مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
دأب النظام الديكتاتوري السابق على محاربة جميع الأفكار والمعتقدات التي لا تتوافق مع منظومته الفكرية المختلفة ذات الطابع الدموي الاستبدادي، شأنه في ذلك شأن أي نظام فاشي لا يؤمن بمن يختلف معه أو يعارضه.
وقد نجح ذلك النظام- مع شديد الأسف- في فرض هيمنته وإشاعة الرعب في المجتمع العراقي، واستطاع شراء ذمم كثيرين من ضعاف النفوس ومن الانتهازيين والمنافقين الذين ينعقون مع كل ناعق- كما وصفهم الإمام علي (عليه السلام) - ومن كافة شرائح المجتمع ومن مختلف الاختصاصات بحيث استطاع أن يكوِّن جيشاً كبيراً من المرتزقة الدجالين الذين كانوا يطبلون له صباحاً ومساء كل يوم، وقد ساعده في ذلك النجاح طول مدة حكمه المفروض على الشعب نتيجة لمصالح دولية حتمت الإبقاء على ذلك النظام، بل وساعدته على ترسيخ إمكانية الدولة من أجل تحقيق مطامعها ومآربها في هذه المنطقة الحيوية من العالم، حيث كان السيف الدموي الجاهز على طول الخط لقتل جميع تطلعات شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب العراقي الباسل المؤمن بقيم السماء الخالدة، حيث استعمل أبشع أنواع القتل والإرهاب ضد هذا الشعب البطل... فكانت إنجازاته الباهرة عبارة عن شن الحروب في الداخل والخارج، ودفن الناس في مقابر جماعية وهم أحياء... ونتيجة لذلك التصرف الهمجي المتخلف رضخ كثيرون للأمر الواقع وسافر آخرون خارج البلد هرباً من البطش الذي لا يطاق... بينما التزم فريق ثالث بالصمت الرافض! إزاء كل ذلك، ماذا عسانا أن نفعل غير استفزاز أصالتنا واستنفار طاقاتنا والرجوع إلى منابعنا الأصلية وحضارتنا الإسلامية الخلاقة، وإن خير من يمثل هذا الاتجاه المبارك هو النهج الحسيني المحمدي الذي قارع الظلم والتحريف منذ العاشر من محرم عام 61هـ عندما وقف بوجه الطغيان الأموي الجاهلي وقدم الدماء الزكية من أجل العقيدة والمبدأ الذي أنعم الله به علينا عندما بعث خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) رحمة إلى الإنسانية جمعاء ليخرجها من براثن الجاهلية والعبودية والتخلف.
إن حيوية المدرسة الحسينية وأداءها الرسالي الخلاق، وأساليبها المبتكرة في التأثير على المجتمع وقيادته، جعلت أعداء الإسلام يوجهون سهامهم القاتلة إلى من يمثل هذه المدرسة أو من يقتدي بها ويسير على خطاها ؛ لاعتقادهم بأن هذا النهج الحسيني المحمدي استطاع أن يبقي على الخط الإسلامي الصحيح معافى وغير محرف رغم ضراوة الحرب الشعواء التي شنت ضده عبر العصور... وهذا بحد ذاته يعد عقبة كبرى تقف أمام تحقيق مشاريع أعداء الإسلام وأحلامهم المريضة بالقضاء نهائياً على الدين الإسلامي وتدمير جوهره الفعال المتمثل بخط عترة رسول الله (صلى عليه وآله وسلم ) والأئمة المعصومين الأطهار.
إن مسؤولية التصدي للهجمة الشرسة ضد الفكر الإسلامي الحضاري النيِّر في هذا العصر يجب أن تشمل كافة قطاعات الشعب وأن تنهض بها كافة المؤسسات الاجتماعية، حكومية أو غير حكومية إضافة إلى دور الأفراد ؛ حتى نستطيع أن نعود بالعراق مجدداً على وضعه الطبيعي والرائد والخلاق بين الأمم المتحضرة وبخاصة بعد تخلص هذا الشعب من كابوس الديكتاتورية والقمع الوحشي... ؛ لذلك لابد لحوزتنا العلمية وعلمائها الأعلام وجميع المنظمات الثقافية أن تبدأ مشروعاً حضارياً طموحاً يرتقي بالإنسان العراقي، ويسد الفراغ الفكري الحالي الذي خلَّفه النظام السابق حيث أدى إلى تدنِّي المثل والقيم النبيلة والسامية في جميع الممارسات الحياتية الاعتيادية اليومية، فقد شاع الفساد الإداري والأخلاقي وشاعت الرشوة والفوضى، ودخل الإرهاب مجدداً من منافذ أخرى وكثيرة... حيث استكلب أعداء العراق وأعداء المدرسة الحسينية عندما رأوا أن العراق قد تخلص من نظام العبودية... وإنه لا رجعة إلى الديكتاتورية أبداً.
إذن... لا بد أن نسارع إلى إصلاح الخلل في بنية مجتمعنا من خلال تفعيل الأنشطة الحيوية التي باستطاعتها أن تحدث تغييراً إيجابياً يخرجنا من هذا المأزق الصعب... ولا بد أن نقدم إضافة إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية والضرورية فكراً خلّاقاً يرقى بهذا المجتمع ويعيده إلى منابعه الأصيل، وإنني هنا أستشهد بمقولة السيد المسيح (عليه السلام) : {ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان} وانطلاقاً من هذه الرؤيا الخلّاقة توجهنا إلى المسرح، هذه الأداة الخطيرة البالغة الأهمية، مستندين فكرياً وأخلاقياً، جازمين بأنها المؤهلة الوحيدة للانتقال بالمجتمع العراقي والعربي والإسلامي من واقع التخلف المزري الذي يعيشه حالياً إلى واقع مغاير تماماً يتوفر على مساحة الازدهار الحقيقي، حيث تتوفر فيه الطمأنينة والسلام والمحبة والديمقراطية الحقيقة ؛ لكونه بمنهاجه الإصلاحي الجذري يستطيع أن يقضي على مظاهر التخلف والبؤس والشقاء والجهل المتفشي حالياً مع الأسف الشديد.
إذن بالمسرح الحسيني - تحديداً- نستطيع أن نجد ضالتنا ... نستطيع أن نقدم إلى جانب الملحمة الحسينية الخالدة ومعانيها ودلالاتها الإنسانية والفكرية التي تساعد المجتمع على مواجهة الأزمات والمحن والعبور إلى الضفة الأخرى بكل عزم وثقة، عندما يتوفر الإيمان الحقيقي بهذا النهج المبارك كذلك نستطيع أن نقدم أعمالاً معاصرة تستند إلى مبادئ المدرسة الحسينية وصولاً إلى تحقيق أهدافنا المشروعة في إقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية.
إن الأسلوب الحضاري العلمي الرصين الذي ندعو إليه في المسرح الحسيني البعيد عن العواطف الساذجة والانفعالات والممارسات المختلفة المعبرة بالرسالة الحسينية، سيبعدنا عن كثير من الإشكاليات القاتمة حالياً في بعض الممارسات الفردية، وسيحصن بالتأكيد منظومة الفكر الحسيني الخلاقة من جميع محاولات التحريف والتشويه المتعمد الذي يسعى إليها الأعداء باستمرار لشل فاعلية هذه المدرسة.
إن الأعداء يعلمون تماماً بأن الفكر الحسيني هو الامتداد الطبيعي للفكر المحمدي السماوي المقدس، حيث يستند على القرآن الكريم (دستوره الأول) وعلى السنة النبوية الشريفة وعلى مآثر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين خلّفوا لنا تراثاً خالداً في الحياة يعيننا على تجاوز كل الصعاب، ونحن إضافة إلى كل ما تقدم عندما ندعو إلى تأسيس مسرح حسيني في هذا الوقت بالذات فإننا لا ننطلق من فراغ أو نمنّي النفس بأمنيات غير قابلة للتحقيق، منتظرين من الآخرين تحقيقها؛ بل أن العكس هو الصحيح فإننا نقولها بفخر واعتزاز وتواضع بأن عملنا في هذا الاتجاه كان قد ابتدأ منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي عندما بدأ الحلم يراودنا، ثم توكلنا على الله وبدأنا نحقق أحلامنا خطوة خطوة في كتابة المسرحية الشعرية المختصة بتجسيد الملحمة الحسينية تحديداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق