تصنيفات مسرحية

الجمعة، 11 سبتمبر 2015

«مدينة في ثلاثة فصول». نص نموذجي في مقاربة لحظة الحرب السورية اليوم لجهة ما تتركه من بثور ودمامل وأعطاب

مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

«احتفال ليلي خاص في دريسن» الذي كتبه الراحل مصطفى الحلاج في السبعينيات، اقتبسه كفاح الخوص أخيراً بتوقيع المخرج عروة العربي تحت عنوان «مدينة في ثلاثة فصول». نص نموذجي في مقاربة لحظة الحرب السورية اليوم لجهة ما تتركه من بثور ودمامل وأعطاب

 للمرة الثانية، وفي موسمٍ واحد، لجأ المسرح السوري إلى اقتباس نص «احتفال ليلي خاص في دريسن». النص الذي كتبه الراحل مصطفى الحلاّج في سبعينيات القرن المنصرم، أثار شهية باسل طه أولاً في عرض «بالشمع الأحمر». لم يلق الأخير استقبالاً نقدياً طيباً، فاضطرت إدارة المسرح القومي لإيقافه بعد أيام من عرضه، وها هو كفاح الخوص يقتبس النص نفسه بتوقيع المخرج عروة العربي تحت عنوان «مدينة في ثلاثة فصول».

نص نموذجي في مقاربة لحظة الحرب السورية اليوم لجهة ما تتركه من بثور ودمامل وآثام في الأرواح المنهكة. لن نسأل: ماذا تبقى من النص الأصلي؟ ذلك أن العرض الذي تشهده خشبة «مسرح الحمراء» في دمشق هذه الأيام، اكتفى بثيمة واحدة، تتعلّق بحصار مجموعة من البشر في قبو حانة أثناء قصف مدينة بالطائرات. وإذا بالشخصيات تتعرّى من أقنعتها تحت وطأة التفكير في النجاة، لكن الموت يطاردها عن كثب. القصف لن يتوقف طيلة العرض، وبالكاد تجد عازفة التشيلو فسحة لبث الموسيقى، قبل أن تختفي من المكان، من دون أن يجد الآخرون تفسيراً للغز اختفائها. الاقتباس الانتقائي أنهك النص الأصلي شطباً وإضافة، لكنه لم يتحرّر من الأسماء الأصلية للشخصيات، فيما أدار ظهره تماماً، لفكرة تشريح النازية الجديدة، وأحوال الطبقة العاملة المسحوقة... فمن هي النازية التي دمّرت المدينة في النسخة المحليّة؟ ومن هم الحلفاء الذين يقصفون بطائراتهم الأبنية التاريخية للمدينة؟ أسئلة ظلّت معلّقة في فضاء العرض من دون إجابات حاسمة، عدا بعض الإشارات المبهمة هنا وهناك، وشحنها بعبارات تعبوية حيناً، وتخوينية طوراً تبعاً لمجريات الصراع. هذه الرؤية الفكرية الغائمة أثقلت العرض بما ليس فيه، فهو يكتفي بمناوشة سطح الحرب، وتجاهل مسبباتها، في غياب الخطاب الصريح لما آلت إليه آلة الجنون.


ابتكار مشهدية لافتة
لترميم عطب النص الذي اكتفى
بمناوشة سطح الحرب
كما أن الحوار الذي يفترض أن يواكب حالة التصعيد الكحولي في الحانة بعد اكتشاف وجود براميل من البيرة في المستودع، لم تنقل أحوال الشخصيات المتصارعة إلى منطقة البوح والمكاشفة والإدانة، إلا بحدودها الفقيرة درامياً، عدا المزاوجة غير المتكافئة بين ما هو واقعي، وما هو مجاز بصري، وإلا كيف عادت بائعة الهوى وعشيقة صاحب الحانة إلى القبو، رغم صراخ الشخصيات طوال العرض بعدم وجود منفذ إلى الخارج؟ هل هو ترجيع لهذيان صاحب الحانة الغارق في إحصاء أمواله التي كان يخبئها في مكانٍ سرّي في المستودع، أم هي محصلة لرؤية مشوّشة في معنى الاقتباس؟ هذه الارتباكات والارتكابات في النص المقتبس وضعتنا حيال مشية عرجاء في تقنيات الكتابة، إذ بدت الفصحى هجينة في سلوكيات الشخصيات وبرانيّة لناحية الانخراط ببلاغتها، ما أدى مشهدياً إلى اتساع المسافة بين الشخصية والمحمول اللغوي الموكل إليها. مثلاً، تتلاشى الفروقات البلاغية بين موقف الجنرال المتقاعد، وبائعة الهوى، فيما بقي صوت قصف الطائرات مجرد مؤثرات صوتية، لم تنقل مستوى المواجهة إلى عتبة أخرى من العنف المتراكم في النفوس، إلا في ما ندر، رغم السعي الحثيث في تصميم الإضاءة على الاشتباك بين الخشبة والصالة. لكن هل مات الضابط المزيّف حقاً؟ وهل انتقمت ابنة تاجر السلاح من مغتصبها؟ وهل نجا العاشقان من الدمار الروحي الذي أحاق بهما في هذا المكان المعتم والرطب والعفن؟ الأرجح أن هذه الخيوط المتشابكة ينقصها نول ماهر في حياكة نصّ الحرب بقماشة أخرى أكثر جرأة، وعدم الاكتفاء بعناوين عمومية لم تعد صالحة اليوم، في تشريح المجزرة كما ينبغي. من جهته، سعى عروة العربي إلى ابتكار مشهدية لافتة لترميم عطب النص، عن طريق استخدام سلّم يقود إلى القبو، في إشارة إلى درجات الاحتضار التي تعيشه شخصيات وجدت نفسها في نفقٍ مسدود، من دون أي طاقة للفرج، بـ «ميزانسين» على هيئة خط مائل يمتد تدريجاً إلى آخر الخشبة، لتعزيز حالة العماء الروحي، وعدم النظر إلى الفضاء المجاور واستخدامه كحبل نجاةٍ من معضلة الموت المحقق الذي سيطاول معظم هؤلاء البشر عن طريق التسلسل. لكن هذا الاعتناء بالمشهدية، لم ينعكس تماماً على أداء الممثلين لغياب التمايز بين الشخصيات، وبدا الاجتهاد الفردي واضحاً بين ممثلٍ وآخر، تبعاً للمساحة المتاحة له (يوسف مقبل، محمد خير الجرّاح، كفاح الخوص، محمود خليلي، راما العيسى، مؤيد رومية، ربا الحلبي، طارق عبدو، مي سليم، سامر الجندي، رغد قصار).
نخرج من الصالة محمّلين بوجعٍ إضافي، نرشّه فوق مائدة الحرب المفتوحة منذ سنوات، لكننّا هذه المرّة، لن نسمع أزيز الطائرات، أو انفجاراً مباغتاً، إنما نغيب في عتمة الغبار الأصفر، كأننا لسنا عمياناً بما يكفي، كي نضيع في المتاهة. سيعلّق أحدهم متهكماً: «كان على عازفة التشيلو أن تهرب من هذه المذبحة، فما نحتاجه في هذه الصحراء الشاسعة عازف ربابة كي يروي أسباب المحنة السورية».

خليل صويلح - دمشق 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق