مدونة مجلة الفنون المسرحية
لا يمرّ عام دون أن تشهد العاصمة الفرنسية عروضاً لمسرحيات الكاتب البريطاني الراحل هارولد بنتر (1930 ـ 2008)، هو الذي كان زائراً دائماً لباريس، وشبه مقيم فيها، وغالباً ما كان روّاد مسرحياته هنا يحظون بالمصادفة السعيدة في اللقاء به خلال أحد العروض. ومسرحيته الشهيرة «الحارس» من إخراج آن فوتي وتمثيل باتريك ألاغيراتيغي وجان ـ فيليب ماري وجاك روسي، تعرض مجدداً الشهر المقبل على مسرح أكتيون، بعد أن افتُتحت عروضها بالفريق نفسه السنة الماضية على مسرح ديشارجور.
وجاء في التعريف بالنصّ: «ذات ليلة شتائية، يقترح الشقيقان ـ الكبير أستون والصغير ميك، وكلاهما أغرب من الآخر ـ على ديفيز، العجوز المتشرد، أن يصبح حارس بيتهما. ما الهدف؟ وهل هما شقيقان حقاً؟ ومن هو ديفيز حقيقة». أما شعار المسرحية فهو لا يقل تشويقاً: «نحن لا نعرف من يتبدى خلف الباب، أليس كذلك؟». المسرحية ترسم عالماً داكناً، لشخوص عزلاء، تتآكل تحت وطأة أشكال شتى من العنف الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، وتنتظر معجزة ما، تصنعها واقعة غامضة ما، في زمن منفلت من المنطق، وفي سياقات لا حدود لقسوتها الإنسانية. ولقد شاءت المخرجة تظهير مجتمع بأسره من خلال شبكات التوتر التي تعصف بالشخصوص الثلاثة، والتقطت جيداً تلك الرسائل النقدية، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، التي يحرص بنتر على تضمينها في مسرحياته.
والأرجح أنّ بنتر كان، ساعة رحيله، أعظم كاتب مسرحيّ حيّ في اللغة الإنكليزية، وأحد كبار أدباء عصرنا؛ ولم يكن غريباً أن يدخل إلى الإنكليزية، وإلى قاموس أكسفورد أيضاً، اصطلاح الـ Pinteresque المنحوت من اسم بنتر، والذي يفيد ذلك المناخ الدرامي الإنساني الخاصّ، المعقد والبسيط، المحليّ والكوني، الفردي والجمعي، الرحب العريض والضيّق حبيس الحجرة الواحدة، في آن معاً. ولم يكن بغير مغزى أن الأكاديمية السويدية توقفت عند هذا النحت مراراً وهي تطري بنتر، حين منحته نوبل الأدب لسنة 2005، بل واستزادت عليه حين نحتت مصطلحاً ثانياً هو «الأرض البنترية» Pinterland، ذات «الطبوغرافية المميزة، حيث تتمترس الشخصيات خلف حوارات مباغتة، وبين سطور تهديدات لا حلّ لها يكون ما نسمعه علامات على كلّ ما لا نسمعه» حسب ما جاء في حيثيات منح الجائزة.
وبالطبع، عُرف بنتر ككاتب مسرحي ردّ المسرح إلى عناصره الأساسية، مثل الفضاء المغلق والحوار الصاعق والأنماط البشرية التي تخلق الدراما الكثيفة حين تتصارع وتتقاطع وتتلاقى وتفترق، ضمن خطوط حبكة في الحدود الدنيا، وتنويع عريض لأساليب مسرح العبث والمسرح الطبيعي والواقعي وتقاليد الفرجة. كما لعب دوراً حاسماً في إغناء مدارس الإخراج المسرحي، وكتابة السيناريو السينمائي والتمثيلية الإذاعية؛ فضلاً عن مواقفه السياسية الشجاعة، وأنشطته في ميادين الحريات العامة وحقوق الإنسان.
ما يجهله كثيرون، في المقابل، هو أنّ بنتر بدأ شاعراً، بل وكانت القصيدة هي أوّل منشوراته، قبل أن ينخرط أكثر فأكثر في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج. وقصيدته «السنة الجديدة في ميدلاندز» والتي كُتبت في مطالع الصبا، تذكّر كثيراً بمشهد الحانة في قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة «الأرض اليباب». وغنيّ عن القول إنّ معظم قصائد تلك المرحلة كانت تعكس مناخاً درامياً واضحاً، وكانت بذلك تنذر بالخيار الرئيسي الذي سيقتفيه هذا الفنّان الكبير: المسرح. وفي تكريم هذا الجانب من إبداعه، يقدّم الممثل البريطاني جوليان ساندز («حقول القتل»، «غرفة تطل على منظر»، «فاتيل»، بين أفلام أخرى)، قراءات من أشعار بنتر، بإخراج الممثل الأمريكي جون مالكوفيتش(«أماكن في القلب»، «في خط النار»، «مملكة الشمس»، «عن فئران ورجال»…)؛ على مسرح جامعة إموري، في أتلانتا، جورجيا، ضمن فعاليات مهرجان مكرّس بأكمله لفنون بنتر.
ولد بنتر سنة 1930 في هاكني، وهي منطقة عمالية صغيرة قرب إيست إند في لندن. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية جرى إخلاء الحيّ، وعاد ثانية إلى لندن وهو في الرابعة عشرة، وسيقول إنه لن ينسى أبداً مشاهد القصف الجويّ التي عاشها، والتي ستجعله مناهضاً للحروب بصفة عامة، وتدفعه إلى رفض أداء الخدمة العسكرية (أشفق القاضي عليه فاكتفى بتغريمه 30 جنيهاً بدل السجن). في عام 1950 بدأ ينشر في مجلة Poetry التي كانت تصدر في لندن، باسم مستعار هو هارولد بنتا. ثمّ عمل ممثلاً ثانوياً في الـ BBC ، وبعد أربع سنوات من التجوال في إرلندا والمسارح الريفية كتب «الحجرة» لصالح جامعة بريستول (وأنهى النصّ في أربعة أيام!)، ثمّ كتب تمثيلية للإذاعة بعنوان «ألم طفيف»، إلى أنّ أنجز أولى مسرحياته الطويلة «حفلة عيد الميلاد»، وتوالت بعدها نصوصه المسرحية الكبيرة التي جعلت منه أحد أعظم مسرحيي هذا العصر. وكان متزوجاً من المؤرخة الشهيرة ليدي أنتونيا فريزر، وظلّ حتى رحيله يعيش بين لندن وباريس.
وجاء في التعريف بالنصّ: «ذات ليلة شتائية، يقترح الشقيقان ـ الكبير أستون والصغير ميك، وكلاهما أغرب من الآخر ـ على ديفيز، العجوز المتشرد، أن يصبح حارس بيتهما. ما الهدف؟ وهل هما شقيقان حقاً؟ ومن هو ديفيز حقيقة». أما شعار المسرحية فهو لا يقل تشويقاً: «نحن لا نعرف من يتبدى خلف الباب، أليس كذلك؟». المسرحية ترسم عالماً داكناً، لشخوص عزلاء، تتآكل تحت وطأة أشكال شتى من العنف الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، وتنتظر معجزة ما، تصنعها واقعة غامضة ما، في زمن منفلت من المنطق، وفي سياقات لا حدود لقسوتها الإنسانية. ولقد شاءت المخرجة تظهير مجتمع بأسره من خلال شبكات التوتر التي تعصف بالشخصوص الثلاثة، والتقطت جيداً تلك الرسائل النقدية، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، التي يحرص بنتر على تضمينها في مسرحياته.
والأرجح أنّ بنتر كان، ساعة رحيله، أعظم كاتب مسرحيّ حيّ في اللغة الإنكليزية، وأحد كبار أدباء عصرنا؛ ولم يكن غريباً أن يدخل إلى الإنكليزية، وإلى قاموس أكسفورد أيضاً، اصطلاح الـ Pinteresque المنحوت من اسم بنتر، والذي يفيد ذلك المناخ الدرامي الإنساني الخاصّ، المعقد والبسيط، المحليّ والكوني، الفردي والجمعي، الرحب العريض والضيّق حبيس الحجرة الواحدة، في آن معاً. ولم يكن بغير مغزى أن الأكاديمية السويدية توقفت عند هذا النحت مراراً وهي تطري بنتر، حين منحته نوبل الأدب لسنة 2005، بل واستزادت عليه حين نحتت مصطلحاً ثانياً هو «الأرض البنترية» Pinterland، ذات «الطبوغرافية المميزة، حيث تتمترس الشخصيات خلف حوارات مباغتة، وبين سطور تهديدات لا حلّ لها يكون ما نسمعه علامات على كلّ ما لا نسمعه» حسب ما جاء في حيثيات منح الجائزة.
وبالطبع، عُرف بنتر ككاتب مسرحي ردّ المسرح إلى عناصره الأساسية، مثل الفضاء المغلق والحوار الصاعق والأنماط البشرية التي تخلق الدراما الكثيفة حين تتصارع وتتقاطع وتتلاقى وتفترق، ضمن خطوط حبكة في الحدود الدنيا، وتنويع عريض لأساليب مسرح العبث والمسرح الطبيعي والواقعي وتقاليد الفرجة. كما لعب دوراً حاسماً في إغناء مدارس الإخراج المسرحي، وكتابة السيناريو السينمائي والتمثيلية الإذاعية؛ فضلاً عن مواقفه السياسية الشجاعة، وأنشطته في ميادين الحريات العامة وحقوق الإنسان.
ما يجهله كثيرون، في المقابل، هو أنّ بنتر بدأ شاعراً، بل وكانت القصيدة هي أوّل منشوراته، قبل أن ينخرط أكثر فأكثر في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج. وقصيدته «السنة الجديدة في ميدلاندز» والتي كُتبت في مطالع الصبا، تذكّر كثيراً بمشهد الحانة في قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة «الأرض اليباب». وغنيّ عن القول إنّ معظم قصائد تلك المرحلة كانت تعكس مناخاً درامياً واضحاً، وكانت بذلك تنذر بالخيار الرئيسي الذي سيقتفيه هذا الفنّان الكبير: المسرح. وفي تكريم هذا الجانب من إبداعه، يقدّم الممثل البريطاني جوليان ساندز («حقول القتل»، «غرفة تطل على منظر»، «فاتيل»، بين أفلام أخرى)، قراءات من أشعار بنتر، بإخراج الممثل الأمريكي جون مالكوفيتش(«أماكن في القلب»، «في خط النار»، «مملكة الشمس»، «عن فئران ورجال»…)؛ على مسرح جامعة إموري، في أتلانتا، جورجيا، ضمن فعاليات مهرجان مكرّس بأكمله لفنون بنتر.
ولد بنتر سنة 1930 في هاكني، وهي منطقة عمالية صغيرة قرب إيست إند في لندن. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية جرى إخلاء الحيّ، وعاد ثانية إلى لندن وهو في الرابعة عشرة، وسيقول إنه لن ينسى أبداً مشاهد القصف الجويّ التي عاشها، والتي ستجعله مناهضاً للحروب بصفة عامة، وتدفعه إلى رفض أداء الخدمة العسكرية (أشفق القاضي عليه فاكتفى بتغريمه 30 جنيهاً بدل السجن). في عام 1950 بدأ ينشر في مجلة Poetry التي كانت تصدر في لندن، باسم مستعار هو هارولد بنتا. ثمّ عمل ممثلاً ثانوياً في الـ BBC ، وبعد أربع سنوات من التجوال في إرلندا والمسارح الريفية كتب «الحجرة» لصالح جامعة بريستول (وأنهى النصّ في أربعة أيام!)، ثمّ كتب تمثيلية للإذاعة بعنوان «ألم طفيف»، إلى أنّ أنجز أولى مسرحياته الطويلة «حفلة عيد الميلاد»، وتوالت بعدها نصوصه المسرحية الكبيرة التي جعلت منه أحد أعظم مسرحيي هذا العصر. وكان متزوجاً من المؤرخة الشهيرة ليدي أنتونيا فريزر، وظلّ حتى رحيله يعيش بين لندن وباريس.
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق