مجلة الفنون المسرحية
لا يقود الحديث عن هوية وانتماء وجدي معوّض إلى مولد في لبنان، وانتقال مع العائلة إلى فرنسا، ثم إلى كندا، فحسب؛ بل إلى نتاج اشتغالاته النصية المسرحية كذلك. هي اشتغالات اتسق فيها الخطاب المعرفي الغربي، حيث تكوّنت شخصيته وتجربته، مع لوثة من الصور اللبنانية العالقة في ذاكرته. هذه الصور التي أنتجتها الحرب الأهلية، بقيت هاجساً لديه، كواحد من جيل فنانين وكتاب راح يحاول تفريغ هذه الذاكرة من مشاهداتها ومخلفاتها في الفن والكتابة، علّها تتماثل للشفاء.
هكذا، راح معوّض، المولود في بلدة دير القمر في جبل لبنان عام 1968، يحرّك الصور الثابتة في مخيلته، والتي لا تحمل إلا القسوة والدمار، على وقع حياة جديدة ستتيح له الدراسة والانفتاح على آفاق مسرحية وفنية واسعة، واتخاذ مكان هادئ وآمن يراقب العالم منه، بما فيه بلده، لبنان، الذي لا يغيب عن أعماله.
بدأ مشواره في مونتريال عام 1992، حين أخرج مسرحيتين حملتا توقيع شقيقه ناجي، تأليفاً. تابع بعدها عمله كمخرج وكاتب مسرحي، إلى أن بدأ اسمه يترك صدى إيجابياً واسعاً في كندا.
تواريخ عدة عرفتها مسيرة المهاجر اللبناني، بدءاً من إطلالته الفرانكفونية الأولى، عام 1994، حين عرض مسرحية "ألفونس" في فرنسا، تأليفاً وتمثيلاً، مروراً بـ"ساحل" (1999) التي فاز عنها بـ"جائزة موليير". وفي هذا العمل، يعود معوّض ليدفن جثمان والده في بلده الأصلي، غير أن البلاد ستضيق بجثة أبيه، هي وأهلها الذين يرفضون استقبال الجثمان، ما سيدفعه إلى اتخاذ قرار برمي الجثة في البحر، مشرعاً ذاكرته على البوح بما عاشته بلاده في فترة الحرب وما قبلها.
مسرحية "حرائق"، التي سيقدّمها لأوّل مرّة عام 2003، ويعيد عرضها عدة مرات لاحقاً، يمكن تسميتها برائعته. هي جزء من ثلاثية حل بها كضيف شرف على "مهرجان أفينيون" عام 2009، وعرَضها في ليلة واحدة بـ"ساحة الشرف" في "قصر البابوات" في المدينة الفرنسية، ما عُدّ حينها تتويجاً لتجربته واشتغالاته المسرحية. وعرفت "حرائق" تألقاً في السينما أيضاً، إذ حوّلها إلى الشاشة الكبيرة المخرج الكندي دوني فلينوف، فنال العمل جائزة أفضل فيلم كندي لعام 2010، بحسب جمعية نقاد تورنتو، كما نافس في ترشيحات "أوسكار" عن فئة أفضل فيلم أجنبي في العام نفسه.
هذه الرحلة الطويلة المتميزة في الخارج، ستقود الفنان اللبناني إلى عودة نحو بلده، بدعوة من مهرجان "ربيع بيروت" وجهت إليه العام الماضي، ليقدم ثلاثة أعمال، هي "حرائق" و"وحيدون" و"الحارسة". تألق معوض كعادته، ومسّ الجمهور، الذي رأى من عاش الحرب الأهلية منه جراحه وقد صعدت إلى الخشبة لتصبح فناً راقياً.
إضافة إلى كونه مؤلفاً مسرحياً غزير الإنتاج، كان معوض، وما يزال، دراماتورجاً مخضرماً. اشتغل على نصوص تعدّ من أيقونات المسرح المكتوب عبر التاريخ، مثل "ماكبث"، و"الشقيقات الثلاث"، و"المفتش العام". هكذا، طوّع الفنان تلك الأعمال لتحمل رؤى وأفكار زمنه، كما تصدى لأعمال سوفوكليس، فقدّمها برؤيته الذاتية. ذلك ما يميز اشتغالات معوض النصية: تطويع التاريخ وإنزاله من عتبة المقدّس، ليصير معاشاً، حتى وإنْ وُسمت شخوصه بأسئلة فلسفية كبرى، تشغل عادة الأبطال التراجيديين الكلاسيكيين، من دون أن يعوا ذلك، وهنا تكمن مأساة تلك الشخصيات.
لا يزال معوض، يوماً بعد آخر، يفرض نفسه ككاتب مسرحي من طراز رفيع. ففي أعماله، تنتصر اللغة على شعريتها، لتعلن، دائماً، تفوق الكلمة على دلالتها، وذلك ضمن عالم درامي خاص بالفنان. كما أن الكلمة تمثّل لديه آلة بصرية تتكئ عليها شخوصه المسرحية لصياغة موقفها من هذا العالم. هكذا، تبدو الشخصيات الإنسانية في أعمال صاحب "ألفونس"، كائنات لغوية، غير قادرة على العيش خارج الكلمات. ويكمن صراع هذه الشخصيات في رغبتها بالتحرر من سلطة الكلمة ودلالاتها. وقد برع معوض في تجسيد هذا الصراع في كتاباته، من دون إغفال تكامل موهبته المسرحية، الموهبة التي تجتمع فيها الكلمة الساحرة مع الفلسفة الإخراجية الخاصة، إلى جانب الأداء التمثيلي الهادئ والرصين.
في العام 2009، شهد عمل معوض المسرحي تحولاً واضحاً، عبر استكشافه موضوع العائلة من خلال سينوغرافيا لا تتطلب سوى ممثل واحد أو ممثلَين اثنين. في هذا السياق جاءت "وحيدون" (2009)، وأخيراً مسرحية "أخوات"، التي سيجري عرضها انطلاقاً من 4 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل على ثلاثة مسارح فرنسية؛ علماً أن معوض لن يتوقف عند هذا الحد في ملاحقة موضوعه، بل سيستتبع هذين العملَين بعمل ثالث بعنوان "إخوة"، فعمل رابع وأخير بعنوان "أب وأم".
العام الماضي، وفي محج المسرحيين، "مهرجان أفينيون"، قدّم معوض عمله "موعد مع وجدي معوض"، واحتفي به إلى جانب نجوم مسرحيين، مثل ساشا فالس، وبيتر بروك، وجوزف نادج، وتوماس أوسترماير. هكذا، احتشد الجمهور، الذي وصل قبل ساعات من العرض، لمشاهدة العرض الخاص، الذي يحمل اسم كاتبه. همهات الواقفين ونقاشاتهم حول معوض، الحاضر مع رموز الخشبة المعاصرة، كانت تتعالى شيئاً فشيئاً أمام صالة المسرح، وكانت تجمعها جملة واحدة، هي ذاتها الجملة التي تشكل مدخلاً لقراءة أعمال الفنان: "وجدي معوض، مسرحي كندي، أصله لبناني".
احمد باشا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق