مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
تنوعت العروض المسرحية التي امتاز بها مهرجان ( ينابيع الشهادة ) لسنته الثالثة بمشاركة فرق مسرحية لمحافظتنا ( بابل ، بغداد ، كربلاء ، ميسان ) . إذ قدمت اتجاهات ورؤى إخراجية متنوعة عبرت بشكل أو بآخر عن ثيمة أساسية أقيم على أساسها المهرجان المسرحي ، ووضعها في قالب ومعالجةٍ تباينت فيها العروض عن بعضها الآخر .
من بين تلك العروض مسرحية ( جمال الليل ) التي قدمتها ( فرقة تربية ميسان ) تأليف (عمار نعمة جابر) ، وإخراج ( خالد علوان ) إذ ذهب نص العرض إلى معالجة ثيمةٍ أساسية ألا وهي ( واقعة الطف ) ، بطريقة برشتيه وذلك من خلال خروج جوقة الممثلين وكذلك الممثل ( مكي حداد / قاطع التذاكر ) من بين الجمهور وهو ما عرف به المسرح البريشتي ، إضافة إلى أزياء الممثلين التي تميزت بطابعها العصري ، فهي عبارة عن ( بدلةٍ رسمية سوداء ) لدى الجوقة وبدلة سوداء رسمية مع قميص أبيض لدى الممثل ( جبار مشجل) وكذلك الحال بالنسبة إلى ( قاطع التذاكر / مكي حداد ) .
وقد تجسد الاتجاه البريشتي في مسرحية ( جمال الليل ) من خلال الموسيقى الحية والغناء الحي الذي ابتدأت به المسرحية.
جاءت مسرحية ( جمال الليل ) بتناصات عدة مع مسرحية ( مسافر ليل ) للشاعر (صلاح عبد الصبور ) ابتداءً من العنوان فكلتاهما تحملان مفردة ( الليل ) أما فيما يخص مفردة ( جمال ومُسافر ) فهما مفردتان ذات مدلول حركي انتقالي من مكان إلى آخر . وكذلك تجسد التناص فيما يخص زمن أحداث المسرحية فالأحداث لكلاهما تتم بعد منتصف الليل .
وهنالك تناص آخر يضعه المكان في كلتا المسرحيتين ، تدور أحداث المسرحية في محطة القطار وأكيد هنالك أصوات القطار المتعارف عليها وهو أيضاً تناص آخر ووفقاً لطبيعة مكان وزمان الأحداث تتحتم وجود شخصية ( قاطع التذاكر ) المتمثلة بـ ( مكي حداد) في مسرحية ( جمال الليل ) و ( قاطع التذاكر / سلطان ) في مسرحية ( مسافر الليل ) الذي كان يمثل دور السلطة والاستبداد مشابه لدور ( مكي حداد ) الذي يتحكم بقطع التذاكر للمسافرين وإقرار بقائهم أو مغادرتهم للمحطة . ونخلص أن التناص بين المسرحيتين هو تناص جزئي .
جاءت أحداث المسرحية مستعرضة لـ ( واقعة الطف ) . والتي تعد الحدث الأساسي التي كرست المسرحية لمعالجته ، إذ كانت الأحداث منقسمة بين ضفتين الأولى ( الطف ) والتي تميزت بقلة المناصرين والمؤيدين ، والثانية ( محطة القطار ) التي تضم الهاربين والمترددين في المشاركة بالمعركة ، منتظرين القطار الذي سيأخذهم بعيداً عن وقع صليل السيوف وصهيل الخيول . وهي بهذا تتشارك مع أغلبية العروض بتوضيح طبيعة مشهدية العرض والتصريح الواضح له .
وفيما يخص سينوغرافيا العرض ، فقد جاءت الأزياء المسرحية بشكلها المعاصر أي (عصرنة الأزياء ) بالزي الرسمي ذي اللون الأسود فيما يخص الجوقة والممثلين رجال ونساء وأطفال وهي ذات دلالة بأن الواقعة لا زالت مستمرة ومستمر أحياؤها ، كما إنها دلالة على تداخل الأزمنة بين الماضي ( الضفة الأخرى ) والحاضر ( محطة القطار ) . وقد احتفظت المرأة بزيها المتعارف عليه وهي ( العباءة ) ذات الملمح الذي طالما ارتبط بوسط وجنوب العراق .
أما الديكور المسرحي فقد توزع بين فضائية ( غرفة قطع التذاكر ) ضمن فضاء صالة المسرح ، وخشبة المسرح هي ذاتها منقسمة إلى اتجاهين ، اتجاه يمين المسرح يضم ممرا متجها نحو الضفة الأخرى ، ويسار المسرح يمثل محطة القطار ، أي ان هنالك تقاطعا في الأماكن وتوجهاتها ضمن خشبة المسرح . إضافة إلى احتوائها ( الخشبة ) على علامات خشبية تدلل على سكك القطار . وقد شكلت البانوراما دوراً مهماً في الديكور المسرحي ، فقد صورت لنا أهوال المعركة بين الطرفين عبر الظلال التي تكونت من خلالها مصاحبة المؤثرات الصوتية مقربة تلك الأحداث .
وللملحقات المسرحية دور لا يغفل ، بحقائب السفر ، والرّايات بألوانها وكرسي الانتظار وقنينة الماء ، فقد عبرت الحقائب عن رغبة حامليها بعدم المشاركة في الطف والهروب بعيداً عن كل ما يدور في المعارك من صراخ ووقع السيوف وجري الخيول ، أما الرايات فقد دلت على مناصرتهم للضفة الأخرى .
كما إن قنينة الماء التي سلبتها المرأة من معسكر الحسين لها دلالتها على الأنانية والانهزام وسلب لممتلكات الآخر في ظروف صعبة ولهذا لم ترجع مرة أخرى بعد ركوبها القطار مع زوجها معبرة عن موقفها الصريح من عدم الخوض في غمار المعركة .
تنوعت موسيقى ( محمد جاسم وأوس رعد ) بين الأداء المباشر عبر العزف على آلتي العود وبين الاستعانة بالمؤثرات الصوتية المجسدة لصوت القطار إضافة الايقاعات التي كانت تؤديها الجوقة . فقد أعطى العزف على العود دلالة على الحزن يتماشى مع طبيعة الحدث . ونرى من خلال ذلك بأن هناك تناصا صوتيا بين مسرحية ( مسافر ليل ) بصوت ( تراك ... تراك .. ) وما جسده العرض بذات الصوت .
وفيما يخص الإضاءة المسرحية فقد جاءت بلونين الأحمر والأبيض وما هو معروف بدلالتها اللونية الشر والخير تلائم طبيعة الأحداث التي تعرضها المسرحية ، وأحياناً اللون الأصفر معبراً عن التردد الذي رافق أداء ( جبار مشجل ) .
ولابد من الإشارة إلى أداء الممثل في عرض مسرحية ( جمال الليل ) ، فقد انقسم الأداء التمثيلي إلى قسمين أو مجموعتين الأولى ( الجوقة ) مجموعة الممثلين وهي متبقيات الجوقة اليونانية من حيث إلقاء الحوار ونقل الخبر ، تأكيد الحدث الضمير أو الآخر . أما المجموعة أو القسم الآخر فهم الممثلون الذين أدوا أدواراً منفردة ، ( مكي حداد ، جبار مشجل ، صلاح مهدي ، طيبة أحمد ، والأطفال زين العابدين خالد وعلي خالد ) . فرغم إن بداية المسرحية كانت برشتيه أي ذات طابع ملحمي ، إلا أنها خلت من الأداء البريشتي للممثلين ، فقد كان هناك انسجام تام بين الممثل والمتلقي ، وبين الممثل وذاته ، أي هنالك تقمص للدور وخلق الإيهام في الوقت الذي عرف به المسرح البريشتي بأن يحتفظ الممثل باستقلاليته عن الشخصية التي يروم تمثيلها ، فلطالما دعا ( بريشت ) إلى منع الاندماج سواءً بين الممثل والمتلقي أو بين الممثل والشخصية ( مسرح التغيير ، ص97 ) . وهذا عكس ما وجدناه في مسرحية ( جمال الليل ) إذ كان هناك تقمص الممثل للشخصية التي يؤديها ما أثر على مشاعر المتفرج . وهذا ما شاهدناه من اندماج كل من ( مكي حداد ، جبار مشجل ، طيبة أحمد بدوريها الزوجة والأم ) ، ما انعكس على نهاية المسرحية ، إذ لم تكن هناك نهاية مفتوحة كما ألفناه في المسرح البريشتي وإنما كانت نهاية حتمية ومغلقة أكدت انحياز العرض إلى جهة معينة ( الضفة الأخرى ) .
المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق