي بسقوط جدران الديكور كله وينتهي العرض، ولكن بعد أن يصمم فريق العمل على إكمال العرض إلى النهاية رغم كل شيء!
    الفكرة جديدة على المسرح، وكأنه مسرح الواقع كما في تلفزيون برامج الواقع.. استخدم فيه الممثلون مهاراتهم في التعبير عن استغرابهم ودهشتهم للأحداث التي وقعت، وجذبوا المشاهدين معهم في هذه الدهشة بعيدا عن التكلف والتصنع، وهذا يحتاج إلى مهارة عالية ليس في الأداء فحسب، بل في التعامل مع الأحداث المفاجأة كسقوط الديكور أو ظهور ممثل في غير مكانه من غير ميعاد.
    حصدت المسرحية جوائز عديدة منذ ٢٠١٤ في مهرجان برادوي وأوليفر الدولي وأفضل ما يعرض Whats On Stage، جميعها كانت كأفضل عرض وأجمل كوميديا وأحدث قصة، ولكن أطرفها كانت جائزة «أفضل موسيقى»، مع أنه لا توجد فيها موسيقى(!) ولكن مهرجان برادوي الذي شاركت فيه في هذا العام ٢٠١٧ قرر أن يعطيها أجمل موسيقى على اعتبار أنها استخدمت موسيقى طبيعية وهي أصوات الديكور وسقوط الأبواب وصرير الخشب وأصوات الضحكات، كل هذا كان يستخدمه الممثلون كمؤثرات صوتية للحدث فوق الخشبة.
    ترجمت المسرحية رغم صغر سنها (٥ سنوات) إلى عشرين لغة، كما ذكروا في بداية العرض، وسألت المخرج لويس بعد العرض عن اللغة العربية، فقال إنهم يرحبون بالفكرة وينتظرون من يتفقون معه حول هذا الموضوع.
    مسرح دوتشيز Duchees Theatre وسط لندن يقدم العرض حاليا، المسرح صغير جدا ولا يتسع لأكثر من ٢٠٠ شخص، ولكنه كان رائعا في تقنياته وإضاءته وصوت العرض، واعتبر الكثير من النقاد المسرحيين في بريطانيا هذه المسرحية نقلة مهمة في المسرح -آراؤهم معروضة في أروقة المسرح- ولا أجمل من أن تشاهد فكرة جديدة بعيداً عن المألوف في عالم المسرح الكبير.

    الاثنين، 31 يوليو 2017

    مهرجان أفينيون المسرحي الحادي والسبعون ينتصر للمرأة

    مجلة الفنون المسرحية

    مهرجان أفينيون المسرحي الحادي والسبعون ينتصر للمرأة

    محمد يوسف - العرب 

    مضى شهر يوليو، وودعت أفينيون آلاف المسرحيين بعد التقاءات، على مدار الشهر الماضي، في فعاليات الدورة الحادية والسبعين من مهرجانها المسرحي الشهير. والذي يعرف مدينة أفينيون خارج أيام المهرجان، يدرك أن المدينة أثناءه تلعب دوراً آخر؛ تصير فضاءً مسرحياً يشغله ممثلون وعازفون ومهرجون ومتفرجون، على عكس الكآبة والرياح اللتين تشغلان أزقة المدينة خارج أوقات المهرجان.


     اختتمت الدورة الحادية والسبعون من مهرجان أفينيون المسرحي بمدينة أفينيون الفرنسية، الذي تشارك فيه فرق مسرحية تدعى من مختلف أصقاع العالم، حيث يحاول المهرجان دعوة أبرز الإنتاجات المسرحية الفرنسية والعالمية إلى فعالياته.

    حققت هذه الدورة من المهرجان أرقاما مهمة في عروضه الرسمية “الإين”، فقد بلغت مجمل العروض المشاركة في هذه الدورة 59 عرضا، وبيعت فيه 112 ألف تذكرة دخول، بينما وزعت بالمجمل 152 ألف بطاقة دخول، إذ هناك بعض العروض المجانية.

    إضافة إلى العروض الرسمية كان الجمهور على موعد مع عروض “الأوف” أفينيون الذي انطلقت دورته الأولى في عام 1969 متأثراً بروح الـ68 وبات مع مرور السنين يقترب أكثر من روح المؤسس جان فيلار الذي كان يرى المسرح خدمة عامة كالغاز والكهرباء والماء. ويسمح الأوف للجميع بالعرض وكثيراً ما تتحمل الفرقة المشاركة أعباء التكاليف ومهمة اجتذاب الجمهور، وقد تجاوزت عدد الأعمال المشاركة هذا العام الألف عمل.

    عروض متنوعة

    تحت عنوان “المرأة القوية” وبإشراف وبرمجة المدير الفني للمهرجان الرسمي الكاتب والمخرج أوليفيه بي، الذي يشغل منصبه منذ أربعة أعوام، قُدمت في دورة هذا العام عروض تميزت بتنوعها الجغرافي وبتنوع موضوعاتها وتعدد الهويات الفنية لصناعها. كما تجدر الإشارة إلى أن دورة هذا العام شهدت حضوراً ملحوظاً للأعمال القادمة من القارة الأفريقية وبخاصة العروض الراقصة، حيث عرضت ستة أعمال من مالي وساحل العاج ورواندا وبوركينا فاسو وجنوب أفريقيا. أما عن المشاركات العربية في البرنامج الرسمي، فاقتصرت على عمل “بكيت دمعاً من دون عين” للكريوغراف التونسي رضوان المؤدب، الذي عمل مع عشرة راقصين، ورسم حركتهم على موسيقى الأغاني التراثية التونسية التي أداها الفنان محمد شبيل.


    سيتحولون إلى أشباح في البيت السجن
    وفي الحديث عن أبرز سمات دورة هذا العام، نلاحظ غياب الأسماء البارزة التي كانت تتواجد بشكل مستمر في المهرجان كتوماس أوسترماير ووجدي معوض وساشا فالس وروميو كاستيلوتشي وغيرهم، وذلك على حساب حضور أسماء أخرى شكلت روح دورة هذا العام كـ: تياغو رودريغيس، وكيتي ميتشل، وسيمون ستون، وسوتاشي مياغي، وغيرهم.

    بالتوازي مع الثيمة الرئيسية للمهرجان، كانت البداية من اليابان مع عرض “أنتيغون” الذي كان بمثابة تحفة بصرية قدمت في ساحة الشرف داخل قصر الباباوات (المسرح الأبهى في أفينيون). في عرض المخرج سوتاشي مياغي ستكون المملكة الإغريقية عائمة على سطح من الماء، وعليها تتوزع كتل الممثلين والعروش والموسيقيين الذين يؤدون تراجيديا سوفوكليس. لا تعديلات كبيرة على النص الأصلي، إلا أن الخشبة تم تجهيزها لتبدو الحكاية وكأنها تروى ضمن مشهد طقسي غير منته، الفضاء أشبه بمعبد كبير تشغل الظلال خلفيته الكبيرة، كما خففت رشاقة حركة الممثلين من هول المأساة المقدمة.

    حاول المخرج الياباني الاستفادة من جماليات الرؤية الخاصة التي توفرها ساحة الشرف في قصر الباباوات، ذاهباً نحو الأقصى في التجريب للاستفادة من موروث ثقافته البصري والموسيقي، موظفاً في المسعى ذاته القدرات الصوتية الهائلة لممثليه لتبدو أنتيغون وكأنها حكاية يابانية أساساً.

    أحد اكتشافات “أفينيون” لهذا العام، كان الاسترالي سيمون ستون (32 عاما)، مخرج فيلم “الابنة”(2016) المأخوذ عن مسرحية “البطة البرية” لهنريك إبسن. قدم ستون عمل “IBSEN HUIS” المأخوذ عن أعمال الكاتب النرويجي ليروي باللغة الهولندية، وعبر ساعات أربع تقريباً، حكاية تمتد من ستينات القرن الماضي حتى لحظتنا الراهنة يندد فيها بالنفاق الاجتماعي والرياء الذي يحيط بكل المجتمع وبالقضايا التي شغلت كاتب “بيت الدمية”.

    عبر ديكور شديد الواقعية شغل الزجاج جزءًا كبيرا منه، زج الشاب الاسترالي بأبطال إبسن داخل ذلك البيت (السجن) ليتحولوا مع مرور العرض إلى أشباح تعيد قراءة إبسن ضمن إحداثيات اللحظة الراهنة من عالم اليوم.

    نساء ثائرات

    جاءت دورة أفينيون هذا العام لتقدم صورة للمرأة يتقاطع ويتداخل فيها السياسي مع الاجتماعي والثوري، سواء أكانت هذه البطلة متواجدة في المأساة أو في النصوص المسرحية الشهيرة أو في واقعنا السياسي المعاصر (كالعرض الذي كتبت نصه وزيرة العدل السابقة كريستيانا توبيرا).

    على النحو السابق تتبعنا حكايات بدأت ولم تنته مع آخر ستار أسدل في المهرجان “أنتيغون” الذي تعد بطلته أولى الشخصيات النسائية الثائرة في التاريخ حيث دعت إلى تحدي السلطة والقوانين والأعراف المعمول بها، مروراً بنورا هنريك إبسن التي شكلت ركلتها لباب بيتها وقرارها بالخروج إحدى بدايات الطريق لتحرر المرأة في القرن الماضي، وليس انتهاء بكريستينا فيدال العاملة بالمسرح (ملقنة) والتي أخرجها البرتغالي تياغو وردريغيز لتروي عن هامش سكنته خلال ربع قرن في الكواليس.

    الأحد، 30 يوليو 2017

    هنريك إيبسن في صيغة أسترالية وموليير ألماني

    مجلة الفنون المسرحية

    هنريك إيبسن في صيغة أسترالية وموليير ألماني

    أتى عملٌ آخر مهم للمخرج الأوسترالي الشاب سَيمون سْتُون يطرح مسألة الأسرة والإرث بطريقة حادّة. ونصّ المسرحية عبارة عن ملخَّص لمسرحيّات هنريك إيبسن، الكاتب النروجي الذي عاش في القرن التاسع عشر. وهو يستخرج من بعضها شخصيات يحمّلها سيناريوات جديدة تتبلور من خلال العمل مع الممثلين، والممثلون هنا فرقة تونيلغروب أمستردام، وهي من أفضل الفرق الأوروبية. ومن المعلوم أنّ إيبسن قد أولى أهميّة قصوى في مسرحيّاته للمآسي العائلية وللأسرار المكتومة التي تمنع الفرد من التحكّم بمصيره. وقد أتى السرد كأنّه المقابل العصري الغربي للعنة عائلة الأتريد اليونانية التي تنتقل من جيل إلى جيل. والشخصية الرئيسية في المسرحية هي المكان، هو بيت حقيقي موضوع على الخشبة ركائزه من خشب وحيطانه من زجاج، بيتٌ شفّافٌ ترى فيه كل شيء، يشعّ كمصباح في الظلام. والبيت موضوع على محور يدور عليه طوال العرض، يسمح بذلك من رؤية غرف مختلفة فيه كما يسمح بخاصة بتنويع وجهات نظر السرد. والاستعارة واضحة فالمسرحية – التي عنوانها تحديداً «بيت إيبسن» - ليست إلا للبوح عن أحداث مرعبة مكتومة جرت في هذا المكان سمّمت مصائر أهله. هذا البيت الذي نال جائزة لهندسته المرهفة قد بناه كِييس في اوائل الستينات كي يكون مكاناً للعطلة والترفيه لعائلته. وكييس شخصيّة لامعة ومعقدّة معاً، مهندسٌ معماري بارع وغولٌ كتوم نسج علاقة جنسية حميمة مع ابنته المراهقة ومارس الزنا مع طفلات أخرى من العائلة. وارتكابه زنا المحارم هذا يأتي باللعنة على العائلة التي تتخبط جيلاً بعد جيل في ويلات لا نهاية لها. والمسرحية ليست إلا مواجهة بين الشخصيات يبوحون فيها بأسرارهم الشنيعة التي طال كتمانها، يمزّقون بعضهم بعضاً ويتمزقون بلا هوادة، في سرد لاهث لا يخضع لخطّ زمني مستقيم بل ينتقل بين التواريخ. أما الأداء، فهو مثالٌ للدقّة والحذق والتناسق بين الممثلين والقدرة على التعبير عن أقسى المشاعر بأوجز الوسائل. هنا لا صراخ حادّ، لا مبالغة، بل كلمات وإشارات تخرق في الصميم. والمسرحية التي تنقسم إلى ثلاثة مشاهد تنتقل، على عكس دانتي، من الجنّة إلى المطهر فإلى الجحيم وتنتهي مع ألسنة النيران تلتهم البيت فلا خلاص... «وقد يأتي لاحقاً من لا يعلم قصة البيت فيعجبه المكان والشاطئ والمنظر الخلّاب ويبدأ قصة جديدة...».

    الفن والسلطة
    الفنّان المسرحي والسلطة في أناشيد تمجّد المسرح وصنّاعه: موليير والباريسيون وبرز في هذه الدورة عملان مسرحيَّان مهمّان يتناولان صلة الفنان بالسلطة، أوّلهما عمل المخرج الألماني فرانك كاستورف، وهو أحد أهم المخرجين الألمان جعل من الفولكْسْبون (أي المسرح الشعبي) البرليني الذي كان مديراً له منذ خمسة وعشرين عاماً مسرحاً أساسياً في أوروبا. هذا العمل الذي ينقل إلى المسرح سيرة موليير كما قدّمها الأديب الروسي بولغاكوف في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، في كتابَين له عن الفنان المسرحي الفرنسي، هذا العمل يعير اهتماماً خاصاً بعلاقة موليير المعقدة بالملك لويس الرابع عشر الذي حماه من جهة ضدّ المتديّنين والنبلاء، كما أنّه، من جهة أخرى، منع بعض عروضه لمجاراة القوى الاجتماعية الرافضة لها. والمسرحية التي تسخر من حمق السلطة السياسية ومن هشاشة الفنّانين وقابليّتهم للعطب نشيدٌ يدافع عن مسرح لا يخضع لقيود المموّلين والسلطة السياسية، وهي تجمع في خطٍّ واحد موليير وبولغاكوف الذي يدين إلى ستالين وحده المرات النادرة التي استطاع فيها أن يقدّم مسرحياته على الخشبة، وكاستورف الذي نَحَّتْهُ مؤخَّراً سلطات برلين الإدارية عن إدارة الفولكسبون، ممّا أثار احتجاجاً واسعاً في ألمانيا. وقد ربط كاستورف في تقديمه عمله بين تنحية سلطات برلين الإدارية له وعمله هذا.
    وبالطبع أهمية «رواية موليير» هذه تكمن في فنّ كاستورف، بل لنَقُل في عبقريّته المسرحية التي تتجلّى هنا في عملٍ كل مواصفاته عملاقة: عمل من ست ساعات تقريباً تحت قبّة شاهقة في ساحة قصر العروض الشاسعة حيث تبدو عناصر السينوغرافيا، قياساً، صغيرة - ومنها مسرح خشبي قديم ينتقل على عجلاتٍ وغرفة الملك لويس الرابع عشر التي تكثر فيها الرموز المشيرة إلى الممّولين،- ساحة شاسعة حيث يعدو الممثلون فيبدو كفاحهم في سبيل مسرح حرٍّ، عدواً نحو هدف صعب المنال. وكاستورف الذي يُدخل في نصّ بولغاكوف نصوصاً أخرى مستقاة من مسرحيات راسين وكورنيل وموليير ونصاً لفاسبندر، قاطعاً بذلك حبل السرد، يطلب من ممثليه التزاماً جسديّاً كلّياً ويعتمد على الفيديو الذي يلتقط وجوههم تتلوّى وتكشّر وتبتسم في مبالغات تعبيرية بعيدة عن الحسن الذي يقود الجمالية السينمائية. ولهذا العالَم العملاق فنّانوه العمالقة الذين يفرضون الإعجاب وأولهم الممثلّة الفرنسيّة جان بَالِيبار التي تلعب دور مادلين بيجار، رفيقة موليير، وتبدو جوهرة تتألّق في أناقة أداء لا تني على رغم الأهواء العاصفة، والفنّان الفرنسي جان-داميان باربين الذي يتألق في أصالته مهما كانت المبالغة، كما يتألق في دقّة أدائهما الفنّانان الألمانيان ألكسندر شيير في دور موليير، وجورج فريدريك في دور لويس الرابع عشر.
    أما العمل الثاني الذي هو نشيد نابض بالحياة يشيد بالمسرح، فهو عمل الفنّان أوليفي بي الذي نقل فيه إلى الخشبة روايته «الباريسيون» المنشورة عام ٢٠١٦. والمسرحية التي تدوم أربع ساعات تقريباً تروي مسيرة شاب طَموح يقدم إلى باريس من مدينة صغيرة بعيدة ويتعهّد أمام نفسه «فتح» العاصمة، على غرار راستينياك، بطل بلزاك في «الكوميديا الإنسانية»، حين يأتي إليها من دون أن يعرف أحداً فيها. هذا الشاب الذي يشبه بالطبع كثيراً أوليفي بي نفسه، يسلك مسيرة حافلة يواكب فيها وجوهاً من الدعارة مؤثِّرة في إنسانيتها العميقة، تبدو أكثر اهتماماً بالسياسة من السلطات الإدارية أو السياسية نفسها. وترى المسرحيّة أنّ كُنه الباريسيين هو خضوعهم للموضة، جواباً عن غياب الله وانهيار المثل السياسية العليا. ويتطرّق أوليفي بي في المسرحية إلى مواضيع هي في صلب عمله السابق، أورلندو، بل في صلب عمله بعامة، ومنها الحب المثلي وانفصام المرء في رغباته بين زهد ورغبة في ملذّات العالم، والعلاقة بالله والسخرية من السلطة السياسية – ومن وزير ثقافة قد تكون الثقافة آخر همّه. وقد لا يكون الجانب الأكثر جرأة في مسرحيّته تعرّي الممثلين ولا الكلام عن المثلية والجنس ولا سخريته من السلطة السياسية، بل قد يكون إدراجه في السيناريو بحث الشخصيّات الحثيث عن الله في مشاهد يتحاور فيها أكثر من واحد من الشخصيّات بشغف ولوعة مع راهب دومينيكي، وهو بحث تُسمع فيه أصداء صوت بول كلودل وغنائيته في «حذاء الساتين» وغيرها من المسرحيّات. فمَن من المخرجين الغربيين المعاصرين يمكنه الآن إدراج تساؤلات من هذا القبيل في أعماله المسرحية؟
    أمّا ديكور «الباريسيين» وأضواؤه فهو رائع الأناقة وهو من صنع بيار-أندري ڤايتز وقد حقّق هذا الفنّان كل ديكورات الأوبرا التى أخرجها أوليفي بي – فبي من كبار مخرجي الأوبرا الأوروبيين، إلى جانب عمله المسرحي. والديكور أرضٌ من مربعّات بيضاء وسوداء تمتدّ شبكتها على مدّ النظر - توحي المرايا بلا نهايتها – تنتصب عليها مباني الحجر الباريسية الهوسمانية المعروفة بأناقتها، ويرقص عليها أوريليان كما تتسارع عليها الأحداث، لاهثة الوتيرة، متلوّنة النبرة، طوال ساعات أربع تقريباً.

    رئة المسرح وفن الضيافة
    وثمة عمل ثالث هو نشيد بالغ الشاعرية يشيد بالمسرح وصانعيه وهو عمل للمسرحي البرتغالي تياغو رودريغيز، يدفع فيه إلى الخشبة مَن بقي طيلة حياته المهنية في حفرة تحت الخشبة. فقد أقنع المخرج البرتغالي الذي تسلّم عام ٢٠١٤ إدارة المسرح الوطني في ليسبونا، إحدى آخر ملقّنات الكلام في المسرح، كريستينا فيدال، أن تخرج من حفرتها وتروي حكاياتها على المسرح. وملقّن الكلام، كما نعلم، يهمس من حفرته الكلمة للممثّل الذي نسي نصّه خلال العرض. ومهنة ملقّن الكلام هذه تختفي تدريجيّاً من المسارح الأوروبية، وقد استبدلت الآلات التكنولوجية البشر في التلقين ودعم الذاكرات المتهافتة. والعرض ليس عرضاً وثائقياً بل هو تأمّل حول الذاكرة والنسيان وذاكرة الأمكنة وأنفاس المسرح ورئته الحيّة. ولم يتسنَّ لنا مشاهدة هذا العرض الذي أجمع الناس على ثنائه، ولنا إليه عودة عند مروره في باريس.
    وأتى عملان مسرحيان في القسم الثاني من المهرجان حملتهما دورة خِرِّيجي المعهد الوطني العالي للفنون المسرحية ليؤكدا اهتمام الفنّانين المحترفين بنقل المعارف والصنعة المسرحية إلى الشبيبة. أوّلهما عمل المخرج فرنسوا سرفانتيس وعنوانه: «كلار، أنطون، وغيرهم»، دفع فيه الفنانين الشباب، انطلاقاً من عمل دقيق على الذاكرة الجسدية وحدها، إلى استدعاء مَن طبع حياتهم من البشر من أهل القُربى أو من ذوي القرابة الروحية. فتجلّت على الخشبة جمهرة من الأشباح النابضة بالحياة وردت من كل أقطار العالم ومن قرون خالية بعضها يعود إلى القرن السادس عشر، كلٌّ يحمل حكاياته ومأساته، وبدا عمل سرفانتيس، الذي يرى أنّ فنّ الممثّل هو فنّ «حسن الضيافة»، عملاً شخصياً ذا براعة وحسّاسيّة مرهفة، فريداً في نظرة هذه الشبيبة المتفائلة إلى المستقبل، وهي نظرة تكاد تختفي من المسارح الغربية المعاصرة. أما العمل الآخر، فهو عمل الفنان كْلمَان ِإرْفيو-لِيجِي الذي أخرج عملين لموليير هما ردٌّ على الانتقادات الحادّة التي أثارتها مسرحيّته «مدرسة النساء»، يلعب فيهما موليير وفرقته أدوارهم الحقيقية فيقدّم أحدهما فرقة تعدّ نفسها لتمثيل مسرحية والآخر مشاهدين يخرجون خائبين من مسرحية «مدرسة النساء». إلا أنّ عمل إرْڤيو-لِيجِي لم يكن مقنعاً لصعوبة تصوير المسرح في المسرح، ولأنّه يفترض من المشاهدين معرفة حقّة بمسرحيّة «مدرسة النساء» وبالسياق الاجتماعي في عام ١٦٦٣.

    امرأة تنهض وتنطق في الظلمة
    فهذه هي بعض الخيوط وبعض المسرحيّات التي استوقفتنا في المهرجان. ولنا حديث آخر عن الطفولة وعن العروض التي عمادها الصورة لا الكلام. يبقى إنّ المهرجان – الذي يجمع «أقلية» هائلة من ١٢٠٠٠٠ مشاهد تصل إلى ١٥٠٠٠٠ مشاهد، إن حُسب جمهور العروض المجانية، ليس قائمة مشاهد إنما هو فرحة واحتفال قد تكون وجوهه الأساسية في هذه الدورة النساء. منهن المذهلات في أعمال باهرة منذ العمل الأول كالمخرجة كارولين جويلا نغوين في مسرحِيّتها «سايغون» ولنا إليها عودة في الأشهر المقبلة عند عرضها في باريس. وقد يلخّص روح المهرجان وشاعريّته عمل كريستيان توبيرا، وزيرة العدل في العهد السابق، بالتعاون مع المخرجة آن-لور لْيَاجْوَا، اللتين وضعتا وأحيتا مسلسلاً مسرحيًّا مجانيّاً سمَّيتاه «سوف ننال كلَّ ما يُنال» دار في حديقة سيكانو كلّ يوم عند الساعة الثانية عشرة، وحشد كل يوم جمهوراً حافلاً من المستمعين. وهو عبارة عن قراءة نصوص شعرية وأدبية - مستقاة من أكثر من ٦٠٠ نصّ - تضع اللغة والأدب في صلب المسار السياسي. فالمعارك السياسية الكبرى تعتمد على الكلمة وبلا كلمة لا نضال من أجل الحريّة والكرامة، كما يقول أوليفي بي. وقد تكون الصورة العلم لهذه الكلمة ولهذا النضال في هذه الدورة صورة امرأة تنهض وتنطق في الظلمة داعية إلى التخلِّي عن تقسيم الإنسانية تقسيماً قاطعاً ونهائياً إلى أصدقاء وأعداء، إلى أهل الخير وأهل الشرّ.


    ----------------------------------------------
    أفينيون  - جورجين أيوب  - الحياة تجريبي 

    الأربعاء، 26 يوليو 2017

    التعبير الحركي والعروض البينية والاستيعاب الطقسي لثقل العالم

    مجلة الفنون المسرحية

    التعبير الحركي والعروض البينية والاستيعاب الطقسي لثقل العالم

    د. صبري حافظ 

    لا يتوقف مهرجان أفينيون عن التطور، ليس فقط في استيعابه لما يمور به عالم الفنون المسرحية من تجديدات، وتقديمه أفضل ما في جعبتها من ابتكارات، ولكن أيضًا لملاحقته متغيرات الثورة الرقمية وما تتيحه من إجراءات. فمع أنني ما زلت أقاوم الهواتف الذكية، التي تمكن العالم بأخياره وأشراره من متابعة حامليها طوال النهار والليل، وقد تحولت لجواسيس أليفة تصاحب حاملها، وتستأثر بمعظم اهتمامه، حتى ولو كان مع أقرب الناس إليه، وتخبر من يريد معرفة كل حركاته وسكناته بما يريد؛ إلا أنني وجدت أن الثورة الرقمية قد أحالت تذاكر المسرح الأليفة، وما بها من قسم يأخذه المسرح عند الدخول إلى أثر من آثار الماضي العتيق. 
    كانت الثورة الرقمية تتيح للمشاهد أن يحجز تذاكره عبر الإنترنت، وأن يدفع ثمنها سلفًا ببطاقات الائتمان، ولكن كان على المشاهد ما أن يصل إلى أفينيون أن يذهب لشباك تذاكر المهرجان، وأن يحصل على تذاكره. لكن هذا الأمر تغير لأول مرة هذا العام، في خطوة أولى نحو الإجهاز على التذاكر الورقية كلية، بل إن التذكرة الورقية أصبحت تحمل اسم شاريها لأول مرة. فحتى قدامى المشاهدين مثلي الذين يحصلون على تذاكر ورقية، لم يعد المسرح بحاجة إلى ذلك الجزء من التذكرة، الذي يأخذه منها من يسمح لك بالدخول، والذي يبدو أنه تحول إلى زائدة من آثار الماضي، بل يتركونه لي وكأنني لم أستعمل تلك التذكرة؛ لأن في يد الفتيان والفتيات الذين يسمحون لك بالدخول إلى كل فضاءات المهرجان الآن جهاز صغير يقوم بقراءة التذكرة من خلال ماسح ضوئي. كما أن الكثيرين من المشاهدين أتوا وقد انطبعت تذاكرهم على شاشة هواتفهم الذكية، وهي خطوة أكثر تقدمًا من تلك التي طبع أصحابها تذاكرهم على طابعاتهم الخاصة في البيوت، وعلى ورقة عادية تحمل الكود الرقمي للتذكرة، والذي يقرأه الماسح الضوئي.

    وكان من تجديدات مهرجان هذا العام البدء بعرض لصغار المشاهدين، ابتداء من التاسعة من العمر، بعنوان أين الغيلان/ العفاريت؟ Ou Sont Les Ogres في المهرجان الرسمي؛ بعدما كانت عروض الأطفال قاصرة على المهرجان الهامشي Avignon Off وحده، وكانت تستأثر بقدر كبير من اهتمامه وفضاءاته، خاصة أن أغلبها يدور في الصباح. وهو نفس الأمر الذي انتهجه المهرجان الرسمي حيث يعرض عمله للأطفال في الحادية عشرة من صباح كل يوم. كما أصبح من تقاليد المهرجان في الأعوام القليلة الماضية توسيع رقعة اهتماماته الجغرافية، حيث نجد في مهرجان هذا العام أعمالا من نيوزيلندا وفيتنام وجورجيا، والتركيز على منطقة جغرافية بعينها، واستقدام عدد من عروضها المتميزة، وهو الأمر الذي خصصه مهرجان هذا العام لأفريقيا من جديد، فقد سبق له أن ركز على مسرحها في أكثر من مهرجان سابق. 

    لكن يظل حرص المهرجان على أن يقدم أرقى ما في جعبة المسرح الأوروبي من إنجازات هو مركز ثقله المستمر، والذي جعله أهم مهرجانات المسرح في أوروبا بشكل عام. وإذا كنا نفتقد في مهرجان هذا العام عددًا من الأسماء الكبيرة في عالم الإخراج المسرحي عودنا المهرجان على أعمالهم المتميزة: مثل الألماني توماس أوسترماير، أو الإيطالي روميو كاستيلوتشي، أو اللبناني الكندي وجدي معوض، أو البلجيكي إيفو فان هوفا الذي استحوذ على إطراء كل من شهد عمله في العام الماضي، يقال لإحساس مديره، أوليفييه بي، بالغيرة من مثل تلك الأسماء اللامعة؛ فإننا نجد فيه الياباني ساتوشي مياجي، وهو نجم مهرجان هذا العام بلا نزاع، والإنكليزية كيتي ميتشل، والبرتغالي تياغو رودريغيز، والأسترالي سايمون ستون وغيرهم.

    العروض البينية العابرة للأنواع

    وكان من اكتشافات هذا العام بالنسبة لي اليوناني ديميتريس بابايوانو، الذي قدم عرضًا تركيبيًا مدهشًا، بعنوان (المروّض الكبير The Great Tamer) لم يشأ المهرجان أن يصنفه في مجال المسرح أو الرقص، وإنما اختار أن يدعوه بالعمل البيني العابر للأنواع Indiscipline. فهو بحق عرض عابر للأنواع، لا يستخدم أي لغة بالمعنى التقليدي للغة الحوار المنطوقة، ولكنه يبدع لغته الخاصة بمفرداتها وما يمكن دعوته بأجروميتها النابعة من البنية التكرارية لبعض المشاهد، والتغايرات الطفيفة في التكرارات. يحيل أجساد الممثلين العشرة، وحركاتهم على المشهد، إلى لغة شاعرية بالغة الشفافية وثرية بالدلالات. فبالرغم من أن هذا المخرج اليوناني (مولود عام 1964) يحظى بسمعة كبيرة في بلده، أسسها بعد أن كرس اسمه كرسام أولاً، ثم كمخرج ومصمم للرقص ثانيا، حتى أنه اختير لإخراج عرضي افتتاح وختام الألعاب الأولمبية في اليونان، حينما جرت فيها عام 2004، فإن هذه هي المرة الأولى التي يدعوه فيها مهرجان أفينيون. وقد جلب إليه عملاً متميزًا سيترك أثره في ذاكرة المهرجان بلا شك. فقد قدم للجمهور عرضًا ممتعًا ومثيرًا للتأمل والتفكير من النواحي البصرية والحركية والموضوع الذي يطرحه معًا.

    ويحمل العرض عنوانا بالغ الدلالة لن نكتشف حقيقة معناه إلا بعد الاستمتاع بالعرض، لأن "المروّض الكبير" هنا هو الموت الذي مهما خادعناه، وراوغناه، وحاولنا التغلب عليه، فإنه هو الذي يروضنا في نهاية المطاف؛ ولكن ليس من دون أن يتحول الطراد الطويل بيننا وبينه إلى حياة بالغة الشاعرية، وجديرة بأن تعاش بكل أبعادها الحسية والاجتماعية وحتى الفلسفية. فالعرض بجمالياته الحركية والبصرية المدهشة ليس احتفاء بالموت، بالرغم من وعيه بأنه المروّض الكبير الذي سينتصر في نهاية المطاف؛ ولكنه احتفاء صاخب بالحياة، بكل ما تنطوي عليه من تحققات وإخفاقات على السواء، وبكل ما نعيشه فيها من حميميّة حسّيّة تمكننا من النمو والإبداع. وحينما ندخل إلى المسرح، نجد أن خشبته قد تحولت إلى أرض غير مستوية مفروشة بألواح كبيرة متر في مترين (وهي قياسات القبور)، أو رقائق من"الأبلكاش" أو البلاستيك كلها بدرجات من اللون الرمادي تحيل خشبة المسرح الفسيحة إلى نوع من الأرض الجرداء ذات التضاريس المتباينة. وهناك في امتداد الفضاء المسرحي وفي زاوية بعيدة نسبيا كرسي صغير وبجواره حذاء رجل. أما في منتصف مقدمة المسرح، فثمة رجل في حلّة سوداء نائم على الأرض وبجانبه حذاء، ثم يقوم ويلبس حذاءه، ويقف ثابتا ينظر إلينا، بينما لايزال المشاهدون يتوافدون إلى المسرح.


    وما أن يظلم المشهد ويبدأ العرض من دون أي إعلان عن بدءه كما هي العادة في بقية العروض التي يعلن فيها صوت أن العرض على وشك أن يبدأ ويطالب بإغلاق الهواتف المحمولة، حتى يخلع هذا الرجل ملابسه ثم يتجه إلى وسط أعلى المسرح، فخلفية المسرح مرتفعة قليلا عن مقدمته، في هذه الأرضية غير المستوية، ويقلب أحد الألواح الرمادية فنكتشف أن الجانب الآخر فيها أبيض، وينام عاريا عليه، ويجيء من يفرد عليه ملاءة بيضاء. هكذا نبدأ بمفردة الموت، ولكنها مفردة مرفوضة بدءا. لذلك يجيء من يقيم لوحًا من تلك الألواح على جانبه على مبعدة أكثر قليلاً من متر من الميت المغطى بالملاءة، ويتركه يسقط بإيقاع محسوب فيطيّر هواء سقوطه الملاءة التي تغطي الميت، فيجيء من يغطيه بالملاءة من جديد، ويتكرر هذا الفعل عدة مرات يقوم بعدها الميت من ميتته. ويشارك في المشاهد التي تتابع فصولها أمامنا. بما فيها من خلع الأحذية ولبسها، واستخدام تعرية أجزاء من جسم الممثلين، بينما هم دائما في ملابس سوداء، فيبدو لنا أننا بإزاء أطراف، سيقان أو أذرع، تتحرك وحدها؛ فالعرض يستخدم فقط اللون الأسود والرمادي والأبيض ولكل دلالاته فيه.
    ولن أستطيع أن أحكي للمشاهد كل ما دار في العرض الثري الجميل، لأننا معه بإزاء لغة مغايرة كلية، وبالتالي بنية جديدة تنبثق عن تلك اللغة المختلفة، تذكرنا بمقولة مارشال ماكلوهان الشهيرة أن الوسيط/ الشكل/ الصيغة هو الرسالة The Medium Is the Message. أننا بإزاء مشاهد حركية بصرية متشابكة ومتراكبة معا، تسعى لصياغة سردية ليست بأي حال من الأحوال بأقل من أن نسميها سردية الحياة اليومية، بما فيها من أفراح وأتراح، ورغبات وإحباطات، وشهوات ومخاوف، بل حتى حروب مجانية وصراعات. لكنني أحب أن أشركه في بعض الصور المدهشة التي تتخلق من مفرداتها تفاصيل هذه السردية. فهناك مثلاً مشهد يمد فيه حذاء أحد الممثلين جذوره في أرض الخشبة، فينزعه الممثل من الأرض بصعوبة لنجد أن الجذور قد انبثقت من نعله فروعا وأغصان، وأنه يخلعه من الأرض بتؤدة، وقد تشعبت الجذور خارجة من حذائه فلا يسعه إلا أن يرفع قدميه عاليًا، ويمشي على يديه. وهناك في المقابل المرأة التي تحمل أصيصًا كبيرًا، فتنبثق فيه النباتات ويورق، وذلك الذي يحفر في أرض الخشبة فيخرج ترابا ثم تتبعه أجزاء أجساد حية تتحرك، وأطراف أجساد أخرى سرعان ما تتجمع فتتخلق امرأة من ساقي رجلين، وجسد امرأة ورأسها تتحرك أمامنا حيث يقوم بدورها ثلاثة ممثلين ببراعة مدهشة في التناغم الحركي. وهناك هذا المشهد اللاذع الذي يتم فيه تعرية شخص على مائدة، ثم تمزيقه، واستخراج أحشائه وكل ما في جوفه، وتحويله إلى وجبة شهية وقد مُدت المفارش على المائدة، ونظمت الصحون لعدد من الذين مزقوه ونهشوا لحمه حيا، فجلسوا يأكلون بكل طقوس الأكل المحترمة؛ في نوع من التجسيد الشعري لبشاعات التعذيب، أو قل لطقوس النهش الجماعي التي اعتدنا ممارستها في حياتنا اليومية.

    وهناك هذا المشهد البديع الذي يدور فيه الصراع بين شخص وشخصين آخرين، فيهرب منهما ويبني له مخبأ تحت بعض الألواح التي تتعدد استعمالاتها بطرق مبتكرة طوال العرض، فتبدو هذه المرة وكأنها خيمته التي يحتمي بها، فيذهب المعتدون ويأتون بآخرين من أطراف الخشبة يصبون عليه وابلا من السهام، التي تنهال عليه بالعشرات، بل المئات، وتُرشق كلها في الألواح التي يحتمي بها، ويخرج بعد هذه المعركة سليما. وهناك مشهد ينفتح فيه أحد المربعات عن حوض من الماء، يطلع منه شخص يدفع عن نفسه الماء، ويطفو ثم يخرج ويجلس على حافة الحوض. وهناك مشهد آخر يأتي فيه عارض وقد تم تجبير "تجبيس" ساقيه وذراعيه ورقبته وكل جسمه. يهدهده آخر فيكسر "الجبس" عن ساق بعد أخرى، ثم عن ذراع بعد الآخر، ثم عن بقية الجسدن باحتضان كل جزء وتكسير الجبس من عليه قطعة قطعة في نوع من الرعاية الحميمة التي ينهض بعدها المحطم معافى وسليمًا مرة أخرى. ناهيك عن مشاهد اللقاءات الحسية الجميلة التي يتعانق فيها جسدي الرجل والمرأة، وهما يعزفان لحن التمازج أو التناغم والاندغام كل منهما في الآخر، والتي يجسدها العرض بشاعرية مرهفة، يصبح فيها العري قصيدة لجماليات الجسد الإنساني، وفعلا يدرأ به الإنسان عن نفسه وحشة الحياة وصدماتها القاسية.

    إننا هنا بإزاء سيمفونية من المشاهد المتتابعة التي يتولد أحدها من رحم الآخر، بصورة تشد انتباه المشاهد وتدهشه باستمرار، وهو يرى ما تنطوي عليه الحياة من تجدد وحيوية. يرجع فيها العرض ثلاث مرات إلى ما يمكن دعوته بنغمة القرار فيه، وهو مشهد جسد الرجل العاري المسجى على لوح أبيض وسط مؤخرة/ أعلى المسرح في بداية العرض، يفرد عليه شخص ملاءة بيضاء، ثم يجيء آخر فيقيم أحد الألواح على جانبه، ثم يتركه ليسقط فتطير الملاءة من فوق الجسد المسجى، فيعيدها من فردها عليه من جديد؛ ويتكرر هذا الفعل عدة مرات، ثم يفسح مكانه لعدد آخر من المشاهد يعود بعدها المشهد ليذكرنا بنفسه من جديد، وبنفس إيقاعه التكراري البطيء. حتى نصل في نهاية العرض إلى ذروة هذا المشهد وقد انتقل من مؤخرة المسرح إلى مقدمته؛ حين ينفتح أحد المربعات وفي الوسط تماما عما يشبه القبر، به هيكل عظمي انطبع على أرضية القبر، وحينما يرفع تلك الأرضية عارضان، ويميلانها بالتدريج تبدأ العظام في التساقط، في مقدمة المسرح، حيت تسقط الجمجمة وتتدحرج إلى صالة المشاهدين! وهكذا يعلن المروّض الكبير عن وجوده الطاغي بيننا. لكن العرض يعلن أيضًا عن أن قوة الإنسان نابعة من رفضه له رغم تسليمه بسلطته، حينما يترك العارض الذي أمال القبر كي تتساقط العظام الجمجمة التي سقطت بيننا، ويرتد هو إلى المسرح ينفخ ورقة تطير، ويحافظ على طيرانها بأنفاسه كي لا تسقط ويظلم المسرح على تلك النغمة المتفائلة التي تؤكد أن الحياة تسير، برغم عبء الموت.

    الوقوف في الوقت وطقوس درء الموت

    العمل الآخر الذي شاهدته في مهرجان هذا العام والذي اهتم كذلك بدرء عبء الموت عن الإنسان باللجوء إلى الشعر بمعناه الحرفي هذه المرة، كان في الواقع أول ما شاهدت من عروض هذا العام. وهو عرض جاء من آخر العالم، أي من أوكلاند عاصمة نيوزيلندا، أغراني باختياره أن من ساهمت في كتابته شاعرة سورية تدعى رشا عباس، تؤبن فيه ضحايا الحرب المجرمة التي تدور في سورية منذ سنوات، أو تكشف فيه عما تنطوي عليه من جنون وسعار. إذ يبدو أن هذه الحرب قد شتت السوريين في كل أرجاء المعمورة، حتى آخر رقعة مأهولة في العالم، حيث تثبت المهاجرة السورية قدراتها الإبداعية. بل وتدمجها في قلب الثقافة القديمة في هذا الجزء من العالم. وهو بعنوان (الوقوف في الوقت Standing in Time) ومن تصميم وإخراج ليمي بونيفاسيو Lemi Ponifasio، يصنفه المهرجان على أنه من العروض البينية Indiscipline أيضًا. مع أنه يستخدم اللغة، ولكنها لغة الماوري Maori القديمة، وهي لغة سكان نيوزيلندا الأصليين، قبل استيطان الأوروبيين فيها. بل ويحرص على ألا يتم ترجمتها في شريط الترجمة فوق الخشبة عادة، لأن لها دورا صوتيا غنائيا فحسب. وليمي بونيفاسيو مصمم العرض ومجمع رؤاه وطاقاته، راقص ومصمم رقصات أسس فرقته في أوكلاند عام 1995 وسماها MAU وهي مفردة تعني السعي للحقيقة في لغة الماوري، من فنانين من مختلف جنسيات العالم لسبر أغوار ما يمور به عالمنا من تناقضات واستقطابات مدمرة، وحروب.

    وفي لغة الماوري Maori وهي اللغة الأصلية للنسوة العشر اللائي يتعامل معهن في عرضه، ثمة مفردة تعرف المرأة بأنها هي التي تتعهد أمور الموتى بعد الموت، وهي التي تضمن لهم أن يدلفوا بكرامة إلى العالم الآخر. وهو التصور الذي يقول أنه انطلق منه في بلورة عرضه الذي يهتم باستعادة كرامة الإنسان في عالم يطيح بكرامته في كل مكان تقريبًا من دون رحمة. وفضلاً عن ذلك فقد ربط بين هذا التصور وبين ما لاحظه في الثقافة الأوروبية من أن جوستيسيا Justicia ربة العدالة عند الرومان هي أيضًا امرأة تعيش بيننا وتوزع العدل بطريقة محايدة. ويصورها الضمير الأوروبي معصوبة العينين تمسك بميزان العدالة، وبسيف ذي حدين. فهل تمثل بحق العدل؟ أم أن عينيها المعصوبتين تعميانها عن الحقيقة، بما يترتب على هذا العمى من إراقة دم الأبرياء؟ هذا السؤال المحوري بدأت تطرحه عليه أشعار رشا عباس، المهاجرة السورية، التي تجسد عبرها المأساة السورية بكرامتها وما تنطوي عليه من عنف مؤلم ودمار لا عقل له، بصورة يصعب معها معرفة الحقيقة. هل نستطيع حقًا أن نعرف الحقيقة؟ وهل يمكن أن نقوم بأي عمل لتخفيف حدة العنف والدمار الذي يسود العالم؟ هل باستطاعتنا الحياة بتواؤم مع البيئة المحيطة بنا والطبيعة التي نعيش بها؟ ألا نعيش في عالم نقوم بتدميره واستنزافه بمعدلات غير مسبوقة؟ ألا تعكس الطريقة التي ندمر بها العالم نزعة الدمار التي ندمر بها أنفسنا؟ من هذه الأسئلة المدببة ينطلق العرض.

    ويسعى ليمي بونيفاسيو إلى خلق لغة تعبيرية قادرة على بلورة هذه الأسئلة الملحة، وإلى مساءلة مفهوم العدالة والكرامة الإنسانية، من خلال استثارة جدلية الخلق والدمار معًا، عبر رحلة الإنسان عبر الحياة وصوب الموت. يسعى إلى خلق مسرح قادر على تمكين المشاهدين من الإنصات إلى أرواحهم وتذكيرهم بأفضل ما فيهم. لذلك فإنه ينصت إلى إيقاع الحياة الخام البسيطة والقاسية معا في جزيرة ساموا Samoa الصخرية التي جاء منها، وليس إلى تقاليد مدارس الرقص وتصوراتها الغربية أو حتى المسرحية، من أجل أن يتعانق في عمله الكوني والإنساني. بين هذين الوترين/ المحورين أو بالأحرى الرؤيتين المختلفتين للعالم ولدور المرأة فيه، بين إيقاع الحياة والموت الهادئ في جزيرة ساموا وصخورها الأليفة، وبين الحياة المرعبة التي خلفتها رشا عباس في سورية وراءها، وكرست أشعارها لتجسيد وقائعها المرعبة، يسعى ليمي بونيفاسيو لتخليق طقس مسرحي يدعو إليه المشاهد، للحديث عن مصير النساء اللواتي يختفين من الحياة الاجتماعية من دون توضيح.

    وحينما ندلف إلى فضاء ساحة ليسيه سان جوزيف الكبير، نجد مسرحًا فارغًا ليس عليه غير مجموعة من الصخور أو الأحجار المكسرة قرب يسار المسرح، وأن هناك دكة طويلة سوداء على كل جانب من جوانبه، تجلس على الموضوعة في يسار المسرح امرأة متشحة بالسواد وعلى مبعدة قليلة منها تتناثر الحجارة، وعلى الواقعة في يمينه سبع نساء متشحات بالسواد مثلها، لا تظهر من أجسادهن غير الرقبة والرأس والكفين. ويبدأ العرض بأن تبدأ النساء، وكأنهن جوقة تقودها المرأة الجالسة وحدها يسار المسرح، نوعًا أقرب إلى التعديد الجمعي بلغة الماوري؛ يستهدف إدخال المشاهدين في إيقاعاته البطيئة المختلفة. وبعد قليل تظهر امرأة في ثياب بيضاء وشعر سادل طويل تنشد شعرًا، يوشك أن يكون شعرًا عربيًا من حيث الإيقاع والموسيقى، ولكن كلماته غير واضحة، لأن العرض كله لا يهتم بما يقال، بل بطريقة قوله وإنشاده.

    وأهم ما يهتم به هو ما يحدث أو ما يدور أمامنا من تشكيلات حركية من أجساد النساء التسعة اللواتي تظهرن في بعض الأحيان كالمشبوحات، وفي أخرى كالراقصات اللواتي تقمن بأدوار إيقاعية محسوبة ومتعمدة. ويتغير التكوين التشكيلي للمشهد باستمرار، حينما تأخذ النساء واحدة وراء الأخرى الأحجار، ثم ترصها بشكل يحدد خطًا يقسم المسرح إلى نصفين. ثم تصعد الممثلة الوحيدة التي ترتدي ملابس بيضاء إلى ما يشبه المائدة أو النعش، بينما يتبدل وضع كرات الضوء التي كانت تنير المشهد، كي يتغير دور الظلال على الخشبة، وتتنامى في الخلفية أصوات تظاهرات، قد يكون بعضها مأخوذًا من تظاهرات الحراك السوري، من دون أن يهتم العرض بأن يمكن المشاهد من فك شفراتها. ثم تصعد ممثلة أخرى فوق النعش وتتعرى بينما يتصاعد صوت الهتافات، وتتحول رقصات النسوة في القسم الثاني من المسرح إلى الصخب والعنف، وفي أيدي بعضهن أدوات معدنية يهددن بها، ثم تقبل بعضهن لرش الرماد على جسد العارية المسجى على النعش، بينما يقوم بعضهم الآخر بحسو الرماد على وجوههن. كل هذا يدور بينما تواصل المنشدة في ملابسها البيضاء الدوران وسط ما يتصاعد من دمار، وقد عاد تناثر الحجارة من جديد. هكذا يتتابع إيقاع العرض، ومن خلال التوزيع بين الأسود والأبيض تتخلق علاقات أو جدليات بين الواقعي والتأملي، حيث تنتصر المشاعر على المعاني، بطريقة تحاول فهم ما يحيط بنا وما يدور لنا في الوقت نفسه. وقد تعمد العرض كما ذكرت عدم استخدام شريط الترجمة الفوقي الذي يستخدم عادة في مثل هذه الظروف، كي يركز المشاهد على الجماليات الصوتية للغة وكأننا إزاء شعرية الفقد والدمار دون تحديد لغة أو مجتمع بعينه، حيث يستشري هذا الفقد في كل ما حولنا من خراب. فمهما كانت معرفتنا باللغة، فإن الوصول إلى المعنى الكامل أمر بالغ الصعوبة، بل ربما أمر مستحيل، وهذا هو ما دفع العرض إلى الاهتمام الشديد بالبعد الطقسي للفعل المسرحي.

    وقبل الانتقال من تلك الأعمال البينية للحديث عن جانب آخر مما شاهدت في هذا المهرجان، لا بد من الوعي هنا بأن هذه الأعمال البينية تعي برغم استخدامها لأكثر من عنصر من عناصر الفرجة المسرحية، أهمية أن يكون العمل المسرحي دراميا، وأن ينبني على مجموعة من الحتميات المتتابعة التي تتخلق منها الدراما، وتتوتر حدتها وقد استطاعت أن تمسك بخناق المشاهد، وأن تستولى على اهتمامه. فبدون هذا التوتر الناظم يتحول العمل إلى مجموعة من الاسكتشات المفككة أو المترهلة. كما نرى كثيرا مع مخرجين من طراز أقل. بل كما رأينا هذا العالم وفي أهم فضاءات المهرجان للأسف، في عرض فييستا!

    ----------------------------------------
    المصدر : العربي الجديد 

    تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption