مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
يبادر "محترف بغداد" بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح، بتقديم شهادة فنية عن العراق في "تصديه للجرائم المروعة التي ارتكبت بحق أبنائه". وضعت المؤلفة والمخرجة (د. عواطف نعيم) عنواناً صادماً، "هلوسة تحت النصب"، وهي استعارة واضحة، لما تقودنا اليه الحالة المرضية التي يكابدها المهلوسون.
فالهلوسة "Hallucination" تاخذ الشيء الى جهة، غير جهته الحقيقية، لأن الاحساس بالشيء غير الموجود اصلاً، لا على المستوى البصري، ولا السمعي، ولا على مستوى الحواس الخمس كلها، هو ظاهرة لا ترتكز على أساس موضوعي واقعي، وان كان يرى أسداً يهجم عليه، لكن هذا الأسد غير موجود، او يسمع صوت انفلاق قنبلة، ولا وجود لهذه القنبلة . هذا الضرب من عدم التوازن في الشخصية المريضة، من هو المقصود به في خطاب العرض؟ هل السياسي، في وقائعه اليومية المألوفة وطروحاته التي يرددها القاصي والداني في الشارع العراقي من شماله الى جنوبه؟ هل يخص البعض من الذين سقطوا تحت رهاب (الملاخوليا) التي تنقض على صاحبها، لتجعله كئيباً متخيلا ان الرب نفسه سيعذبه في جهنم، وحتى النقود التي يحصل عليها فهي من السحت (الحرام) وهو يراها مبقّعة بدماء ضحاياه؟!
هذه الانهيارات والخور النفسي واعراض الشذوذ السادي والمازوكي قد يوحي بها العرض، لمن يوظف نفوذه السياسي، ضد مصلحة الشعب، فيقوم بحبك المؤامرات، ليضع حقوق الناس، ويذهب في إجرامه الى مديات قصوى، فهو الذي يغني وهو الذي يفقر! وهو الذي يردي اصحاب الرايات البيضاء، كما في العرض الذين سقطوا مضرجين بدمائهم، وهم يرفعون شعارات مسالمة، تريد توفير الرغيف والكرامة، لعوائل مسبية تفتن الطغاة، بترويعهم، وتهجيرهم، وملاحقتهم، وتقتيلهم، وهو ما رافق تاريخنا السياسي المعاصر، كما يذكرنا شعر (محمد رضا الشبيبي):
يارب من لبلادٍ مالها أحد يارب من لرجالٍ مابهم رجلُ من خلال تداعيات، وبوح مباشر، ورفع شعارات، يقوم أحد ضحايا "المجزرة"، من الناجين، بعدد هجومه، وخوفه، وتلقيه لزخات الرصاص، وكان يحسبها مطراً! وهو يتحفى لتلامس قدمه "طين" الارض العراقية، التي بدلاً من ان تحيله الى شعرية الوطن الحر، والشعب السعيد، تقذف به الى كفّ مضرجة بالدماء!. وكان يدرك تماماً ان الحلّ، وهو يشاطر الشخصية الثانية في العرض، يكمن في الحرص على الهوية الوطنية (العراقية) التي ينبغي ان تجمع ما تفرق من اللسان، والاديان، والأماكن. وكذلك التأكيد من جانب آخر، على عدم وضع هويتنا رهينة بدول اجنبية، التي لا تخلو من (أحقاد) الماضي، واطماع الحاضر.
الكل يتذكر كلمة المؤلف المسرحي الانجليزي (هارولد بنتر) عند استلامه جائزة نوبل، بخطابه المعنون: "الفن والحقيقة والسياسة" عام (2005) ، ومن ضمن ما صرح به، الآتي:
(جئنا – للعراق – بالتعذيب، والقنابل العنقودية، واليورانيوم المنضّب (...) وبالبؤس، والإهانة، والموت للشعب العراقي وبجنون صبياني).
في العرض المسرحي، يؤكد المتحاوران (المعلم) من تمثيل (عزيز خيون) و(الناجي) تمثيل (محمد هاشم)، على ثنائية الكثير من الواجهات السياسية، وممن يحملون ألقابا فخمة، لكنها في جوهرها، وحقيقتها اتفة من (عفطة عنز) بتسفلها، ومعدنها الرخيص. تراهم يصطفون مع العدو، لاستكمال مشروعه في تصفية أزاهير الشعب، وانقى خلصائه من الشباب، الذين بهم، لا بسواهم، يبنى مستقبل البلاد.
لكنهم يتعرضون لمؤامرات عابرة للحدود، يقودها عتاة المفسدين، والقتلة. العرض يؤكد على "قيمة" المسرح التي عبر عنها (هارولدنبتر) التي ترتفع باخلاق الشعب وذوقه الجمالي.
وتبرز الشناعة الاجرامية المقيتة، باختيار تلك المطابخ العالمية الدولية، لنموذج (هولاكو) في احتلاله لبغداد، والموصل، والدجيل !! حتى ان (سبايكر) هذا العنوان التراجيدي الذي يطوي "المعمورة"، ليفرز الشرفاء من السفلة تراه هناك في تاريخنا الوسيط، حين احتلت بغداد وطلب هولاكو من "المستعصم" العباسي، آخر الخلفاء، بان يضع المقاومون السلاح، بغرض السلام، وإحصاء الانفس. وحين استجاب القوم، أمر هولاكو جنده، بازهاق ارواح المئات من النساء والاطفال والرجال بمجزرة واحدة وهم يخرجون من "الحصن" ، الذي هو "سبايكر اليوم"! او حين تم النصر في "الانبار" قاموا باغراق "الدجيل" معسكر جند الخليفة، بخبرة مهندسين (صينيين) جلبهم المحتل، كما يفعل ، ويهدد، مرتزقة الموت في الموصل وسواها، باغراق المدن! وكان من بين ابرز اسباب "سقوط" بغداد، هو، اضطراب الحالة الداخلية من النواحي (العسكرية، والسياسية) وشيوع مظاهر التخلف الطائفي، ورعونة بعض اولي الأمر فينا، وغبائهم وتبجحهم الفارغ، مما ساهم في اشتداد ساعد الارهاب، وشيوع الفتن، ونهب خزائن الدولة.
وبمثل ما فعل وزير المستعصم، "الدفتردار" في التآمر على غيره، كان جزاؤه القتل مع ابنه على يد هولاكو، الذي ضرب المساجد، ليحصل على الذهب ، وهدم القصور، بعد ان جردوها من "تحفها" وآثارها النادرة، وضرب الكتب، واتلفها واحرقها . هكذا ازهقت ارواح الناس، وبيعوا سبايا، دون ان يستثنوا امرأة اوطفلا او يعطفوا على مريض، او يقدروا عالماً، كما يذكر (ابو الفدا) في (المختصر).
حين تسمع عن اسماء بعينها، سقطوا مغدورين على ايدي ابناء جلدتنا تأسف لهذا الانهيار الاخلاقي العارم، ونحن فريسة لأطماع مع يتهددنا من الغرباء، اذن ما الفرق بين هذا المجرم "المستتر" وذاك السافر؟! كما يقول الشاعر:
ويدٌ تقبّلُ وهي مما تقطع ويدٌ تكبَّلُ وهي مما تفتدى . لا يكفي تبرير هذا الجنون القاتل، إلا تحت يافطة (الهلوسة) والهوس (المانيا: Mania) المرضية، والاعتقادات الهذيانية، التي تحسب ان "الشعب" هو المارق الأكبر!
هذا الضرب من الاعتقاد السياسي يقربنا من مفهوم (نيرون) الذي حرق روما، وهو يعزف على قيثارته النشاز! بخلاف شرفاء القادة، الذين كانوا يتطلعون الى الكمال في قيادة شعوبهم، واختصار الزمن، لبناء اوطان حرّة، مستقلة، عادلة، كما نراهم اليوم يفعلون لشعوبهم!. كان (الدفتردار) وزيرنا العباسي، يتهدد الناس، بعصاباته من (العيارين) بمثل ما يفعل البعض بتشكيل (ميليشيات) خارج سلطة الدولة التي تسرف بالتسلط وركوب المنكرات، واتيان المحظورات، وهم بذلك يبنون كيانات، متباغضة، متنازعة، لا تجمعها سلطة، ولا توحدها إرادة وطنية. يدعي بعضهم (التدين)، لكنك ان (اطعته خاطرت بدينك)، و(ان عصيته خاطرت بنفسك)، والسلامة ان لا تعرفه ولا يعرفك، لأنه يشكل خطورة كبيرة على (الوطن) وعلى (المواطن).
وكما قال البني (محمد): (لا يدخل الجنة، لحم نبت من السحت الحرام) بفعل ضلالات الجهل، والطمع، وسوء الطبع وانحرافه المرضي. ترى في العرض شاشات، اربع، تحاكي (نصب الحرية) لجواد سليم تعكس عليها (بالداتاشو) صور الممثلين (عزيز – ومحمد) تتخطفهم اضاءة حمراء، وخضراء وهما ينتقلان بين (مدرجين) اثنين، وتتناثر على الارض رايات بيضاء – ايضا – سبق ان كان يحملها المتظاهرون الذين سقطوا غدراً، كما يوضح نسق العرض، ويمتد الى الصالة، ممر خشبي، مغطى بالرايات البيضاء، (سينوغرافيا سهيل البياتي) وتشتمل المؤثرات الموسيقية على الحان غامضة، محتدمة، قلقة، منذرة منذ بداية العرض واستهلاله، بهذا الموت الشنيع، اذ يرتمي على الارض (الناجي) بين الصرعى، وينتصب على المدرج، المعلم، وهو مغطى الرأس بالبياض، لينهض من بعد ذلك الممثلان، وهما يتحاوران، بالهم نفسه ويستذكران، ويخاطبان الجمهور مباشرة، بآخر ما يرصده الاعلام، والصحف، والشارع من معلومات، تصل فيها – احيانا – السخرية المرة الى (اللاجدوى) من مخاطبة اولئك الذين (لا يسمعون) و(لا يعون) ولا يدركون حجم الخراب ، والعقاب الذي ينتظرهم على ما اقترفوه من جرائم بحق هذا الشعب.
كل واحد من الشخصيتين، يتماهى مع الآخر، وما يشعر به من قهر، وغصّة، لهذا الفوات الحضاري، بين شعب صانع حضارات كبرى، ويمتلك ثروة بشرية ومادية هائلة، وواقع مزرٍ، اشبه بالزرائب، والكهوف وهنا يصلان الى طريق مقفل، ومقطوع، عن الحضارة الانسانية المعاصرة، والعمران الذي شيدته "مدن" ما كان لها (تاريخ) يذكر!
"عزيز" كما عرفناه، ممثلاً مقتدراً، رخيم الصوت، يرسم هالة من ضوء شعره الأبيض، وهو "يغني" و"ينشد" و"ينعى" على أرواح شهداء الوطن، بحضور متميز ويشاركه "محمد" بحركات جسده التعبيرية عن "هوسات" الشعب و"هتافاته" ودورانه، وحذره مع زميله في "المسير" ليخففا الوطء على أديم الارض العراقية، التي ضجت مفرداتها بانجب الابناء الخلّص، الذين قاوموا الشر بارواحهم الطاهرة، ودمائهم الزكية، ليشكلوا المجد لهذا الوطن، ويصنعوا الخلاص.
قد يفوت – المغزى – في العرض، عن بعض المنطلقات النقدية، ويحاول تفكيك خطابه تبعا للمعايير الجمالية الخاصة بفن الاخراج، لنحاول ان نتريث، ونحسبه ضرباً من تظاهرة يومية، تعيد موقف الشارع، وتخاطب الضمير الجمعي الذي اختزلت (المؤلفة والمخرجة) هدفها من العرض، بهذا الاهداء:
(لأجل بهائك، فلتكن الارواح ضياءً ودماً).
و(لاستنهاض الهمم، ودفاعاً عن الأرواح التي ارهقت في سبايكر)، كما يدوّن رئيس محترف بغداد المسرحي.
لذلك اجتمعت في العرض، اجراس الكنائس، وتكبيرات الجوامع، وحب العراقي لأخيه العراقي (الانسان)، والشعور بكبرياء النشيد الوطني، بلغة واضحة وخطاب مباشر، وعرض متقشف.
لعل المتلقي حين يعرف اسباب الدمار، فان بمقدوره الحراك لتغيير "الحال" ويكون باستطاعته بناء الوطن الذي يتمناه.
المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق