مدونة مجلة الفنون المسرحية
أبان المسرح العربي ما بعد الكولونيالي قدرته على الاشتباك العلني مع قوى الهيمنة. وهي قدرة تتجاوز النص الشعري والنص السردي. فالمسرح لديه الكثير ليضيفه إلى الجدل المثار حول الكيفية التي تعبر بها القوة الامبريالية عن نفسها من جهة، والصيغ التي تُقاوَم بها هذه القوة من جهة ثانية. فقد نزع المسرح العربي نحو مقاومة الفرضيات الاستعمارية والقيم الإمبريالية، عبر السعي الحثيث إلى التحرر من الهيمنة الغربية بكتابة تاريخه الفني الخاص لتحطيم النظرة الاستعلائية نحو ثقافات وحضارات أقل. بل نحا منحى انتقاد رؤية العالم التي تتخذ من أوربا مركزا ثقافيا ومحورا فنيا، حتى يساهم في إبراز أصوات وتصورات اعْتُبِرَ أصحابها لا تاريخ لهم ولا فن.
ورغم الخبرات المشتركة بين البلدان المستعمَرة، فإن ذلك لا ينفي وجود تباينات بينها. ويعزى هذا التباين إلى ارتباط الفن بسياقه الذي يسمه بطابعه الخاص. ومن هنا يشدد الأدب ما بعد الكولونيالي على فعالية التراث المحلي في الإبداع الأدبي والفني. ولذلك استلزمت عملية إعادة كتابة التاريخ الثقافي الخاص رؤية الذات من الموروث النابع من الأرض، والانطلاق من وضع محلي بتاريخه الثري وتقاليده الغنية. ليكون المسار والرسالة الأساس في مقاومة الإخضاع ورفض التمركز الغربي من خلال الاحتفاء بالسياق الثقافي الخاص بوصفه زاخرا بالجهد الثقافي والحيوية الفنية. فالفن والحكمة والعلم ليس مستودعهم الوحيد: أثينا ولندن وباريس. وهو ما يفسر طغيان المد التراثي الذي أصبح طابعا مميزا للمسرح العربي.
وغالبا ما تستعاد العناصر التراثية التي استبعدها المستعمِر أثناء فعل المقاومة الثقافية الفنية، لأنها تمثل الهوية والذاكرة، بيد أنه لا ينبغي المبالغة في المقاومة المؤسسة على التعصب لما هو أصلي ومحلي مقابل العداء لما هو غربي. فهذا الخيار في جوهره تكرار للنموذج الاستشراقي الذي يعتمد على إنتاج ذات الثنائيات الموهومة والتقسيمات التراتبية التي يستحيل معها تصور واقع إنساني في ذاته ولذاته دون تعال. وإذا كانت العودة إلى الممارسات الفنية والتقاليد الفرجوية الخاصة عودة مطلوبة، لأنها تمثل الهوية التي عملت الممارسات الاستعمارية على طمسها وتشويهها، بغية التحرر من النزوع الغربي الرامي إلى الهيمنة والسيطرة، فإنه لا جدوى من التمسك بهوية "نقية" كخيار للمقاومة،، لأن من شأن هذا التوجه أن يؤسس مركزية أخرى. فالمقاومة كما يقول إدوارد سعيد «بعيدةٌ كلَّ البعد عن أن تكون مجرد ردة فعل على الامبريالية، فهي نهج بديل في تصور التاريخ البشري. وإنه لذو أهمية خاصة أن نرى إلى أي مدى يقوم هذا النهج البديلُ في إعادة التصور على تحطيم الحواجز (القائمة) بين الثقافات». فالثقافة والفن تجارب مشتركة وتبادل وتلاقح لا ينقطع، والعالم من الرحابة والتفاعل والانصهار، إذ بالإمكان التقاء الجميع رغم اختلاف الجغرافيا والعرق والثقافة.
ويمكن إجمالا رصد ثلاثة محددات تميز ثقافة المقاومة:
¬ المحدد الأول: يتمثل في الإصرار على رؤية التاريخ الفني للمجتمع العربي باعتباره تيمة قابلة للنمو والنضج، إذ بهذا الوعي نسترجع الهوية والذاكرة.
¬ المحدد الثاني: ويتجلى في كون ثقافة المقاومة ليست مجرد رَدَّ فعل موجَّه صوب نزوع النموذج المسرحي الغربي نحو الهيمنة والفوقية. فهي أوسع من أن تُحصر في تصور كهذا، لأنها تقوم على أساس تفاعل ثقافي وتوصل فني.
¬ والمحدد الثالث: يتمثل في النفور والشجب للانغلاق والانعزالية، لأنه موقـف انطوائي لا يفهم أشكال التفاعل ويفتقد لشروط الوعي التاريخي. فإذا كان من غير المنطقي القفز على حقيقة كون الهوية الفنية لها وجودها التاريخي والفني، فإنه من غير المقبول أيضا الإمعان في الإلحاح على انفصاليتها وتميزها. و«لعل أرفع ميزة تزين التابع حين ينهض، هي ألا يكتفي بتكرار صورة السيد وسيرته». ومن أنبل مشاريع الفكر والفن ألا نكرر أن ثقافتنا تمثل الرقي وذروة النضج. وهنا تتجلى أهمية المسرح في عالم يعيش مأزق الصراع من أجل فرض نموذج ثقافي واحد دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والهويات الفنية المتعددة.
وهكذا، تصير المقاومة بمثابة عملية إعادة اكتشاف، وفك أسر ما كان مقموعا من قبل. وتلك هي التراجيديا الجزئية للمقاومة، لأنها مطالبة باسترداد أشكال ما قبل استعمارية، ما دام العشب المستعمَر «لا يمكن أن يدير ظهره إلى فكرة وجود ثقافة جمعية ما قبل استعمارية وماض ينتظر من يجده» . وحتى لا يتحول هذا الوعي بالأشكال ما قبل الاستعمارية إلى أرثدوكسية جامدة ومتحجرة، وإلى نزعة شوفينية متعصبة وإلى صيغة تقديسية تخاطب الأموات وتستنشق غبار الأكفان، وجب تكسير الحواجز والحدود بين الفنون والثقافات للوصول إلى تشابك فني. فما دام العالم مبنيا على ماهيات متحاربة تعادي التلاقي الفكري، فإنه من الضروري أن ترتقي الصيغ المنغلقة داخل سجن الذات المحلية في تشكيلها إلى نسيج هويات متعددة تسمح بالتفكير فيما أبعد من الهوية الضيقة، بغية خلق تحرر حقيقي قوامه «تحويل الوعي الاجتماعي إلى ما بعد الوعي القومي لتجنب الانقسام المحتم للبشرية إلى نحن الغربيون وهم الشرقيون». وانسجاما مع هذا المعطى، انفتح المسرحيون العرب على أحدث النقلات الفنية الغربية، لأنهم أدركوا بوعي نقدي لافت أن الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص لا يعيش إلا في إطار الحوار الفني والتلاقح الثقافي.
وقد شكل الفضاء مجالا لمقاومة أشكال الهيمنة الامبريالية. ولذلك نزع المسرح العربي ما بعد الكولونيالي إلى رفض الأفضية المسرحية الغربية، وتبنى بدائل جديدة تنفتح على الساحات الرحبة تارة، وتعمل على تكييف تلك الأفضية وفق ما تتطلبه القضايا التعبيرية والأساليب الفنية تارة أخرى. كما شغل الحكي مكانة مركزية في المسرح ما بعد الكولونيالي، لأن صيغة الحكي تتحدى مواضعات المذهب الطبيعي التي يتوسل بها المسرح الغربي عادة في مسرحته للمادة التي يقدمها. إضافة إلى قدرة الراوي على انتهاك الحوار المصاغ على النهج الطبيعي وتفضيل الخطاب المباشر. فالحكي يمنح مسرحيات التاريخ ما بعد الكولونيالي خصوصية ثقافية يرتبط بها توجه يحمل طابع المقاومة.
فقد عمل "علولة" في الجزائر على الخروج بمسرحياته من الحيز المكاني المغلق: (البناية المسرحية) لتقديمها في الفضاء الرحب. وراح يؤسس عروضه المسرحية بعيدا عن الأفضية المغلقة، فاتصل بالفلاحين والفئات الشعبية، وحاول أن يشركهم في الفعل المسرحي عن طريق الاقتراب من مشاغلهم اليومية، بحثا عن مواضعات جمالية جديدة كفيلة بإبراز الذات العربية الفنية. وخضع في هذا الاختيار الفني لفضاء الحلقة الذي يستلزم فضاء رحبا، علاوة على استفادته من تجارب مسرحية غربية تمردت على العلبة الايطالية، وقدمت فرجاتها في الفضاء العام لخلق التواصل الحميم بين صانع الفرجة والجمهور، كما هو الشأن بالنسبة لأنطونان أرطو الذي هجر المسارح المبنية على الطريقة الايطالية. وقد خصص أرطو لهذا الأمر فقرة هامة في البيان الأول لمسرح القسوة، حين أعلن: «سنلغي خشبة المسرح والصالة، ونستبدلهما بمكان واحد، بلا حواجز من أي نوع، يصبح مسرح الأحداث ذاته، ونعيد الاتصال المباشر بين المتفرج و العرض، والممثل والمتفرج، نظراً لأن المتفرج الذي وضع وسط الأحداث، محاط بها متأثر أيضا بها. ووضع المتفرج هذا ناتج عن شكل البهو "الصالة" ذاته» . فقد رفض علولة فكرة الانغلاق تأكيدا على الطابع المؤقت للهويات ما بعد الكولونيالية. فتفكيك الهيمنة الفنية الغربية يعد بمثابة خطوة أولى وليس وصولا إلى نقطة نهاية.
ورغم الخبرات المشتركة بين البلدان المستعمَرة، فإن ذلك لا ينفي وجود تباينات بينها. ويعزى هذا التباين إلى ارتباط الفن بسياقه الذي يسمه بطابعه الخاص. ومن هنا يشدد الأدب ما بعد الكولونيالي على فعالية التراث المحلي في الإبداع الأدبي والفني. ولذلك استلزمت عملية إعادة كتابة التاريخ الثقافي الخاص رؤية الذات من الموروث النابع من الأرض، والانطلاق من وضع محلي بتاريخه الثري وتقاليده الغنية. ليكون المسار والرسالة الأساس في مقاومة الإخضاع ورفض التمركز الغربي من خلال الاحتفاء بالسياق الثقافي الخاص بوصفه زاخرا بالجهد الثقافي والحيوية الفنية. فالفن والحكمة والعلم ليس مستودعهم الوحيد: أثينا ولندن وباريس. وهو ما يفسر طغيان المد التراثي الذي أصبح طابعا مميزا للمسرح العربي.
وغالبا ما تستعاد العناصر التراثية التي استبعدها المستعمِر أثناء فعل المقاومة الثقافية الفنية، لأنها تمثل الهوية والذاكرة، بيد أنه لا ينبغي المبالغة في المقاومة المؤسسة على التعصب لما هو أصلي ومحلي مقابل العداء لما هو غربي. فهذا الخيار في جوهره تكرار للنموذج الاستشراقي الذي يعتمد على إنتاج ذات الثنائيات الموهومة والتقسيمات التراتبية التي يستحيل معها تصور واقع إنساني في ذاته ولذاته دون تعال. وإذا كانت العودة إلى الممارسات الفنية والتقاليد الفرجوية الخاصة عودة مطلوبة، لأنها تمثل الهوية التي عملت الممارسات الاستعمارية على طمسها وتشويهها، بغية التحرر من النزوع الغربي الرامي إلى الهيمنة والسيطرة، فإنه لا جدوى من التمسك بهوية "نقية" كخيار للمقاومة،، لأن من شأن هذا التوجه أن يؤسس مركزية أخرى. فالمقاومة كما يقول إدوارد سعيد «بعيدةٌ كلَّ البعد عن أن تكون مجرد ردة فعل على الامبريالية، فهي نهج بديل في تصور التاريخ البشري. وإنه لذو أهمية خاصة أن نرى إلى أي مدى يقوم هذا النهج البديلُ في إعادة التصور على تحطيم الحواجز (القائمة) بين الثقافات». فالثقافة والفن تجارب مشتركة وتبادل وتلاقح لا ينقطع، والعالم من الرحابة والتفاعل والانصهار، إذ بالإمكان التقاء الجميع رغم اختلاف الجغرافيا والعرق والثقافة.
ويمكن إجمالا رصد ثلاثة محددات تميز ثقافة المقاومة:
¬ المحدد الأول: يتمثل في الإصرار على رؤية التاريخ الفني للمجتمع العربي باعتباره تيمة قابلة للنمو والنضج، إذ بهذا الوعي نسترجع الهوية والذاكرة.
¬ المحدد الثاني: ويتجلى في كون ثقافة المقاومة ليست مجرد رَدَّ فعل موجَّه صوب نزوع النموذج المسرحي الغربي نحو الهيمنة والفوقية. فهي أوسع من أن تُحصر في تصور كهذا، لأنها تقوم على أساس تفاعل ثقافي وتوصل فني.
¬ والمحدد الثالث: يتمثل في النفور والشجب للانغلاق والانعزالية، لأنه موقـف انطوائي لا يفهم أشكال التفاعل ويفتقد لشروط الوعي التاريخي. فإذا كان من غير المنطقي القفز على حقيقة كون الهوية الفنية لها وجودها التاريخي والفني، فإنه من غير المقبول أيضا الإمعان في الإلحاح على انفصاليتها وتميزها. و«لعل أرفع ميزة تزين التابع حين ينهض، هي ألا يكتفي بتكرار صورة السيد وسيرته». ومن أنبل مشاريع الفكر والفن ألا نكرر أن ثقافتنا تمثل الرقي وذروة النضج. وهنا تتجلى أهمية المسرح في عالم يعيش مأزق الصراع من أجل فرض نموذج ثقافي واحد دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والهويات الفنية المتعددة.
وهكذا، تصير المقاومة بمثابة عملية إعادة اكتشاف، وفك أسر ما كان مقموعا من قبل. وتلك هي التراجيديا الجزئية للمقاومة، لأنها مطالبة باسترداد أشكال ما قبل استعمارية، ما دام العشب المستعمَر «لا يمكن أن يدير ظهره إلى فكرة وجود ثقافة جمعية ما قبل استعمارية وماض ينتظر من يجده» . وحتى لا يتحول هذا الوعي بالأشكال ما قبل الاستعمارية إلى أرثدوكسية جامدة ومتحجرة، وإلى نزعة شوفينية متعصبة وإلى صيغة تقديسية تخاطب الأموات وتستنشق غبار الأكفان، وجب تكسير الحواجز والحدود بين الفنون والثقافات للوصول إلى تشابك فني. فما دام العالم مبنيا على ماهيات متحاربة تعادي التلاقي الفكري، فإنه من الضروري أن ترتقي الصيغ المنغلقة داخل سجن الذات المحلية في تشكيلها إلى نسيج هويات متعددة تسمح بالتفكير فيما أبعد من الهوية الضيقة، بغية خلق تحرر حقيقي قوامه «تحويل الوعي الاجتماعي إلى ما بعد الوعي القومي لتجنب الانقسام المحتم للبشرية إلى نحن الغربيون وهم الشرقيون». وانسجاما مع هذا المعطى، انفتح المسرحيون العرب على أحدث النقلات الفنية الغربية، لأنهم أدركوا بوعي نقدي لافت أن الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص لا يعيش إلا في إطار الحوار الفني والتلاقح الثقافي.
وقد شكل الفضاء مجالا لمقاومة أشكال الهيمنة الامبريالية. ولذلك نزع المسرح العربي ما بعد الكولونيالي إلى رفض الأفضية المسرحية الغربية، وتبنى بدائل جديدة تنفتح على الساحات الرحبة تارة، وتعمل على تكييف تلك الأفضية وفق ما تتطلبه القضايا التعبيرية والأساليب الفنية تارة أخرى. كما شغل الحكي مكانة مركزية في المسرح ما بعد الكولونيالي، لأن صيغة الحكي تتحدى مواضعات المذهب الطبيعي التي يتوسل بها المسرح الغربي عادة في مسرحته للمادة التي يقدمها. إضافة إلى قدرة الراوي على انتهاك الحوار المصاغ على النهج الطبيعي وتفضيل الخطاب المباشر. فالحكي يمنح مسرحيات التاريخ ما بعد الكولونيالي خصوصية ثقافية يرتبط بها توجه يحمل طابع المقاومة.
فقد عمل "علولة" في الجزائر على الخروج بمسرحياته من الحيز المكاني المغلق: (البناية المسرحية) لتقديمها في الفضاء الرحب. وراح يؤسس عروضه المسرحية بعيدا عن الأفضية المغلقة، فاتصل بالفلاحين والفئات الشعبية، وحاول أن يشركهم في الفعل المسرحي عن طريق الاقتراب من مشاغلهم اليومية، بحثا عن مواضعات جمالية جديدة كفيلة بإبراز الذات العربية الفنية. وخضع في هذا الاختيار الفني لفضاء الحلقة الذي يستلزم فضاء رحبا، علاوة على استفادته من تجارب مسرحية غربية تمردت على العلبة الايطالية، وقدمت فرجاتها في الفضاء العام لخلق التواصل الحميم بين صانع الفرجة والجمهور، كما هو الشأن بالنسبة لأنطونان أرطو الذي هجر المسارح المبنية على الطريقة الايطالية. وقد خصص أرطو لهذا الأمر فقرة هامة في البيان الأول لمسرح القسوة، حين أعلن: «سنلغي خشبة المسرح والصالة، ونستبدلهما بمكان واحد، بلا حواجز من أي نوع، يصبح مسرح الأحداث ذاته، ونعيد الاتصال المباشر بين المتفرج و العرض، والممثل والمتفرج، نظراً لأن المتفرج الذي وضع وسط الأحداث، محاط بها متأثر أيضا بها. ووضع المتفرج هذا ناتج عن شكل البهو "الصالة" ذاته» . فقد رفض علولة فكرة الانغلاق تأكيدا على الطابع المؤقت للهويات ما بعد الكولونيالية. فتفكيك الهيمنة الفنية الغربية يعد بمثابة خطوة أولى وليس وصولا إلى نقطة نهاية.
د. هشام بن الهاشمي
المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق