تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 19 أغسطس 2015

المسرح الكويتي... النشأة والامتداد من الأسماء إلى التجارب / د.عبد المجيد شكير

مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

إن الحديث عن المشهد المسرحي الكويتي هو حديث عن ممارسة استطاعت أن تخلق لنفسها تميزها الخاص في السياق الخليجي، رغم ما ينتظرها من جهود لتصل إلى مصاف التجارب اللافتة على صعيد الممارسة المسرحية العربية، ولعل عوامل كثيرة ساهمت في تألقها ضمن سياقها الخليجي وأكسبتها مقومات التطلع نحو وجود مسرحي أفضل عربيا، وهو ما تحقق بالفعل في مجموعة من تجارب المسرح الكويتي التي استطاعت أن تصل مهرجانات عربية كبرى من قبيل القاهرة التجريبي ودمشق للفنون المسرحية.
من العوامل التي ساهمت أساسا في تألق ونضهة المسرح الكويتي وجود معهد عال للفنون المسرحية، وجود حركية لافتة لترجمة ونشر الإبداع المسرحي العالمي «سلسلة «المسرح العالمي» التي تحولت إلى «إبداعات عالمية»»، توافد مجموعة من رواد الفن المسرحي العرب على دولة الكويت للتأطير والتكوين من أجل صقل التجارب واكتشاف المواهب وتقويم القدرات، ثم وجود مهرجانات كثيرة ذات طابع وطني محلي أو جهوي خليجي، حيث نجد مهرجان المسرح الكويتي وهو مهرجان الدولة المحلي الذي يشرف على تنظيمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومهرجان الشباب الذي تشرف عليه هيئة الشباب والرياضة، ومهرجان «الخرافي» الذي يدعمه محمد عبد المحسن الخرافي، بالإضافة إلى دورات من المهرجان الخليجي التي تحتضنها دولة الكويت. وتشكل هذه المهرجانات ـ على تنوعها وتفاوتها ـ فرصة لعرض تجارب المسرح الكويتي واحتكاكها ببعضها البعض أو بالتجارب الوافدة عليها. هذا مع إضافة عامل أساسي إلى العوامل السابقة وهو الدعم الرسمي للمسرح على المستوى المؤسساتي، أي دعم الدولة، مُمَثَّلا في الغالب في دعم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
ضمن هذا المناخ المسرحي الذي لا يمكن إلا أن يكون صحيا بطبيعة الحال، تتحرك فعالية المسرح الكويتي، وتُؤَهِّل بين الحين والآخر تجارب بعينها لتطفو على السطح وتثير الانتباه، من هنا شكل هذا المسرح استثناء خليجيا أَهَّلَه ليكون له وضع اعتباري ساهمت في تشكيله أسماء وكيانات وتجارب، رسمت لحظة النشأة، ووَطَّدت أرضية الوجود لتمنحه أفقَ الامتداد.
لحظة الولادة والتأسيس
للإمساك بلحظة الولادة، لابد من عَوْدٍ تاريخي ولو خاطف بما هي لحظة الولادة، ولحظة البحث عن الأب الشرعي لممارسةٍ مسرحيةٍ لها وجودها اللافت، ولا ضير إن كان الأب آباءً، فكلهم شرعيون على قدر اللبنات التي وضعها كل واحد منهم لبناء صرح المسرح الكويتي.
بهذا العود التاريخي، نكتشف أن لحظة الولادة كانت في حضن المدرسة ذات يوم من أيام يونيو 1939 حين تم تقديم مسرحية «عمر بن الخطاب في الجاهلية والإسلام» بالمدرسة المباركية من إخراج محمد محمود نجم، لتكون بدايةً لتدفق الفرق المسرحية المدرسية بكل من المباركية والأحمدية والشرقية والقبلية، وكانت النتيجة هي إنجاز ريبيرتوار مسرحي أولي من ثلاث مسرحيات بإضافة مسرحيتي «الميت الحي» و «من تراث الأبوة»، مع ظهور اسم مهم سيكون له شأن، وستكون له يد بيضاء على حركية المسرح الكويتي هو اسم حمد الرجيب. 
إن احتضان الإرهاصات الأولية ضمن فضاء المدرسة قد حفظ نموها، وجعلها بذورا طيبة لحركية مسرحية استمرت في وجودها التلقائي إلى حدود سنة 1950 حيث تأسيس جمعية الممثلين، وتطورت أكثر إلى حدود سنة 1960 حيث ظهور «المسرح الشعبي». وما ميَّز تجارب هذه الفترة من فترات المسرح الكويتي أنها كانت عبارة عن محاولات قائمة على التلقائية، وتفتقد للرؤية والتصور الفنيين، أو أنها «المسرح الساذج المرتجل» بتعبير د. نادر القنة. ومع ذلك فإن هذه الممارسة أفرزت طموحا حقيقيا لنهوض مسرحي وإرادةً قوية في تطوير التجربة، ورغبةً أكيدة في خلق حركية مسرحية تقوم على أسس منظمة. لقد جاء في مقالة لأنور محمد بعنوان «المسرح العربي في خطر» احتضنها العدد الأول من مجلة العربي «دسمبر 1958»: «المسرح مرآة تعكس نهضة الشعوب، وأداة ضخمة للتثقيف والترفيه وتهذيب النفوس، فمن واجبنا أن نبذل الجهود ليكون لنا مسرح جدير بوثبتنا الحاضرة ومستقبلنا المأمول»، والطموح نفسه أكده زكي طليمات صاحب لحظة فارقة في مسيرة المسرح الكويتي حين قال: «لفت نظري أن الشعب الكويتي شعب نشيط، له رغبة شديدة في التعلم، إضافة إلى إمكانياته المادية، وهذه الأمور هي الشروط الواجب توافرها في أي شعب يريد أن ينهض ويواكب الحضارة»، صار، إذن، الطموح المسرحي وتطويره وترقيته عنصرا ضمن منظومة التفكير الحضاري والنهضوي، بدأ الانتباه إليه باعتباره مكونا فاعلا ضمن فعالية النهوض الحضاري، وهذا في حد ذاته إقرار بأهمية المسرح وتطور في طبيعة النظرة إليه، من هنا وجد زكي طليمات التربة الملائمة لاستثمار خبرته المسرحية، والمكوث عشر سنوات بدولة الكويت خالقا بذلك طفرة نوعية في تاريخ المسرح الكويتي، وامتدت بصماته في جيل لاحق، حيث أسس فرقة «المسرح العربي» التي لم تكن لا تكرارا ولا بديلا عن تجربة المسرح الشعبي، بل يمكن اعتبارها تكاملا مع الجهود السابقة.. مع طليمات كانت خطوات التخطيط والتنظيم للمشروع المسرحي، سواء على مستوى النواة المسرحية «الفرقة»، أو البنية التحتية للممارسة المسرحية «البنايات/ الفضاءات المسرحية»، أو التصور «اختيار العربية الفصحى ونصوص الأدب المسرحي خاصة محمود تيمور وتوفيق الحكيم» أو على مستوى التكوين «صناعة الممثل، ولا أدل على ذلك الأسماء التي أفرزها تعامله مع الممثل الكويتي: سعد الفرج، عبد الحسين عبد الرضا، خالد النفيسي...»، بذلك أرسى طليمات قواعد ممارسة مسرحية صلبة تقوم على «الأرفع والأنفع»، وتتجاوز مستوى الفرجة الشعبية القائمة على التلقائية والارتجال، ليمنح الممارسة المسرحية الكويتية العمق الفني للرسالة المسرحية كما هو متعارف عليها في كل مسارح العالم، وقد غذى هذا الطموح والوعي الفني بخلق فرصة الاحتكاك بتجارب المسرح المصري، وبعض ممثليه خاصة من العنصر النسوي، ليؤسس فعلا لمشروع مسرحي له ضوابطه وغاياته وأسلوبه، ويمتلك الرؤية والتصور والمنهجية، ولعل ذلك ما أهّل فرقة «المسرح العربي» لتكون نموذجا صافيا لتَمَثُّل أوج المسرح الكويتي في أهم لحظاته التأسيسية.
تاريخ مسرحي
من الأسماء والكيانات
بكل هذه الجهود والطموحات، وبكل التراكم المسرحي الذي أُنجز في هذا السياق، صار للمسرح الكويتي تاريخ تشكل بطبقات مختلفة ومنجز متعدد، أي صار للمسرح الكويتي أرضية يمكن تمثلها عبر كيانات وأسماء.

على مستوى الكيانات، يحفل المسرح الكويتي بفرق مسرحية عديدة كان لها دور واضح في بناء تاريخ هذه الممارسة المسرحية:
- المسرح الشعبي: الذي أُشهر في سنة 1957 بجهود محمد النمش وعبدالله خريبط وعبد الله حسين، مع الإشارة إلى اليد البيضاء التي كانت وراء كل هذه الجهود، ويتعلق الأمر بدور حمد الرجيب طبعا.
- المسرح العربي: الذي أنشئَ سنة 1961 معلنا بداية مرحلة جديدة في مسيرة الحركة المسرحية الكويتية إبداعا وأسلوبا وإدارةً.
- مسرح الخليج العربي: الذي تأسس سنة 1963 بفعل جهد وحماس مجموعة من الشباب من هواة المسرح، الذين جمعهم حب هذا الفن والرغبة في التثقيف بوساطته، وذلك عن طريق انتهاج الأسلوب الجماعي في الاشتغال.
- المسرح الكويتي: الذي تأسس سنة 1964، مع محمد النمش أيضا، بعد انفصاله عن المسرح الشعبي لمّا تعارضت الأهداف والأساليب.
مع هذه الكيانات المسرحية الأربعة، تم ترشيد لحظة البداية، وخلق الوعي الفني بالمسرح ودوره وأهميته، واستنبات الظاهرة المسرحية في الفن الكويتي بجذور أعمق، وذلك بتنظيم قانون هذه الكيانات المسرحية باعتبارها جمعيات ثقافية، لها إداراتها ودعمها المادي من الدولة، «وأخذت هذه الفرق تتنافس فيما بينها، مما جعل نبض الحياة يُسمَع في المسرح الكويتي» بتعبير د.علي الراعي. ولعل صدى هذا النبض كان وراء التشجيع على ظهور كيانات أخرى في فترات متقدمة من الزمن، من قبيل: المسرح الجامعي «سنة 1977»، مسرح الشباب «1982»، ثم فرقة المسرح القومي التي لم تظهر إلا في سنة 2991، على أن حركية الكيانات المسرحية هذه سرعان ما أفرزت تجربة المسارح المستقلة أو الخاصة، مثل: الفنون، الكوميدي، الجزيرة، الأهلي، السلام.... وقد شكلت تجربة المسارح ظاهرة مهمة في تطور حركة المسرح الكويتي وديناميته، وهو ما أكده صالح الغريب بقوله: «لا يستطيع الراصد للحركة المسرحية في الكويت أن يصرف النظر عن أهم ظاهرة تعرض لها المسرح بعد استقرار أوضاعه «...» ونعني ظاهرة تأسيس فرق مسرحية خاصة يملكها أفراد من ذوي النشاط المسرحي».
هذا فيما يتعلق بالكيانات، أما على مستوى الأسماء فقد حفل تاريخ المسرح الكويتي في حركية تأسيسه وتشكيل ملامحه، بأسماء عديدة، أتوقف عند بعضها ممن ارتبط ذكرهم بلحظات فارقة في هذا التأسيس، وذكرها هنا في هذا السياق هو على سبيل المثال لا الحصر، من هذه الأسماء، نجد:
- حمد الرجيب: اليد البيضاء في الجهد التأسيسي للمسرح الكويتي، والنموذج «الأكاديمي» لهذا المسرح، الذي تكون وانتعش ضمن التجربة المسرحية المصرية، وساهم في استقدام هذه الخبرة إلى البيئة المسرحية الكويتية.
- زكي طليمات: المؤسس الفعلي للحركة المسرحية الكويتية، عن طريق ترشيد الجهود السابقة، وبناء اللاحق منها على أسس علمية ضمن مفهوم «المشروع المسرحي» الذي يهتم بالفرقة والأسلوب والبنيات التحتية والتكوين المستمر.
- صقر الرشود: النموذج الأوضح لإكساب الهوية المحلية للممارسة المسرحية، ووجه الكويت البارز في المحافل المسرحية العربية، ولا أدل على ذلك من الأثر الذي تركته مسرحيات من عيار «علي جناح التبريزي وتابعه قفة» و«حفلة على الخازوق» ثم «وعريس لبنت السلطان» في أهم المهرجانات العربية.
- عواطف البدر: صاحبة المغامرة الإنتاجية نحو مسرح الطفل، وترسيخها ضمن اشتغال متواتر في مسرح خاص: مسرح البدر، ورغم أنها كانت تشتغل أساسا بالإنتاج «وهو، على كل حال، عنصر مهم جدا في العملية المسرحية لا يقل أهمية عن الإبداع»، إلا أنها هيأت الظروف لبروز الجهود الإخراجية في مسرح الطفل، ونقصد تحديدا جهود الفنان منصور المنصور.
- سليمان البسَّام: الذي مثل جيلا جديدا من أجيال المسرح الكويتي، جيل الشباب، الذي تجاوز عصامية التكوين وأفاد من الاحتكاك الواسع بالتجارب المسرحية الكبرى، ورشّدَ تجربته عن طريق التكوين الأكاديمي الحديث. إنه الوجه الذي أخرج المسرح الكويتي من الهامش إلى المسابقة في القاهرة التجريبي برائعته «مؤتمر هاملت» التي حازت جائزة التجريبي في دورة 2002، وكان له دور فاعل في تقديم اسم الكويت بصورة مشرقة بلا هنّات فنية كما هي بعض التجارب المسرحية في الكويت التي تُخِلُّ بأبسط المفاهيم الفنية حسب رأي الناقدة سعداء الدعاس. بالإضافة إلى جهده الإبداعي في خلق تقارب إنساني رائع بوساطة المسرح من خلال مسرحية «ذوبان الجليد» التي جمعت بين ممثلين من الكويت والعراق. 
من الأسماء إلى التجارب
بعد هذه الجهود، لابد من ملاحظة أن انتكاسةً غريبة سقط فيها المسرح الكويتي بتوجهه نحو التجارية والكوميديا المبتذلة، فصار فرجات استهلاكية بعدما هجره رواده نحو التلفزيون والسينما والإعلانات... وهي تكاد تكون خاصية مشتركة في مسارح الوطن العربي. لكن الوعي بأهمية المشروع المسرحي برؤية فنية وتصور جمالي وأفق إبداعي، هو قائم أساسا على جهود غير فردية، جهود غير مرتبطة باسم معين، أي أن مفتاح المشروع المسرحي رهين بجهد جماعي بإمكانه تجاوز حالة الركوض هاته. من هنا كان الانتقال من الأسماء إلى التجارب نوعا من تحريك المياه المسرحية الآسنة، ولعل من أهم هذه التجارب التي استطاعت أن تلفت النظر إلى اشتغالها، وتفرز فعلا ملامح مشروع 

مسرحي مدروس وواضح المعالم، تجربة الثنائي بدر محارب وعبد العزيز صفر التي أسفرت عن ثلاثية مسرحية لافتة: «حدث في جمهورية الموز»، «تاتانيا»، و«دراما الشحاذين». يقول بدر الرفاعي متحدثا عن هذه التجربة، ودور هذا الثنائي في النهوض بالفعل المسرحي الكويتي: «إننا في الكويت، لا نحيا حياة المسرح المتقدة، وعلى مختلف الأصعدة، كتابةً وتمثيلاَ وإخراجاً، فبالرغم من وجود المعهد العالي للفنون المسرحية كجهة أكاديمية رسمية تعمل على تخريج العشرات سنويا من كوادر المسرح، فإننا وللأسف، لم نستطع رصد كاتب مسرحي نذر عمره للكتابة المسرحية، وطبع أكثر من عمل مسرحي، وشكّل اسما مسرحيا يشير إلى وجوده المقنع ويصعب تجاوزه، والأمر ذاته، وللأسف أيضا، ينطبق على عدم ظهور ممثل مسرحي، استطاع أن يلفت الانتباه بأدائه المسرحي لأكثر من شخصية ونص مسرحي، وليصبح اسما مقترنا بالمسرح، ولا نبعد كثيرا إذا أكدنا الأمر بالنسبة إلى المخرج. وأخيرا وخلال السنوات الماضية، قليلة جدا، وتعد على أصابع اليد، الأسماء التي لفتت الانتباه إلى جهدها المسرحي المخلص، ومحاولتها الدؤوبة لتقديم أعمال مؤثرة في الوعي والذاكرة، وأشعر بالسعادة وأنا أشير إلى بدر محارب وعبدالعزيز صفر، بوصفهما اسمين يعملان بمثابرة وعطاء مسرحي صادق، بالرغم من كل المحبطات والمنغصات».. على الرغم من قساوة هذا الرأي وتعميمه على كل المشهد المسرحي الكويتي للدرجة التي يصعب معها تبنيه بشكل كلي، إلا أنه يوضح بجرأةٍ قتامةَ هذا المشهد، وفي الآن نفسه السياق الذي جعل من تجربة الثنائي بدر محارب وعبد العزيز صفر استثناء إبداعيا متميزا، كما يوضح أنها تجربة لم تجد أمامها طريقا مفروشا بالورد، فهي تواجه صعوبات «محبطات ومنغصات» لتثبت وجودها، وتفصح عن مشروعها المسرحي.
تندرج الثلاثية المسرحية للثنائي بدر محارب وعبد العزيز صفر «والمقصود بها مسرحيات «حدث في جمهورية الموز»، «تاتانيا»، و«دراما الشحاذين»» ضمن ما تعارفنا على وصفه بالمسرح الجاد أو الملتزم «في مقابل المسرح التجاري» باعتمادها أسس الفرجة المسرحية القائمة على خلفية الأكاديمي، ومرجعية التكوين.. تتوحد نصوص هذه الثلاثية في طرحها للصراع مع السلطة بمختلف أشكالها، سواء السلطة السياسية التي يجسدها ديكتاتور جمهورية الموز، أو السلطة الدينية التي يمثلها قس تاتانيا، أو السلطة الاجتماعية التي نلمسها مع كل الشحاذين وهم ينسجون «دراما هم». تتكامل هذه النصوص في إبراز أوجه معاناة الفرد من سُلَطٍ ديكتاتورية تخنق حريته وتضايق وجوده الطبيعي المتوازن، وبذلك تصير موضوعة السلطة الديكتاتورية القاسم المشترك بين النصوص الثلاثة، لكن أسلوب المعالجة الدرامي لا يقف عند سطحية هذا الصراع، بل يتغلغل في طرفيه ليبرز جانبا على قدر من الأهمية وهو مظهر الخنوع والقابلية للاستسلام السلبي عند الطرف الذي تُمارَس عليه السلطة، يظهر ذلك جليا مثلا في شخصية «بيدرو» في مسرحية «حدث في جمهورية الموز» الذي يحمل خوفا فطريا غير مبرر مما يضاعف من سطوة السلطة الديكتاتورية واستمرارها، وهو ما يتأكد أيضا في كل شخصيات مسرحية «تاتانيا» التي خذلت المعلم رامون، وتواطأت بجبن ودناءة مع القس في صراعه مع رامون.
خاصية أخرى تميز نصوص الثلاثية هي إمعان المؤلف في تغريبها واجتثاثها من محيطها الكويتي والعربي، وإدراجها ضمن سياق مطلق من خلال إلباسها أسماء أجنبية غير عربية. مع خاصية إضافية تتمثل في استثمار تقنيات الكتابة الدرامية الغربية من قبيل النموذج الملحمي/ البريشتي كما عرف في تنظيرات برتولد بريشت، وتقنية المسرح داخل المسرح كما عرفت عند الإيطالي لويجي بيرنديللو، وقد ظهر تأثير التقنيتين جليا في مسرحية «حدث في جمهورية الموز» على الخصوص.
وإجمالا، يظهر أن الكتابة الدرامية في هذه الثلاثية تقوم على التكامل والاستمرار في معالجة الموضوعة، وفي نحت النهج والأسلوب، مما يؤكد أن بدر محارب كان يكتب وفق مشروع مسرحي مُسَطّر سلفا.أما على مستوى الإخراج، فإن هذه الثلاثية تطلعنا على تجربة إخراجية متمكنة من أدواتها الفنية وتصوراتها الجمالية، تراهن على المشهدية البصرية بشكل كبير، وأستحضر في هذا الصدد اشتغال نظام الإضاءة في مسرحية «تاتانيا»، وأستحضر سينوغرافيا عرض «حدث في جمهورية الموز». إنه إخراج يقترح اشتغالا يراهن على مفردات رمزية تمزج بين حركية الديكور والاقتصاد في قِطَعِه، ورشاقة جسد الممثل ومرونته «أشير في هذا الصدد إلى التعبير الجسدي لدى ممثل شخصية المعلم في مشهد التفتيش عند دخول القرية في مسرحية «تاتانيا»»، الشيء الذي يفيد في الإيقاع المسرحي من جهة، ومن جهة ثانية يُمَكّن من تعديد الفضاءات ضمن المكان الواحد، وهو ما يمكن تمثله بجلاء في مسرحيتي «حدث في جمهورية الموز» و«تاتانيا».
ويمكن إضافة خاصية أخرى تميز الفعالية الإخراجية لدى عبد العزيز صفر تتمثل في القدرة على إدارة الممثل وضبط المجاميع مما يزكي المشهدية البصرية التي أشرنا إليها سلفا، والتي تكاد تكون خاصية نوعية في الأسلوب الإخراجي لدى صفر. مع الإشارة إلى تمثل تقنيات المدارس المسرحية الكبرى على غرار بدر محارب، أي ملحمية بريشت والمسرح داخل المسرح لدى بيرانديللو.
إن هذه الخصائص مجتمعة التي ميزت ثلاثية «حدث في جمهورية الموز»، «تاتانيا»، و«دراما الشحاذين» سواء على مستوى الكتابة الدرامية أو الرؤية الإخراجية، قادت تجربة هذا الثنائي نحو اشتغال تجريبي لافت، وتوق دؤوب للانعتاق من البنية الكلاسيكية التي ما فتئ يرزح تحتها جل تجارب المسرح الخليجي.
ما يشبـه الختـام
بعد هذا الإبحار في المسرح الكويتي، تاريخا وأسماء وتجاربَ، يظهر أنه صيرورةُ بناء مستمرة عبر الزمن بلحظات مختلفة من التَّشكُل، وأجيال متواترة من الاشتغال، من هنا كان جديرا بوضعٍ اعتباري يجعله استثناءً خليجيا، وأكيد أن الحديث عن المشهد المسرحي الكويتي لن ينتهي عند هذه التجليات، لأن جيلا قادما من المسرحيين الشباب يشحذ موهبته، ويجتهد في تكوين ذاته ليكون جديرا بالانتماء لهذه الصيرورة المسرحية، وليكون قيمة مضافة في سلم امتدادها، لذلك لا مجال لقولٍ للختام ونحن بصدد الكلام عن المسرح الكويتي. 


الدراسة أعلاه إعداد للمداخلة  ضمن فعاليات الدورة 33 لموسم أصيلة الثقافي بالمغرب «19 ـ 20 يوليوز 2011» في ندوة «الأدب الكويتي خلال نصف قرن».

مجلة الكوبت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق