| ستانسلافسكي |
ستانسلافسكي ومنهجه المسرحي
مجلة الفنون المسرحية:
في ربيع سنة ١٩١١، قرأ ستانسلافسكي المخطط الأول لــ«المنهج»، على أسماع غوركي. وحدث بينهما الحوار التالي، الذي سجله تيخونوف (سيريبروفي):
غوركي : يبدو لي أنك ابتدعت عملا في غاية الأهمية، عملا ذا أهمية هائلة، علما عن الفن. قد يبدو للبعض أن الفن والعلم لا يجتمعان. علم وفن؟..لكن الأمر غير ذلك. فالفن هو مجهود انساني، قبل كل شيء آخر. وبعد ذلك، البقية الباقية. ولغرض جعل الجهد مثمرا، ينبغي تنظيمه علميا. هل فهمت فكرتك فهما صحيحا؟
ستانسلافسكي: بالضبط:
وهكذا، علم عن الفن. لقد بحث ستانسلافسكي لمدة خمسين عاما ما سماه غوركي «علما عن الفن». هذا الجهد المضني لفنان عبقري وعارف عظيم بكل مدارات العمل المسرحي المعقد، لم يكن له أن يذهب سدى. ونشأ العلم.
قبل كل شيء، كل علم يميزه أن لا تكون مكوناته مصطنعة، لا تكون مؤلفة، بل مكتشفة. انها موجودة قبل أن تكتشف، ووهي مؤثرة سواء أعرف الناس أو لم يعرفوا، أعجبت هذا الشخص أو ذاك أو لم تعجبه.
وهذا كله، بالدرجة ذاتها، ينطبق على منهج ستانسلافسكي. وهو مثل أي علم أصيل، غير مخترع، غير مصطنع، غير مؤلف، بل مكتشف في الممارسة الحية للابداع التمثيلي، ذلك الابداع الموجود قبل أن يكتشف ستانسلافسكي قوانينه، والتي تبقى موجودة بغض النظر عن معرفة الناس بها، وبأية درجة عرفوا هذه القوانين.
يقول ستانسلافسكي: «ان لطبيعتنا الفنية قوانينها الابداعية. وهذه القوانين الزامية لجميع الناس، لجميع البلدان، لجميع الأزمنة ولجميع الشعوب. وينبغي ادراك جوهر هذه القوانين»... «جميع الفنانين العظام ساروا في ابداعهم حسب هذه القوانين، من غير ان عرفوا بذلك، ساروا من غير أن يعوا ذلك».
ويقول في مكان آخر : « فن المعاناة، يضع في أساس نظريته، مبدأ الابداع الفطري للطبيعة ذاتها، حسب القوانين الطبيعية، التي وضعتها هي». ويقول في مكان آخر : «هناك منهج واحد، هو منهج الطبيعة الحية الخلاقة. ولا وجود لمنهج آخر» .. «قانون الطبيعة الخلاقة، لا يمكن تغييره».
وهكذا، فان السمة الأساسية لمنهج ستانسلافسكي كعلم، هي موضوعية القوانين، التي تكونها.
والسمة الفائقة الأهمية بالنسبة لنا: كل علم أصلي، يوجد لاشباع حاجات الممارسة الانسانية. وهذا كله كاملا ينطبق على منهج ستانسلافسكي. فهو قد ولد من احتياجات الممارسة في الفن المسرحي، وكان هدفه هو تحسين الممارسة. وقد جرب ستانسلافسكي منهجه في الممارسة الابداعية والتعليمية.
وكما في كل علم آخر، لا يمكن لمعايير الممارسة أن تؤكد أو ترفض بالمطلق، القوانين المكونة لمنهج ستانسلافسكي. لأن هذه القوانين هي «تصورات انسانية» ، هي انعكاس في رأس الانسان.
السمة الثالثة المهمة بالنسبة لنا: لا يمكن لأي علم ، بما انه «انعكاس في رأس الانسان» أن يتماهى مع الممارسة التي يخدمها.
كل ممارسة تحتاج الى معطيات طبيعية معينة، أما اذا فُقدت هذه المعطيات، فلن يُستطاع تحسين هذه الممارسة، ولن يُستطاع تطبيق العلم. تماما مثل استحالة الزراعة بصورة عامة، وبذلك استحالة التطبيق العملي المفيد للعلوم الزراعية، عند غياب التربة والماء والهواء.
حين يحاول أحدهم تطبيق العلم، متجاهلا غياب الشروط الضرورية لتطبيقه ، فيصادف الفشل، فان هذا لا يدحض العلم. ان ذلك يثبت فقط، ان الذي أصيب بالفشل لم يكن ملما بهذا العلم بدرجة كافية، وانه -جزئيا- لا يعرف الشروط اللازمة لتطبيقه.
وهذا كله ينطبق على منهج ستانسلافسكي. فلغرض تطبيقه تطبيقا مثمرا، يُحتاج الى شروط ملزمة. وعند غياب هذه الشروط، فان منهج ستانسلافسكي لا يمكن تطبيقه.
الشرط الأول والضروري بشكل مطلق، هو الموهبة، القدرات، الملَكة. ويستحيل بدون هذا الشرط تطبيق منهج ستانسلافسكي، كما تستحيل الزراعة بدون أرض.
هناك شروط أخرى ضرورية، لغرض تطبيق علم فن التمثيل. وسنبحث تلك الشروط في الفصل الأخير.
السمة الرابعة والأخيرة في تعدادنا القصير، الذي لا يستنفد طبعا- كل قائمة السمات: «على النظرية العلمية الشرعية الحقيقية، أن لا تكتفي بشمول المادة الموجودة كلها فقط، بل وعليها أن تفتح امكانيات واسعة للدراسة المستقبلية، ويمكن القول، للتجريب بلا حدود» كما يقول بافلوف.
كل علم أصيل لا يجيب على أسئلة الممارسة فقط، بل ويبحث - دائما - عن أجوبة جديدة، أكثر دقة: كل جواب مؤسس علميا، يفترض طرح سؤال جديد. ولهذا فان العلم لا يستطيع أن يراوح مكانه. فالعلم لا يحتوي على تلك القوانين وتلك الحقائق التي يمكن أن تستعمل في الممارسة بدون إبطاء، بل ويحتوي على تلك المطلوبة لتحقيقها في الحياة، ولاستمرار تدقيقها وتوضيحها وتفصيلها. وتبعا لذلك، لا يدخل في تركيبة أي علم من العلوم قوانين وحقائق مؤكدة فقط، بل وفرضيات وتخمينات.
ولهذا فان التطبيق العملي لأي علم، هو سيرورة ابداعية: ولهذا بالتالي، مهما عرف انسان ما، هذا العلم أو ذاك ، فهناك امكانية لوجود انسان آخر، يعرف ذلك العلم أفضل منه.
وهذا يميز منهج ستانسلافسكي أيضا. فالعلم الذي أبدعه، يمكن معرفته بهذه الدرجة أو تلك، لكن يستحيل معرفته تماما، حتى النهاية. يقول ستانسلافسكي : « أنا ستانسلافسكي، أعرف المنهج، لكني لا أعرف تطبيقه، أو بالأصح، بدأت فقط، في معرفة كيفية تطبيقه. ولغرض احكام المنهج الذي تعهدته، ينبغي لي أن أولد مرة ثانية، وأن أبدأ التمثيل حين أبلغ السادسة عشرة من العمر».
لكن رؤية امكانية تطور علم من العلوم، لا يعني - بالطبع- رفض ما وصل اليه ذلك العلم. فنسبية الحقيقة -كما هو معلوم - لا يلغي موضوعيتها. والحقيقة الموضوعية يمكن معرفتها بشكل موثوق.
واذا اعترفنا أن منهج ستانسلافسكي يمتلك تلك السمات الأربع، التي جرى الحديث عنها، فيمكننا الانتقال الى استنتاج قاتل للمنهج ، للنظرة الأولى: كل موهبة تبدع على حسب قوانين المنهج في كل الحالات، ومن لا يمتلك الموهبة فلن يساعده المنهج بأي شيء... ترى ما فائدة هذا المنهج اذن؟
لو كانت الموهبة، شيئا معطى مرة واحدة والى الأبد، ولا يتغير أبدا، شيئا ما موجود في شكل نهائي معين، أو غير موجودة عند هذا الممثل أو ذاك، لكان منهج ستانسلافسكي بلا فائدة. لكن لا شيء في الطبيعة يراوح مكانه. والموهبة أيضا -تبعا لذلك- ومهما حددنا محتوى هذا المفهوم، وبأي درجة امتلكها هذا الانسان أو ذاك، تكون (الموهبة) لدى أي انسان محدد، في كل الحالات ودائما، في سيرورة النمو والتطور، أو في سيرورة الانحطاط والموت.
واضافة الى ذلك، ليست المسألة في «وجود» أو «عدم وجود» الموهبة عند هذا الانسان أو ذاك، بل في تمظهرها في نشاطاته أو لا: ففي ذلك الأساس الوحيد لتأكيد وجود الموهبة.
الموهبة، مثل اي قدرة فطرية، تنمو وتتطور في سيرورة استعمالها الصحيح، وتخبو وتموت في حالة عدم استعمالها أو استعمالها بصورة مغلوطة، منافية للطبيعة، وقبيحة.
وهذا ينطبق على أية موهبة، من العظيمة الى الصغيرة. الفرق يكمن فقط في أن القوانين الفطرية في المواهب العظيمة تعمل بصورة أقوى، وبفعالية أكبر وتكشف عن نفسها بشكل أتم. ولهذا السبب فان ستانسلافسكي اكتشف قوانين الابداع الموضوعية في ممارسات الفنانين العظام والعباقرة.
وبما ان كل موهبة تتضمن البذور أو القدرات الفطرية، التي يستحيل اكتسابها، فالمسألة -عمليا - تنحصر في تنمية وتطوير الموهبة الموجودة، أو القدرات في الأقل. لقد تبين أن القدرات المتوسطة (من وجهة نظر عامة، اعتمادا على تمظهرها) يمكن تطويرها الى موهبة، وأن أكثر المواهب توهجا يمكن أن تموت ، ويمكن أن تصبح أبهى وأغنى. ويعتمد ذلك على هذه الدرجة أو تلك على كيفية استعمال هذه الموهبة في الممارسة.
ينبغي لك لاتقان منهج ستانسلافسكي، أن تريد حقا وبعمق، أن تتقن فنك اليوم بأفضل مما كنت البارحة. أما اذا كان الممثل او طالب الفن لامباليا، راضيا عن نفسه -في أعماقه- وعن موهبته وعن قدرته، فلا فائدة في دراسته لمنهج ستانسلافسكي، قبل أن يتهدم رضاه عن نفسه هذا.
ان هذا النوع من الطمأنينة، الذي يكون أحيانا مخفيا عميقا ومقنَّعّا غريزيا بمهارة، لا يشكل شيئا دخيلا على الموهبة، أو شيئا يمكن أن يوجد الى جانب الموهبة أو على الرغم منها، كلا، انه نقص في الموهبة، انه عيب في الموهبة ذاتها، ذلك أنه خلل في الارادة الابداعية.
يقول ستانسلافسكي : «كلما كان الفنان أكبر موهبة، كبر اهتمامه بالتقنية، وبالتقنية الباطنية بشكل خاص. لقد منحت الطبيعة الصحة ومكوناتها لشيبكين وليرمولفا ولدوزيه ولسالفيني ، لكن، وعلى الرغم من ذلك، كانوا يشتغلون على تقنياتهم»..« ومن باب اولى أن يشتغل عليها أصحاب المواهب المتواضعة».. « علما أنه لا ينبغي أن ننسى أن الموهوبين حسب، لن يصبحوا عباقرة أبدا، لكن بفضل دراسة طبيعتهم الابداعية الخاصة وقوانين الابداع والفن يرتفع أصحاب المواهب المتواضعة الى مستوى العباقرة، ويصبحون من صنفهم. ويحدث هذا التقارب من خلال المنهج، وبالأخص «الاشتغال على الذات».
تسمع أحيانا مثل هذه العبارة: «هذا الممثل يمثل بحسب منهج ستانسلافسكي» ثم تسمع أحيانا من يكمل قائلا: «ومع ذلك يمثل بصورة جيدة متوهجة وأخاذة». في هذه العبارات يتكشف الفهم السطحي للمنهج ونفي جوهره ذاته، ونفيه كعلم.
يمكن أن يكون التمثيل جيدا أو سيئا ويمكن أن يكون أحسن ويمكن أن يكون أسوأ. وكل من يمثل جيدا ( اي يكشف عن موهبته) فهو يمثل بناء على القوانين الموضوعية للابداع. ويمثل على حسب «المنهج» بتلك الدرجة، وبما انه يمثل جيدا. علما بأن المتفرج لا يهتم ابدا، أكان الممثل يفكر بالمنهج حين كان يشتغل على دوره أم لا. تماما كما أن كل من يمثل تمثيلا سيئا ( لا يكشف عن موهبة) فانه «لا يمثل حسب المنهج» حتى لو كان طيلة فترة عمله لم يفكر الا بتنفيذ تعليماته. وما دام قد مثل تمثيلا سيئا فانه لم يحسن أو لم يستطع استعمال المنهج.
ان الممثل المهموم في لحظة الابداع بهذا المنهج أو ذاك، يكون تمثيله سيئا، لهذا السبب وحده. فالمنهج موجود للمساعدة في سيرورة الابداع الطبيعي، لا ليحل محلها. والممثل يبدع على الخشبة كما يتطلبه المنهج، في الحالة التي لا يكون لديه في لحظة الابداع وقت ليفكر بأي منهج كان.
يقول ستانسلافسكي: «المنهج» ليس «كتابا للطبخ»: تحتاج الى طبخة معينة فتفتح الصفحة وتأخذ الوصفة. كلا، انه ثقافة كاملة، ينبغي النمو والنشأة فيها لسنين طويلة. المنهج لا يمكن حفظه عن ظهر قلب، بل يمكن تفهمه والتشبع به، ليدخل في دم ولحم الفنان ويصبح طبيعته الثانية ويمتزج به حيويا الى الأبد، ليعيد ولادته للخشبة. وتجب دراسة «المنهج» بأجزائه ، وبعد ذلك ادراكه في كليته وفهم بنيته العامة وتركيبته. وفي هذه الحالة سيفتح أمامكم مثل مروحة يابانية، وعند ذلك فقط، ستحصلون على تصور كامل عنه».
وينشأ عن ذلك: ان منهج ستانسلافسكي علم متكامل، متحد، متساوق: ويتكون من أجزاء، كل جزء بدوره، كلُ معقدُ يتكون من أجزاء هو أيضا، ولهذا فعند دراسة منهج ستانسلافسكي كعلم، مهم جدا، النفاذ الى كل دقائقه، أي التمكن منه بالتفاصيل وبتفاصيل التفاصيل من جهة، ومعرفة مكان كل تفصيل ومهمته ودوره، كجزء في كل متساوق، بالضبط وبالتحديد، من جهة أخرى.
ان اساس المنهج في الحقيقة، هو ادراكه في كليته، في وحدته، أي دراسة العلاقات المتبادلة والاعتماد المتبادل لجميع أجزائه. ولغرض الشروع في دراسة المنهج دراسة تفصيلية، من الملائم استعراضه استعراضا عاما.
لو أردنا دراسة بنيان معماري متساوق في كل تفاصيله، لما بدأنا بدراسة التفاصيل هذه، بل من استعراض البنيان كله في كليته.
ولو اقتربنا من منهج ستانسلافسكي بطريقة مشابهة، لاستطعنا أن نكتشف فيه أجزاءه وأقسامه وأوجهه، المشابهة لواجهات البنيان المعماري. لكن بما ان المنهج ليس شيئا بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، فان تقسيمه الى أجزاء وأقسام وأوجه، هو-بالطبع-تقسيم اصطلاحي، نظري، ضروري لتعريفه تعريفا عاما ابتدائيا. ان كل جزء من هذه الأجزاء، أو وجه من هذه الوجوه يتكاثر في أجزاء وأوجه أخرى، مرتبط بها حيويا، لذا لا يمكنه الانفصال عنها.
منهج ستانسلافسكي كعلم يتكشف، وكأنه يتكشف من ثلاث جهات. انه يتكشف بالتحديد. ويمكن النظر اليه من ثلاث جهات، لكن عند التعمق في كل جهة، أي الانطلاق من السطح الى اللب، سيتضح أن اللب عند الجهات الثلاث هو نفسه، وان هذه الجهات الثلاث تلتئم في اللب في كلٍ واحد. هذا الكلُ إذ يتفصل ويتطور في كل الاتجاهات، يعطي الجهات الثلاث التي مر ذكرها. انها تبدو فقط، وكأنها موجودة منفصلة، تتحدث عن مواضيع مختلفة، لكنها في الحقيقة، تتحدث عن موضوع واحد من جهات مختلفة، أي تعطي تصورا متعدد الجوانب عن موضوع واحد.
هناك الكثير من اللبس في تفسيرات منهج ستانسلافسكي، يتأتى من هنا تحديدا: أحدهم ينظر اليه من جهة ويؤكد أنها هي المنهج، والثاني ينظر اليه من جهة ثانية ويقول انه شيء آخر، لأنه نظر اليه من جهة أخرى، أما الثالث فقد اهتم بجهة ثالثة، ولهذا يبدو له بصورة جلية أنه شيء ثالث. لكنه في الحقيقة شيئا ما أكبر من الأول والثاني والثالث، شيء يتكشف بأشكال مختلفة من جهات محتلفة.
مع العلم أن أيا من تلك الجهات في ذاتها لا يمكن أن تعطي تصورا دقيقا وكاملا عن هذا الشيء.
المنهج من وجهة نظر احدى الجهات هو علم عن: ما هو المسرح ولماذا يحتاجه المجتمع الانساني. ما الذي ينبغي تسميته فنا مسرحيا وما الذي يذكِّر بذلك الفن بشكله فقط ، لكنه لا يملك الأسس للتسمي باسمه. هذا كأنه جهة واحدة، جزء، قسم من أقسام علم فن التمثيل ـ الاسطيطيقا.
الجهة الثانية (جزء، قسم) لهذا العلم تتاخم الأولى مباشرة. انها علم عن كيف ينبغي أن يكون الممثل، لكي يمتلك الحق في ابداع العمل الذي يلبي الوظيفة الاجتماعية للفن ـ الأخلاق.
الجهة الثالثة (جزء ، قسم) يربط من جديد، الأولى بالثانية. انه علم عن كيفية تحقيق الممثل لامكاناته،بأسرع الطرق وبأكثر عقلانية وفعالية. كيفية الوصول الى الهدف وهو يمتلك الوسائل ويعرف الهدف، كيف يعمل عمليا لكي يبدع العمل الفني منسجما مع وظيفته ـ تقنيات التمثيل.
ان ارتباط هذه الجهات الثلاث واضح للعيان بشكل مطلق: احداها تتحدث عن الهدف والثانية عن الوسائل والثالثة عن الطرق لاستعمال هذه الوسائل، وهي كلها: الاسطيطيقا والأخلاق والتقنيات تبحث في الموضوع الواحد نفسه : عن ابداع الممثل الأصيل.
السمة الأولى التي ذكرناها عن علم المسرح، تؤكد وتنمّي تلك المبادئ ذاتها، التي تمسك بها العديد من السابقين على ستانسلافسكي، في الفن الروسي الواقعي وفي الفكر الاجتماعي التقدمي الروسي عامة. فقد أفصح عن هذه الأفكار أكثر من مرة، بوشكين وغوغول وشيبين وأستروفسكي وتورجينيف وتولستوي ولينسكي وتشيخوف.
وستانسلافسكي الذي تربى على تقاليد الفن الواقعي، كان يقف في مواقع مشتركة لكل القوى التقدمية في المجتمع والفلسفة والعلم والفن. ويمكن تحديد هذه المواقع باختصار: غنية المحتوى، مفهومة،صادقة. واخلاص ستانسلافسكي لهذه المعالم يعرفها الجميع. فقد كتب في سنة ١90١ «هل تعرفون لماذا تركت أعمالي الخاصة واشتغلت في المسرح؟ لأن المسرح أقوى المنابر، وأقوى في تأثيره من الكتاب والصحافة. لقد وقع هذا المنبر بأيدي أوباش البشرية فحولوه الى مكان للعهر. وواجبي أن أعمل على قدر استطاعتي، لتنظيف عائلة الفنانين من الجهلة وغير المتعلمين والمستغلين. واجبي أن أشرح- على قدر استطاعتي- للجيل المعاصر، أن الممثل مبشر بالجمال والحقيقة».
يقول ستانسلافسكي ، كما سجل كلماته غورجاكوف : «تذكروا، أن واجبي أن اعلمكم عمل الممثل والمخرج الشاق، لا تزجية الوقت الممتع على الخشبة. اذ توجد مسارح ومناهج أخرى ومعلمون آخرون لهذا. فعمل الممثل والمخرج كما نفهمه، سيرورة ممضة، وليس «سعادة الابداع» التجريدية، التي يتكلم عنها الدخلاء على الفن في بياناتهم الفارغة. ان مجهوداتنا تعطينا الفرح حين نبدأها. انه فرح الادراك أننا نملك الحق، ومسموح لنا بممارسة العمل الذي نحب، الذي نذرنا له كل حياتنا. ان جهدنا يعطينا السعادة حين نقوم به، إذ نخرج مسرحية أو نمثل دورا، نكون قد قدمنا منفعة للمتفرج وأوصلنا له شيئا ضروريا ومهمّا لحياته ولتطوره. وباختصار، أعود الى كلام غوغول وشيبكين عن المسرح، التي سمعتموها مني مرارا وستسمعونها لاحقا». وهكذا، فان على المسرح أن يحمل محتوى يساعد المتفرج على أن يعيش ويتطور روحيا.
«ينبغي للفن أن يفتح العيون على المُثُل التي أبدعها الشعب نفسه. يأتي الكاتب، يأتي الفنان، ويرى هذه المثل فيخلصها من كل الشوائب فيلبسها شكلا فنيا ويقدمها الى ذلك الشعب الذي أبدعها، لكن في الشكل الذي، تصبح هذه المثل أفضل تمثلا،وأسهل فهما». وهكذا فان التوجه نحو اغناء المعني يُستكمَل بالتوجه نحو امكانية الفهم.
لكن «الشكل اليابس للموعظة أو المحاضرة ليست محبوبا. لن نقول أن المسرح مدرسة. كلا ، المسرح متعة. ولا يفيدنا أن نفقد هذا العنصر المهم. فليذهب الناس الى المسرح دائما طلبا للمتعة. لكنهم هاهم، قد أتوا، وأغلقنا عليهم الأبواب وأطفأنا المصابيح، وصار بامكاننا أن نصب في أرواحهم ما نشاء».
يقوم المسرح بمهمته الاجتماعية ـ التربوية فقط، حين يتمتع المتفرج بالمعرض المسرحي، وحين يحصل على المتعة الفنية في المسرح، وحين يستغل المسرح ذلك، فيقوم بالدعاية لتلك المثل التي «ابدعها الشعب نفسه».
ان التوجه نحو المفهومية مرتبط ارتباطا وثيقا بالتوجه نحو الصدق والكشف عن جوهرالأحداث المعروضة في العمل الفني.
يقول سالتيكوف ـ شيدرين : « نلاحظ أن الأعمال الفنية التي تنتمي الى المدرسة الواقعية تعجبنا، وتثير فينا التعاطف، وتلامس مشاعرنا وتهزنا ، وهذا وحده يمكن أن يكون اثباتا كافيا أن في هذه الأعمال شيئا ما، أكثر من مجرد التقليد. وفعلا، يصعب على العقل الانساني أن يكتفي بالنقل العاري للعلامات الخارجية: انه يتوقف على العلامات الخارجية بالصدفة فقط، ولفترة قصيرة جدا. انه ينقب في كل مكان، وحتى في أتفه التفاصيل عن ذلك الفكر الحميمي، تلك الحياة الداخلية، التي تعطي -وحدها- للواقعة ، المعنى الحقيقية والقوة».
ان ما يسميه سالتيكوف ـ شيدرين «الفكر الحميمي» و«الحياة الداخلية» و«المعنى الحقيقي والقوة» هو نفس ما يسميه ستانسلافسكي -في الحقيقة- «حياة الروح الانسانية» ، الوظيفة الابداعية الرئيسة للفن». ان ستانسلافسكي وسالتيكوف ـ شيدرين يتكلمان عن جوهر الظاهرة التي ينبغي للكاتب والفنان ولكل مبدع أن يعبر عنها، ويحققها بحيث تصبح قابلة للرؤية وللسمع، وقابلة للاستقبال المباشر، لكي تكون مفهومة للقارئ والمتفرج والسامع.
ان الفنان اذ يستعيد ظاهرة الحياة الحقيقية لا «ببرود» أو بدون احساس، محاولا عرض جوهرها، يصبح معبرا عن فكرة معينة، معلما، مربيا للشعب. ان وجهة نظره وموقفه الاجتماعي وموقفه السياسي تتكشف في تأكيده جوهرا معينا - بالتحديد- في الظاهرة التي يصورها، وفي تأكيده ظاهرة معينة -بالتحديد- كظاهرة نمطية.
ان تقاليد العاملين في ثقافة ما قبل الثورة، كانت تتوجه نحو غنى المحتوى والمفهومية والصدق، التي أكدها ستانسلافسكي أيضا، مؤشرا وحدة اتجاهها، قادت (تقاليد العاملين) الى تكاملها الفني المتصل.
«المسرح قوة جبارة للتأثير النفسي على جماهير الناس، الباحثين عن التواصل. المسرح مدعو لتصوير حياة الروح الانسانية، وهو يستطيع تطوير وتهذيب الشعور الجمالي». هذه الكلمات كتبها ستانسلافسكي في سنتي ١٩١٣ ـ ١٩١٤ . وقد طور وحدد -أثناء كل حياته- ذلك المفهوم للفن والمسرح الذي ورثه عن غوغول وشيبكين وأسترفسكي، ودافع عنه بصلابة لا تتزعزع : الفن المسرحي هو شكل خاص للنشاط الاجتماعي : الممثل هو شخصية اجتماعية وخادم لشعبه.
وهكذا، فان العلم الذي أبدعه ستانسلافسكي يجيب عن سؤال «تحديد الأهداف»: لماذا يحتاج الناسُ المسرح؟ اذا نظرنا الى المنهج كعلم، فان تابعيته لوظائف الفن عامة، واضحة للعيان. ولهذا تسمى هذه الآراء «اسطيطيقا منهج ستانسلافسكي».
ان «الجهة» الجمالية للمنهج،تتحول عفويا الى التالية: ان ادراك أهداف الفن المسرحي يولد متطلبات جمالية، من أولئك الذين يريدون ابداع هذا الفن.
ننظر الآن الى منهج ستانسلافسكي من جهة ثانية. ويسمون هذه الجهة في العادة، قواعد سلوك منهج ستانسلافسكي. انها تنير دائرة واسعة من الأسئلة: كيف يجب أن تكون وجهة نظر الممثل وثقافته العامة وتعليمه، وكيف يكون تبعا لذلك تصرفه في المسرح وفي الحياة العامة وفي الحياة اليومية، كيف تكون صورته الأخلاقية؟. كل هذا المركب من الأسئلة يقود في نهاية المطاف الى شيء واحد: كيف ينبغي أن يكون الممثل نفسه ليمتلك الحق والامكانية على الابداع في الفن، طبقا لوظيفته الاجتماعية؟.
يؤكد علم المسرح - على الضد من التحامل المثالي القديم - وجود اعتماد متبادل غاية في التعقيد مع أنه مخفي أحيانا، لكنه لا يقهر، بين ذلك الذي يشكله كل ممثل معين (من حيث وجهات النظر والثقافة والحياة اليومية وما الى ذلك) وذاك الذي يمكن أن يبدعه في الفن. هذا الاعتماد معقد جدا، ثم ان «سلوك منهج ستانسلافسكي» يشكل قسما كاملا من المنهج.
يقول ستانسلافسكي : «أنا أحاول ادخال منهج معين في عملية تربية الممثل وعمله على نفسه، لكن ينبغي أن يُحدد منهج معين لآراء وأحاسيس أي مبدع يبحث في ابداعه عن الحقيقة، ويريد أن يكون مفيدا للمجتمع من خلال عمله». هذه «الآراء والأحاسيس» عبر عنها ستانسلافسكي بمعادلة مختصرة: «ينبغي أن تتمكنوا من محبة الفن في أنفسكم، لا أن تحبوا أنفسكم في الفن». لكن المعادلة تأخذ أهميتها الحقيقية حين يُفهم الفن كما فهمه ستانسلافسكي.
من هنا تنبع المتطلبات الواسعة من الممثل. فاذا كان المطلوب من الفن الكشف عن جوهر الظواهر، فان على الممثل أن يجد هذا الجوهر. فكيف سيستطيع ذلك ان لم يتقن وسيلة الادراك التقدمية لكل عصر، واذا لم يتمكن من ثقافة عصره التقدمية ويمتلك أفقا واسعا؟
اذا كان المطلوب من الفن خدمة الشعب، فان على الممثل أن يعرف حاجات ومصالح شعبه. فكيف سيعرفها ان لم يعش حياة شعبه ولم يشاركه همومه وتطلعاته؟
واذا كان الممثل يريد أن يقوم بواجبه الاجتماعي، فكيف يستطيع أن لا يثمن تقنيات فنه، أي أدواته الحرفية للقيام بهذا الواجب؟ كيف يمكن أن يسكت على نواقص صنعته؟ كيف يمكن أن يهمل أية فرصة لتكامل تقنياته الخارجية والداخلية؟
وتبعا لذلك، فان «حب الفن في نفسك» يعني السعي حقا، للتنفيذ الأمثل لواجباتك كفنان ـ مبدع ، كفنان ـ مواطن، والتخلص من أي زمان ومكان للاهتمام بمصالحك الأنانية الخاصة وما الى ذلك.
علم المسرح يدرس النظم الطبيعية لـ « عمل الممثل على نفسه» بالمعنى الأوسع لهذه الجملة. الكلام يدور ثانية هنا، حول القوانين العامة. ولهذا سيكون عن طرق واتجاهات عمل الممثل على نفسه، أكثر منه عن المتطلبات المعيارية. الطريق الذي يقترحه ستانسلافسكي لا نهائي، يسعى نحو المثال، لكنه ملموس في الآن ذاته. ويستطيع كل ممثل السير على هذا الطريق الى الأمام كل يوم - حرفيا- ما دام يمتلك الارادة الابداعية.
لقد شرح ستانسلافسكي هذا القسم من العلم على شكل دعوات وتمنيات وطلبات من الممثل بصفته محترفا ومتخصصا في حرفته.
تورجينيف كتب (وكان يمكن أن يقول ستانسلافسكي ذلك): «فيما يخص الجهد: فبدونه وبدون العمل الشاق سيبقى أي مبدع مجرد هوّي: ولا معنى هنا لانتظار ما يسمى بلحظات الالهام، فاذا جاءت فأهلا بها، وان لم تأت ..اعملوا على أي حال: ولا يكفي العمل على الشيء الذي تمارسوه فقط، لكي يعبر بالتحديد عن ما تريدون التعبير عنه بتلك الدرجة وذلك الشكل الذي تريدون، بل ينبغي لكم أن تقرأوا وتدرسوا بدون انقطاع والتعمق بكل ما يحيط بكم، وأن لا تكتفوا بمحاولة اقتناص الحياة في كل تمظهراتها، بل وينبغي أن تفهمونها وتدركوا تلك القوانين التي تحركها والتي لا تظهر على السطح دائما، وينبغي الوصول الى النماذج من خلال لعبة الصدف، والبقاء - مع ذلك- مخلصين للحقيقة، ويجب عدم الاكتفاء بالدراسة السطحية، وينبغي الابتعاد عن الزيف والمؤثرات الاستعراضية. الكاتب الموضوعي يحمل على عاتقه حملا ثقيلا، لذا يجب أن تكون عضلاته قوية».
لقد طبق ستانسلافسكي هذه المتطلبات العامة من كل مبدع موضوعي ، على الممثل، ونماها وفصلها. وبذلك أوضح ماذا تعني «محبة الفن في نفسك» بالنسبة للمثل، وماذا عليه أن يعمل، اذا كان فعلا يحب الفن في نفسه، لا نفسه في الفن.
ممتع أن نقارن معادلة ستانسلافسكي هذه مع كلمات ليوناردي دافينتشوا : « حقا ان الحب العظيم تولده المعرفة العظيمة لذلك الموضوع الذي تحب، وان لم تدرسه فلن تستطيع محبته أو ستحبه قليلا، وأما اذا أحببته بسبب الهبات التي تنتظرها منه، لا بسب صفاته الخاصة، فأنت تتصرف مثل الكلب الذي يهز ذيله أمام من يعطيه عظما».
العلم الذي أبدعه ستانسلافسكي يسلّح الممثل بـ «معرفة الموضوع»، ولهذا فهو يفترض «حبا عظيما»، يولده ويتطلبه.
لو تكوّن العلم عن المسرح من القسمين الذين تحدثنا عنهما، لسلّح -في هذه الحالة - الممثل بالتصورات عن النماذج من المسرح المثالي والممثل المثالي. ومع صحة هذه التصورات يصعب أن نسميها علما بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. ذلك أن على العلم أن يرينا الطريق الملموس، المسبَّب موضوعيا، والتفصيلي الى الهدف.
يقول ستانسلافسكي: «ان صعوبة وتعقيد فننا تكمن في أننا نعرف ما هو الصحيح وما هو الضروري وما هي الفكرة التي ينبغي أن تنطلق من الخشبة. لكننا لا نعرف ولا نحسن كيف نكسوها في شخصية مسرحية وكيف نضعها ضمن موضوع، في فعل مسرحي، كيف نعبر عنها في طبع وتصرفات البطل».
«بين الفكرة ، القانون، الأساس الجديد -مهما كانت هذه كلها صحيحة- وتحقيقها، مسافة هائلة. ولتقريب هذه المسافة ينبغي العمل كثيرا وبجد على تقنيات فننا، التي لا تزال في مرحلة بدائية».
عند مراجعتنا الجزءين أو الوجهين الأوليين من منهج ستانسلافسكي، رأينا التقاليد بوضوح. العلم الحديث في هذين الجزءين يعتمد على ارث غني. لكن الأمور في الجزء الثالث ليست على هذا المنوال. ذلك أن هذا القسم لم يبحث قبل ستانسلافسكي تقريبا.
فقد ذكر : « على الرغم من جبال من المقالات المكتوبة والكتب والمحاضرات والملخصات عن الفن، وعلى الرغم من بحوث المجددين باستثناء بعض ملاحظات غوغول وبعض سطور رسائل شيبكين ، فليس لدينا شيء مكتوب يمكن أن يكون ضروريا ومفيدا -عمليا- بالنسبة للفنان في لحظة تحقيق ابداعه، أو يمكن أن يكون مرشدا للمدرس في لحظة لقائه مع الطلبة. فكل المكتوب عن المسرح، مجرد فلسفة، ممتعة أحيانا، تتكلم بشكل رائع عن النتائج التي ينبغي الوصول اليها في الفن، أو نقد يبحث جدارة أو عدم جدارة النتائج المحرزة.
كل هذه المجهودات قيمة وضرورية، لكن ليست للممارسة العملية المفيدة، لأنها تسكت عما ينبغي عمله في الأوان الأول والثاني والثالث مع الطالب المبتدئ الخالي من التجربة، أو -بالعكس- مع الممثل الذي أفسدته التجربة الفائقة. ما هي التمارين التي تشبه تمارين الصولفيج، الضرورية له؟ ما هي السلالم الموسيقية التي يحتاجها الفنان لتطوير مشاعر الابداع والمعاناة؟ اذ ينبغي تعدادها بالأرقام -بدقة- في كتيبات الوظائف اليومية لغرض التمارين المنهجية في المدرسة وفي البيت. لكن الأعمال والكتب التي تتحدث عن المسرح تسكت عن ذلك، وتخلو من الارشادات التطبيقية».
القسم الثالث للمنهج ، اي الجهة التي نراجعها الآن، قد أعاد ستانسلافسكي -في الحقيقة- بناءها من جديد. ويمكن تسمية هذا القسم: «علم عن التقنية، علم عن المهارات، أو تكنولوجيا فن التمثيل».
واذ ابدع ستانسلافسكي هذا العلم فقد سار الى الهدف مباشرة.
بداية البحث، والنتائج الأولى اختلفت عن المرحلة النهائية اختلافا دراماتيكيا. فمن تخمينات عبقرية ومحاولة تسويغها عن طريق السيكولوجيا، التي كانت هي نفسها تهوم في الظلام، الى علم متساوق يعتمد على العلم المادي التقدمي، مفسرا أكثر مسائل التقمص والمعاناة تعقيدا. هكذا كان درب تطور هذا القسم من المنهج. والآن فقط، بعد المرور بهذا الدرب، صار المنهج -في الحقيقة- علما. الآن صار موضوعه ، أي السيرورة الموضوعية لفن التمثيل، مُنارا من جميع الجهات، كسيرورة بالتحديد، كنشاط متخصص.
لقد ألقينا نظرة عجلى على البناية الجليلة لعلم المسرح، ووصّفنا أوجهها الثلاثة بملامحها العامة، لكننا لم نستعمل مطلقا، عبارات ستانسلافسكي المعروفة جيدا، «الهدف الأسمى» و« الفعل المتحكم» (الترجمة الحرفية هي الفعل المُختَرِق، لكني آثرت ترجمتها الى الفعل المتحكم..المترجم). ترى كيف كان ذلك ممكنا، ولماذا؟ وعند بحث أي من الوجوه، كان علينا أن نتوقف عند هذه المفاهيم؟
كان ستانسلافسكي يسمي «المركز الرئيس»، «العاصمة» ، «قلب المسرحية» ، «الهدف الرئيس الذي أبدع الشاعر من أجله عمله الفني ، والذي مثل الفنان من أجله أحد أدوار المسرحية»،يسمي ذلك كله «الهدف الأسمى».
«ترى أين علينا البحث عن هذا الهدف؟
ـ في روح الشاعر وفي روح الفنان، أي في الدور.
أو بكلمات أخرى، ليس في الدور فقط، بل في روح الفنان نفسه».
وكان ستانسلافسكي يسمي «السعي خلال المسرحية كلها» نحو الهدف الأسمى «الفعل المتحكم». وكتب : « ان خط الفعل المتحكم يوحد ويخترق، مثل خيط ينتظم قلادة،كل العناصر ويوجهها الى الهدف الأسمى العام، الذي يوضع كل شيء في خدمته».
هذه التعريفات الأكثرعمومية واختصارا للهدف الأسمى وللفعل المتحكم، تستطيع أن تعطي اجابات للأسئلة المطروحة في أعلاه.
ان العلم عن الهدف الأسمى وعن الفعل المتحكم ليس جهة أو قسما أو فصلا من منهج ستانسلافسكي كعلم، انه جوهر ولب هذا العلم كله. انه كل ما يتفصل وما يتحدد ويتطور في كل قسم أو فصل من المنهج، في كل وضع من أوضاعه. انه ما يشع من المنهج عند تدقيق النظر من أية جهة كانت.
اذا نظرنا- بكل الخصوصيات والتفاصيل- الى مسألة ما هو المسرح وما هي ضرورته وبماذا يختلف المسرح الجيد عن المسرح السيئ، لوصلنا الى الدور الحاسم للهدف الأسمى والفعل المتحكم.
واذا درسنا بنزاهة مسألة كيف ينبغي للممثل أن يكون ليتمكن من أداء مهمته، سنصل ثانية الى الدور الحاسم للهدف الأسمى والفعل المتحكم.
واذا تعمقنا -أخيرا- في تعاليم ستانسلافسكي عن تقنية فن الممثل، فسنصل هنا أيضا، الى الهدف الأسمى والفعل المتحكم. ذلك أن كل التقنية وكل المهارة كما فهمها ستانسلافسكي هي تقنية ومهارة العثور على الهدف الأسمى والفعل المتحكم في المسرحية وفي داخل الممثل نفسه، وتحقيقهما.
ولهذا «فان كل ما موجود في «المنهج» ضروري بالدرجة الأولى، للهدف الأسمى وللفعل المتحكم». «الهدف الأسمى والفعل المتحكم، ذلك هو الأرأس في الفن». «في الهدف الأسمى والفعل المتحكم يكمن كل شيء».
لكن منهج ستانسلافسكي ما كان ليكون علما، لو انه أكد هذه الحقيقة واكتفى بذلك. ان منهج ستانسلافسكي علم، فقط لأنه يكشف عن النماذج الطبيعية الكثيرة والمعقدة، النابعة من هذا القانون العام والمتعلقة بمختلف الجهات لتلك الظاهرة التي يدرسها، المعقدة بأقصى ما يكون التعقيد، لكنها في جوهرها موحدة : ظاهرة ابداع الممثل.
العلم لا يكتفي بالاقرار بالوقائع: النار تدفئ، الماء يجري، الأجسام لها وزن، بدون الهدف الأسمى والفعل المتحكم، لا يمكن أن يوجد فن تمثيلي كامل القيمة. العلم يكشف النماذج الطبيعية المعينة، التي تنوجد -نتيحة لها- الظواهر المدروسة، ويعرض في ماذا، وأين، ومتى، ولماذا. وبأية درجة تتكشف هذه القوانين.
منهج ستانسلافسكي يسلِّح الممثل، لا لأنه يدعو الى الموافقة على المبدأ العام، المعروف -بالمناسبة- قبل ستانسلافسكي بمدة طويلة، مع أنهم كانوا يطلقون عليه كلمات أخرى، بل لأنه يكشف نماذج طبيعية عديدة مختلفة محددة، تحكم السيرورة الابداعية، التي تقود الى تحقيق الفعل المتحكم والهدف الأسمى.
بعد كل ما قيل، ينبغي أن يكون قد أصبح واضحا ضعف السؤال المطروح حول أي أوجه المنهج أكثر أهمية: الأسس الفكرية أم قواعد السلوك أم النظريات حول التقنية والمهارة؟
هذا السؤال يشبه التالي: ما هو الأكثر أهمية للجسد الانساني: الدورة الدموية أم الجهاز الهضمي أم المنظومة العصبية؟ أو ما هو الأكثر أهمية: الفكرة أم تحقيقها؟
هذه الأسئلة -من ناحية المبدأ- عبثية بالدرجة ذاتها، لكن في التطبيق يحدث أن تكون عند الشخص المعين الدورة الدموية والجهاز الهضمي طبيعيين، في حين تكون المنظومة العصبية مختلة، أو ان الشخص المعين يحقق الفكرة من غير أن يفهمها فهما تاما. ما دامت هذه العيوب التفصيلية صغيرة فانها لا تدمر الكل. أما حين تتعدى حدودا معينة، فانها تصبح قاتلة.
الانسان الذي يحقق الفكرة تحقيقا أعمى يمكن أن يتوه بسهولة، وأن يرتكب الكثير من الأخطاء، ويمكن أن يبتعد عن الفكرة ويؤذيها من غير أن يقصد ذلك. والمنظومة العصبية المختلة ستقود لا محالة الى مرض الجسد كله، ومن ثم الى موته.
وهذا ما يحدث مع منهج ستانسلافسكي. فكل من «الجهات» الثلاث التي أفردناها اصطلاحا، تغني وتكمل أي واحدة أخرى. وحرمان المنهج أيا من هذه الجهات، يعني تدميره كعلم. لكن في ممارسة هذا المسرح أو ذاك، هذا الممثل أو ذاك، يمكن أن يكون الوضع أفضل في هذه الجهة أو تلك، لكن حتى حد معلوم. فبعد هذا الحد، أي عيب في اي جهة يخرب الكل. وعندئذ لا يعود بالامكان القول ان هذا المسرح أو هذا الممثل يلتزم بمنهج ستانسلافسكي بأية درجة كانت.
ان أي اهمال لأية جهة أو عدم الالتزام بها، هو عدم التزام بالكل،هو تشويه واخلال بالمنهج، واستبدال للعلم بتصورات مغلوطة خاصة عنه.
فاذا كان المسرح أو الممثل الفرد مثلا، يؤكدان أنهما مخلصان لقواعد السلوك وللأفكارعند ستانسلافسكي، لكنهما يهملان نظرياته حول التقنية والمهارة، فان هذا يشكل برهانا ساطعا على أنهما يفهمان المبادئ التي يعترفان بها فهما سطحيا خاليا من الشعور بالمسؤولية، وفي النتيجة النهائية خاطئا، حتى لو كانا يحفظان كل هذه المبادئ عن ظهر قلب. واذا كان المسرح أو الممثل -على العكس من ذلك- يؤكدان أنهما يتبعان نظريات ستانسلافسكي عن التقنية والمهارة اتباعا دقيقا، لكنهما يهملان مبادئ السلوك والأفكار، فهذا يبرهن على انهما يفهمان التقنية لا كما فهمها ستانسلافسكي. وهذا يعني أنهما يمارسان تقنية ومهارة، لكنها ليست التقنية والمهارة اللتان اشترطهما العلم عن المسرح، حتى وان استعارا الاصطلاحات من هذا العلم.
وتبعا لذلك، ففي الممارسة تكون هذه الجهة بالنسبة لهذا الممثل أو المسرح أهم من تلك التي يهملها. أي ان قلة الاهتمام بأي جهة أو جزء من المنهج ، يعني في النهاية، عدم الاهتمام بالهدف الأسمى والفعل المتحكم، أو عدم فهم المعنى الدقيق لهذين المفهومين.
ولهذا مهم جدا عند الاقتراب من دراسة منهج ستانسلافسكي -قبل كل شيء- تبني وحدته وتعقده، أي الاقتراب منه بصفته علما، لا كقائمة من الوصايا، التي يمكن قبول بعضها ورفض الأخرى.
.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق