مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
تبدأ المسرحية بمشهد رجل يلاحق امرأة، وما إن يقبض عليها ويحاول قتلها، حتى يصدر أمر من خارج المسرح بإيقاف اللعب، وقطع الحدث في لحظة توتره وذهابه نحو الاندماج. يتوقف القاتل والمقتولة عن التمثيل، ثم يدخل محمد الحر، مُعدّ العرض ومخرجه، إلى خشبة المسرح، حاملا بيده ميكروفوناً، كأداة لقطع الحدث الدرامي وتغريبه، لكي يخلق لدى المتفرج نوعاً من الانفصال النقدي حيال هذا الذي يعرض أمامه، وفهم مسرحته، وتعويضه بفن السرد، الذي يشرح من خلاله، الغرض من ايقاف الحدث.
من هنا يبدأ الاختلاف بين نص "مهاجر بريسبان" الأصلي لجورج شحادة، والنص المغربي المقتبس منه. الأول يبدأ بوصول حوذي إلى قرية في احدى الليالي، مصطحبا معه رجلا عجوزا الى مسقطه بعد غياب طويل، في حين يختصر محمد الحر الطريق ويذهب إلى قلب الحدث مباشرة، ويبدأ من حيث ينتهي، لكي يعيد تشكيله من جديد، ويزجّ بنا في معادلة مسرحية جدلية أخرى، لان العبرة بالنسبة إليه، ليست في سرد القصة وإنما بالغرض من سردها.
يسلك محمد الحر طريقين متعاكسين، نتيجتهما الموازنة بين الابتعاد عن النص الاصلي وإعادة الاقتراب منه. فهو على الرغم من محافظته على الهيكل العام للقصة، يحذف مشاهد، ويتخيل ويضيف أخرى يعيد صياغتها كليا ويغيّر اسماءها، معتمدا على أربع شخصيات، بدلا من شخصيات جورج شحادة التسع عشرة، ومختصرا العرض بخمسة ابواب بدلا من تسعة مناظر مسرحية.
من أجل ايجاد معادل موضوعي لعمله، يشتعل بإمرة النموذج البريشتي، مظهراً التعارض بين مختلف الاطراف من خلال تقطيع القصة أبوابا، يحافظ كل جزء على قدرته على الحياة، ويمنحه بنية خاصة، بحيث تصبح الابواب الخمسة، مثل قطع مسرحية صغيرة داخل مسرحية، وقد خصص لكل منها اسم خاص به.
يبدأ العرض، في فلاش باك: الوقت ليل، المكان مقبرة. الشخصيات: الطالب علي، وأوباحدا، يحاول إعادة تشكيل ما حدث في تلك الليلة، انطلاقا من حقيقة ما شاهده وعاشه، بإطاعته استراتيجيا سردية وتمثيلية في آن واحد، لخلق تأثيرات تشويقية مثيرة، وهو يرى شبح المهاجر يتقدم نحوه متعثرا، ويميل يمنة ويسرة حتى يسقط، مستخدما غطاء احمر، مرة، للتخفي، وثانية كوسيلة للتعبير عن الخوف الذي يعتريه، وثالثة، لتشخيص الشبح، ولغطاء الجثة، ولكن يد الجثة ترفض الغطاء، وعندما يصر على تغطيتها مرات يكتشف في يدها المسدودة، طرف ورقة لم يتمكن من قراءتها. يجعل المخرج ممثله يلعب مع قطعة القماش فيمنحها وظائف ودلالات، مختصرا من خلالها الوصف الطويل ومختزلا الرجل المهاجر بها، ومصورا بواسطتها الخوف والهلع والارتجاف الذي انتاب الطالب وهو يشاهد المهاجر مقبلا عليه. ولكي يصف أوباحدا، ما شاهده في تلك الليلة، يستر آلة الكمبري بخرقة بيضاء فتبدو مثل رأس رجل، يضعها في اعلى قطعة القماش الطويلة فيبدوان مثل شبح رجل طويل القامة في جنح الليل، ويشرع بتحريكهما على طريقة العرائسي الماهر الذي لا يتوانى عن السرد والتشخيص في آن واحد. يهرع أوباحدا، الى شيخ القرية هلعا، فيكلفه مناداة المختار والفقيه وطبيب القرية، وبعد اجتماع الجميع يطلبون منه تعليق صورة الميت في ساحة القرية، ثم مناداة نساء القرية أولا، للتعرف إليه. يعالج محمد الحر هذه الحوادث بالاقتضاب والكثافة والاقتصاد والسرعة التي تشبه الى حد كبير دقات القلب النابض بالحيوية. يؤثث الزمكان المسرحي، منذ البداية، بشخصين يجلسهما على قطعة قماش حمراء ويجعلهما يعزفان على آلتي الكمبري، تحيط بهما سينوغرافيا عبد المجيد الهواس التي تكشف عن اعمدة شاهقة مختلفة الاحجام تنحت الفضاء المسرحي بارتفاعاتها التي تعتليها بورتيرهات لأشخاص أهل القرية. وقد ملأت هذه المنحوتات الخشبية الفضاء وقامت بتشكيله، واعطائه ابعادا ودلالات متنوعة ومختلفة، على امتداد العرض، وفقا للحالات المسرحية المقترحة من المخرج. تبدو في البداية، كأنها مقبرة مليئة بالشواهد، بعيدة عن القرية وأهلها النائمين. لكن المقبرة تتحول بالإخراج والإضاءة، في المشهد الذي يذهب فيه أوباحدا الى شيخ القرية، ويطلب منه مناداة المختار، والفقيه والطبيب، الى بيوت القرية وأبوابها التي يقوم بطرقها بشكل ايمائي. اما في المشهد الذي يجتمع فيه اهل القرية وسط مناخ من الاحتفال القروي حيث الموسيقى والرقص والكحول وطقوس الترحيب، فتسلط الانارة على وجوه المنحوتات الخشبية وبعض اجزائها فتبدو كما لو انها شخصيات حاضرة امامنا مع الممثلين الثلاثة. يختصر محمد الحر نساء البلدة في شخصية شامة زوجة الطالب علي، الذي يحاول أوباحدا استدراجها بالكلام، طالبا منها النظر الى صورة الرجل وتذكر ايام صباها. وبعد ان تتمعن شامة في صورة الرجل، تخبره بأنها لم تره لا من قبل ولا من بعد، وعندما يلح، تستنجد بزوجها، عبد الله ديدان، الذي يؤكد هو ايضا أنه لم يعرف الرجل أو يراه من قبل. يخبرهما اوباحدا بأنهما هنا من اجل التعرف إلى صورة الرجل الذي جاء لكي يبحث عن ابنه الذي تركه جنينا في بطن احدى فتيات القرية، لكنه مات عند وصوله إلى القرية. هنا يبدا الشك، وينتاب الحالة شيء من الغموض. فيشهر الطالب علي خنجره في وجه أوباحدا، لكن تدخل المخرج محمد الحر، يمنع وقوع فعل القتل للمرة الثانية. و ننتقل الى مشهد اخر حيث نرى فيه الطالب علي في حالة مزرية، وهو يحاكم زوجته شامة مشككا في اخلاصها ووفائها له، متهما اياها بالخيانة، وعندما يلح عليها بالسؤال تخبره نكاية، بأن ابنها العزيز على قلبه، هو ابن المهاجر الغريب، فتثور ثائرته، ويتم فعل الملاحقة بين الزوجين من جديد. ثم يعيدنا المخرج الى المشهد الذي اراد فيه الطالب علي قطع عنق أوباحدا، فيخبره عندئذ هذا الاخير بأن الرجل المهاجر الغريب قد ترك لابنه ارثا كبيرا، وجاء لكي يسلمه اليه ولكنه مات قبل تحقيق رغبته. هنا تتبدل لهجة الطالب علي مع زوجته شامة فيعتذر منها ويتوسل إليها طالبا ان تصفح عنه وان تقلب صفحة جديدة، ولا سيما انه يفكر في الانتقال الى العيش في المدينة وترك حياة الفلاحة ومشقة العمل غير المجدية. لكن من اجل تحقيق هذا الحلم الجميل، عليها ان تخبر الشيخ بأنها هي الفتاة الذي جاء يبحث عنها المهاجر، وهنا تصعق شامة من هول ما تسمع، فتبدأ بالصراخ والعويل، مما يضطر الطالب علي إلى قتلها خوفا من ان تفضح سره.
تتناوب مشاهد القصة بشكل مباشر امام الجمهور، من خلال السرد والتلميح، وذكريات الماضي وقفز المراحل الزمكانية، لكي نعثر عبر الابواب الخمسة للمسرحية، على الحدث وهو يتحقق بشكل تدريجي، وعلى دفعات. وقد حافظ هذا الهيكل المقترح من المخرج على اتساق العمل من البداية حتى النهاية وجمع اطراف قصته، وخلق تعددا في وجهات النظر. في النهاية، سعى العمل لان يكون مجالا حقيقيا للفرجة المسرحية.
محمد سيف - النهار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق