مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
خرجت من العرض المسرحي الغنائي «شبح الأوبرا» في «مسرح جلالتها» في لندن وأنا أردد: حفلةٌ تنكرية.. موكب للوجوه الورقية.. أخف وجهك.. ولن يعثر عليك العالم.
حفلةٌ تنكرية.. لكل وجهٍ ظلٌ مختلف.. انظر حولك.. هناك قناع آخر خلفك.
حلم من أحلامي تحقق أخيراً بمشاهدة شبح الأوبرا، العرض الذي درسته على الورق وانبهرت به فيلماً من إخراج «غاستون ليروكس» عام 2004 وبقي لدي إحساس المخلص للمسرح بأنني لن أستشعر هذا العمل كما يجب إن لم أشاهده بعيني على الخشبة.
شبح الأوبرا في الأصل رواية للكاتب والصحافي الفرنسي Gaston Leroux ونشرت في عام 1909 كمسلسل في مجلة فرنسية قبل أن تنشر كاملة بعد عام واحد. وعلى الرغم من شهرته ككاتب قصص بوليسية، إلا أن روايته هذه تأخر اعتبارها واحدة من روائع الأدب الفرنسي في القرن العشرين ولم يفتح لها باب الحظ على مصراعيه إلا على يد البارون اندرو لويد ويبر المؤلف الموسيقي الانكليزي الذي أعاد تقديمها للمسرح، بمشاركة Charles Hart في كتابة الكلمات وRichard Stilgoe الذي شارك أيضا في كتابة أغنيات العرض.
وصفت الصحافة العربية العرض بالاستثنائي، بعد أن بلغ مجموع الجمهور الذي حضره أكثر من 100 مليون متفرج! صالة تتسع لأكثر من 500 شخص تمتلئ بعرضين يومياً! ليصل السياح من كل أنحاء العالم لمشاهدة عرضٍ مسرحي يعرفون قصته الشهيرة مسبقاً وربما شاهدوه مثلي سينمائياً، لكن يبقى للمسرح كما أعتقد خاصية المتعة الكاملة.
بصرياً، أنت تدخل عالماً آخر من كرسيك، زمناً ماضياً تسحبك إليه صالة العرض قبل الديكور والأزياء. يكفي أن يشطح بك الخيال مع هذه القاعة ببلكوناتها ومستوياتها وكراسيها الحمراء المخملية القديمة وزخارفها المذهبة حتى تشعر أنك دخلت إلى لندن قبل قرن من الزمان.
يبدأ العرض بطريقة غامضة، ستارة مهترئة وإضاءة أقرب إلى العتمة مزاداً علنياً يبيع جماجم ولعبة قرد موسيقية وثريا قديمة وبعد أن يحكي البائع عن أن هذه الثريا كانت لدار الأوبرا ترتفع الثريا الضخمة لتتوسط سقف القاعة وتبدأ الإضاءة المبهرة وتنكشف الستارة المهترئة عن تحف ذهبية تزين قوس المسرح ويبدأ سرد الحكاية من البداية.
من الصعب أن تعد كم مرة تغيرت اللوحات الخلفية، كل لوحة فيها متعة بصرية أكثر من سابقتها. فن تشكيلي رسم ونحت ومنمنمات، ألوان لا يستطيع رأسك أن يحيط بها كلها دفعة واحدة، تركز على شيء ما وقبل أن تتملى منه يسحبك تفصيل آخر. إضاءة دقيقة ومدروسة، يمكن أن تفصل في هذه المنظومة نص الإضاءة ولغتها. على يمين ويسار المستوى الذي نجلس فيه كان هناك مشرفة للكشاف الموجود تضع السماعات في أذنيها وتتلقى تعليمات المخرج. لا يوجد أي مؤشر لحالة كسل طفيف، تنبه وانضباط كلي.
نكشف من مكاننا في الأعلى الفرقة الموسيقية التي تعزف يوميا مرتين هناك في الأسفل، ولا نغمة نشاز ولا خروج أنملة عن النص. البعض يطلق على هذا المسرح صفة التجاري نظراً لأرباحه الهائلة!! أفكر بمسرحنا العربي التجاري وينتابني البكاء البائس. إنني في حضرة أكاديمية إسمها شبح الأوبرا. يقضي العامل فيها عمره مشدودا إلى هذا الإخلاص والتفاني، قبل أن يأتي جيل جديد ليحمل المشعل ويكمل المسيرة.
هكذا يصنع الخلود الفني، رأينا من مكاننا أكثر من 150 فردا يعملون كخلية نحل نشطة بين ممثلين ومطربين وراقصين وموسيقيين ومشرفي إضاءة وضباط حركة وصالة وقاطعي تذاكر وموزعي بروشورات وبائعي مرطبات وتذكارات هذا فقط ما رأيناه، ترى كم شخصا وراء الكواليس وفي الكونترول لم نرهم؟! ماهذه المفرخة من الدخل الهائل عن طريق الفن؟ أليس هذا التزاما وإيماناً؟؟ قال صديقنا الموسيقي بأن العازف الذي يعمل في عرض كهذا يأسره وربما يقتله! قلت لنفسي لا بد وأنهم أنبياء مجهولون!
شبح الأوبرا نفسه موسيقي عبقري، يقطن أسفل المسرح، يخفي وجهه المشوه بقناع، يسحره صوت كريستين الفتاة السويدية التي تقوم بأدوار جانبية كممثلة وراقصة ويقع في هواها. يوجهها بصوته من الكواليس تسميه «ملاك الموسيقى» وتغني عنه عندما تسألها صديقتها من هو معلمك العظيم: حدثني أبي مرة عن ملاك.. كنت أحلم أنه سيظهر.. الآن وأنا أغني يمكنني أن أشعر به.. أعلم أنه هنا.. هنا في هذه الغرفة، يدعوني برقة.. يختبئ في مكان ما في الداخل بطريقة أو بأخرى أعلم أنه دائما معي.. إنه العبقري الذي لا يُرى.
يشتد عشق الشبح لكريستين بظهور راؤول صديق طفولتها. فيُظهر نفسه لها للمرة الأولى. هنا يمكن الكتابة مطولاً عن الحالة النفسية التي تطبع العلاقة الخاصة بين الموهوب والمعلم، برأيي هي الفكرة التي بني عليها هذا العمل الأدبي، حالة الانشداه والجذب والسلطة. مشاعر تراوح بين الإعجاب والعشق وخضوع التلميذة وتسلط المعلم. خوف الموهوبة من رهبة المعلم الغامض وعالمه السري ورغبتها ببقائه معها كمحفز ومرشد، وهوس المعلم بالتلميذة الموهوبة وكراهيته لعالمها الواضح المليء بالأضواء والشهرة والناس والحب الطبيعي، والذي يتناقض تماما مع مايريد أن يحتجزها فيه.
هذه الأغنية المشهد الأساسي وموسيقاها ومشهدها هو ما يطلق عليه «داخل عقلي» والموسيقى تتكرر لتصبح أيقونة سمعية العمل مثلما القناع أيقونة بصرية تماما:
الشبح: غنِّ معي مرةً أخرى.. الدويتو الغريب.. سلطتي عليكِ ستزداد بعد.. وعلى الرغم من أنك انشغلت عني لمحة إلى الخلف.. شبح الأوبرا هناك.. داخل رأسِك.
كريستين: كل من رأى وجهك.. تراجع في خوف.. أنا القناع الذي ترتديه.
الشبح: غنِّ.. يا ملاكي الموسيقي.. غنِّ ياملاكي.. غنّ لـــــــــي.. غنّ لـــــــــي.
في هذا المشهد يتصاعد كل شيء إلى الذروة الموسيقى والغناء والمشاعر. المغنية تستعرض قدراتها الصوتية كلما قال لها غنِّ لي ارتفعت طبقة، وارتفع المتفرج عن الكرسي أيضاً. حتى في الأداء الحركي يقوم الشبح بحركة متزامنة مع العبارة كأنه يستل الصوت من قلبها والدهشة من قلبك. من غير الضروري أن تكون على علم بالحكاية في هذه العروض ومن غير المهم أن تكون على إطلاع مسبق. كما أنه لا يهم أن تكون على دراية بلغة النطق في العرض. العروض من هذا النوع تخاطب كل الحواس وتوقظها. بمتعة تتشرب الجمال فتخرج محملا بالفهم. أنت في مسرح وعلى الخشبة مسرح آخر له كواليسه، وعلى الطرف الآخر من الجدار الثاني المقابل جمهور يتابع العروض فيه. طاقة رهيبة تتفجر من الموسيقى والحركة والفضاء المتغير، سيذهلك كيف تصبح الخشبة أدراجاً لقاعة الحفلة التنكرية ومقبرة لتناجي كريستين أباها ومشهداً للمدينة في الليل ليغني لها راؤول أنا هنا، لا شيء يمكن أن يؤذيك.
كلماتي ستدفئك وتهدئك.. اسمحي لي أن أكون حريتك.. دعي ضوء النهار يجفف دموعك.. أنا هنا، معك بجانبك.. لأحرسك وأقودك.
تتحول الخشبة أقبية ومسارب وجسوراً يدخل الممثل من جهة وبثوان يخرج من جهة أخرى يدخل بزي وبلمح البصر يطل عليك بزي آخر، تصبح الخشبة نهراً والشبح يجدف بقارب بعد أن خطف كريستين إلى عالمه، والشمعدانات الضخمة تخرج من الأرض تحيط بالمركب الذي يمخر عباب الخشبة يغطيها دخان شفيف يلتزم بالبقاء على السطح كما يقتضي العرض ليؤدي دور الرذاذ الضبابي. لا يوجد صمت، الموسيقى تملأ الفضاء. لا يوجد تأخير واحد لا في لحن ولا في ضوء ولا في ظل ولا في قطع الديكور التي ترتفع وتنخفض وتنزاح بسلاسة ورشاقة مريحة للعين. كل قطعة لها دورها ومعناها، الخشبة لوحة لا فراغ فيها، في العمق وعلى الأطراف وفي الارتفاع أينما جلست هناك زاوية جديدة غنية للرؤية. حتى ديكور الزخرفة انفصل ليخبئ لنا الشبح ويقترب به فوق رؤوسنا. تشتهي أن تتلمس كل شي يبدو في متناول اليد، بينما الصوت يحيط بك إحاطة كاملة. مجاميع الراقصين لا ينظرون تحت أقدامهم بل يطيرون طيراناً متآلفا مع المكان. وعلى الرغم من زخم الأزياء والأقمشة والألوان والأقنعة المتداخلة حسب المشاهد المتتالية، لن تشعر بأي نفور أو نشوز في حالة من الانسجام الكامل الذي لا يمكن أن يتحقق لو لم تجمعه حالة انصهار واحدة من المخرج للمصمم للمدرب للعناصر كافة. مازلت على هارمونيتها منذ أول عرض على مر السنين ومنذ أول انتاج سينمائي عام 1925 وحتى اللحظة.
في الاستراحة اشتريت فنجانا عليه قناع الشبح الأبيض، وبقيت لأيام أغني: حفلة تنكرية.. ومضة من البنفسجي.. دفقة من الأحمر الداكن.. مجنون وملك.. غول وأوزة.. أخضر وأسود
ملكة وكاهن.. أثر من أحمر الشفاه.. ووجه الوحش.. تواجهها.. خذ دورك، خذ جولة.. على أرجوحة دوارة.. في سباق اللاإنسانية.
إشارة أخيرة، الجيل الذي شاهدناه يقوم بالعرض لعله الجيل الخامس الذي يقوم بهذه الأدوار، والطاقم كاملا ماهم إلا أحد الطواقم التي تقدم العرض حول عواصم العالم من برودواي في نيويورك إلى مسرح جلالتها في لندن.. على نفسٍ واحد يخطف الأنفاس بلا توقف.
عموما دوما هناك رأيٌ آخر، فعلى نفسٍ واحد أيضاً كان شخير متفرج بجواري يتعالى، ينام باسماً مثل جنين سابح في رحم الصالة المعتم والدافئ طيلة الفصل الثاني، حتى أيقظه التصفيق الحار للجمهور وصرخاتي «برافووووو..برافوووو».
لندن ـ نسرين طرابلسي
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق