مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
مشهد من مسرحية «أميغاس» لفرقة «ليست ألفونسو» الكوبية |
إننا نعرف الكثير عن المسرح الأوروبي وتجاربه، ونشأ مسرحنا العربي متأثراً به منذ بداياته، وعرفنا في العقود الأخيرة الكثير عن الرواية والقصة والشعر في أميركا اللاتينية فأثر ذلك بشكل واضح على أدبنا العربي المعاصر وأثراه، بينما نكاد لا نعرف شيئاً عن طبيعة التجارب المسرحية فيها على الرغم من أنها هي الأقرب إلينا من حيث مشاكلها السياسية والثقافية والاجتماعية باعتبارنا ندخل، معها، ضمن نطاق تسمية «العالم الثالث».
تأتي أهمية كتاب (جماليات الرفض في مسرح أميركا اللاتينية) للباحث طلعت شاهين الذي أصدره عن دار سنابل في القاهرة من خلفية تقاطع مسرحنا العربي مع مسرح أميركا اللاتينية، على الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مغامرة الحديث النقدي عن أعمال إبداعية ليس للمتلقي العربي معرفة مسبقة بها، إلا أنها تعد بحد ذاتها خطوة رائدة لابد من اتخاذها كي نفتح نافذة أخرى نحو معرفة أفضل وجديدة.
مسرح العالم الجديد
في كتابه «جماليات الرفض في مسرح أميركا اللاتينية»، يستعين طلعت شاهين بخبرته الأكاديمية التي أنجز من خلالها أطروحته حول الاحتفالات الشعبية الأسبانية ومقارنتها بالعربية والمصرية تحديداً، وكذلك بالكثير من المصادر الأسبانية والهيسبانية المتعلقة بالمسرح، فيطلعنا على بدايات المسرح في أميركا اللاتينية عبر تقديم موجز ومكثف وواضح يرسم من خلاله المناخ التاريخي العام الذي تبلورت فيه بدايات ولادة المسرح هناك. فيلجأ إلى اتباع التقسيم وفق أصناف النمو والتوجهات والتيارات المسرحية متدرجاً بالأمر على النحو التالي: مسرح العالم الجديد، المسرح التعليمي، الدراما العرقية، مسرح الباروك، المسرح الفكاهي الإسباني «إلبوفو»، المسرح الجامعي، المسرح العبثي، من نبض الثورة إلى أزمة الستينات، مسرح إسكامبراي، لينتقل بعدها متوسعاً بالحديث عن المسرح الكوبي متخذاً من تجربة الكاتب بيرخيليو بينييرا (1912 ـ 1979) نموذجاً يعمل على دراسته والتعريف به باعتباره ممثلاً لجيل بأكمله من المسرحيين ليس في كوبا وحدها وإنما في أميركا اللاتينية عموماً. يقدمه أولاً بنبذة تعريفية عن حياته، ثم أهم أعماله، ويضيء: جماليات الرفض في مسرحه، ملامح الشخصيات في أعماله، طبيعة استخدامه للسخرية والرمز، إصراره (ككاتب) على التدخل والمشاركة في تحديد لغة الإشارة والإيماءات والإضاءة والإكسسوار والضوضاء، لينهي الكتاب بترجمة لعملين من أعمال بينييرا الأخيرة والتي لم يكملها أبداً، وهذا أمر يرى فيه النقاد قصدية منه ولظروف تتعلق بطبيعة مواقفه، وخاصة السياسية، يشرحها المؤلف في سياقها، وهما عملاه الرائعان: (التوأم) و(الرحلة).
المسرح لبسط نفوذ الكنيسة
من خلال هذا الكتاب الصغير في الحجم (150 صفحة/قطع متوسط) والكبير في الفائدة، سنعرف بأن المسرح قد انتقل إلى أميركا اللاتينية مع بداية ما يسمى بالاكتشاف للقارة الجديدة والغزو الأسباني، وكان المسرح في تلك الفترة يعمل في عدة أطر مختلفة، منها الترفيه عن الحكام الجدد في تلك البلاد، الذين حاولوا التشبه بحكامهم في أسبانيا، وأيضاً بهدف دعائي سياسي، فصنع مثل تلك الرفاهية يهدف إلى زيادة الرهبة في نفوس سكان البلاد الأصليين، ثم الترفيه عن جنودهم، كما استخدمت الكنيسة المسرح كوسيلة دعائية فعالة لنشر سيطرتها على السكان الأصليين، ولتوصيل تعاليم المسيحية ونشرها عبر أعمال مسرحية بسيطة، خاصة أيام الاحتفالات الدينية الرسمية، أو تعميد القديسين.
ويؤشر لنا بأن أول الاحتفالات في العالم الجديد التي تضمنت مسرحاً قد كانت في المكسيك عام 1529م، وشارك فيها العديد من ممثلي الشعب وطوائفه العرقية والثقافية. وكان الراهب خوان دي ريباس من أوائل الرهبان الفرنسيسكان العشرة الذين وصلوا إلى العالم الجديد، وأول من فكروا في استخدام المسرح كأداة لتوصيل الأفكار الدينية، حيث راح يقدم في هذه الاحتفالات أعمالاً عن حياة القديسين كنوع من إنعاش الذاكرة للجنود الغزاة، من جهة، وفتح عيون السكان الأصليين على الدين الجديد ومزاياه، من جهة أخرى، كنوع من الدعوة/الدعاية والترويج كي يعتنقوه.
أسبقية ظهور مسرح « العبث» اللاتيني
وبعد تزايد عدد الأفارقة المجلوبين إلى أميركا اللاتينية، أخذت فنونهم الطقسية ذات الأصول السحرية الأفريقية تتسرب وتمتزج بفنون المسرح السائدة والقادمة من أوروبا، فقدموا الدراما الطقسية، المفعمة بالغناء والرقص المهرجاني والأقنعة البدائية، حتى تمت بلورة ما اتفق النقاد على تسميته بـ (الدراما العرقية) وتعزز هذا النوع في كوبا خاصة، ومثيل هذا تم في البرازيل أيضاً والذي نجد من امتداداته، حتى اليوم، مهرجاناتها، المعروفة، التي صارت تتوسع لتصبح تقليداً عالمياً.
أما في كوبا وهي التي ينتمي أغلب سكانها إلى الأصول الزنجية الأفريقية، فإننا نجد هذه التأثيرات جلية، مما يجعلها في مقدمة الحركة المسرحية في أمريكا اللاتينية التي اعتمدت على الفنون الزنجية من موسيقى ورقص وغناء وطقوس دينية، في خلق ورسم هوية مسرحها الجديد الذي يعتمد الشكل والتقنية العامة الأوروبية، ولكن روحية تناوله ومحتواه، يطغى عليه الطابع الطقسي المعروف بأصوله الأفريقية.
وفيما يتعلق بالمسرح الحديث فإن الملفت للنظر، ما يؤشره المؤلف حول أسبقية واختلاف المسرح العبثي في أميركا اللاتينية عن هذا الذي عرفناه أوربياً. «المسرح العبثي في أميركا اللاتينية كشكل مكتمل للتعبير في الأدب بشكل عام، والمسرح بشكل خاص، كان سابقاً تاريخياً على ظهور (مسرح العبث) الأوربي».
هذا من حيث الشكل والتقنية والإطار العام، فيما نجد الاختلاف الحقيقي يكمن في عمق رؤية كل منهما لهذا التيار، حيث أن «أكثر كتاب المسرح في أميركا اللاتينية الذين مارسوا كتابة المسرح العبثي كانوا يعكسون واقع بلادهم، ولكن بشكل يختلف تماماً عن مسرح العبث الأوروبي، حيث كان الكتاب الأوربيون ينظرون إلى الواقع على أنه دائرة مغلقة متكررة الحدث لا مفر للإنسان منها، بينما الكاتب الأميركي اللاتيني على العكس من ذلك، يرى أن الواقع العبثي لا يعكس واقعاً دائماً وثابتاً للمجتمع، بل هو واقع مؤقت بزمن وجود السلطة القامعة».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق