مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
يأتي كتاب “رسائل إلى العائلة”، للأديب الروسي أنطون تشيخوف، الصادر أواخر 2014 عن وزارة الثقافة والفنون والتراث بدولة قطر وقد ترجمه إلى العربيّة ياسر شعبان، ليلقي المزيد من الأضواء على جوانب هامّة وحميمية في حياة وشخصيّة هذا المبدع الكبير، ولا سيما علاقته بأفراد عائلته وبالعالم من حوله أيضا.
يتناول تشيخوف، رائد القصة القصيرة في هذا الكتاب، أفكاره وتأملاته حول صفات المثقف، والرحلات البحرية التي قام بها إلى سبيريا وأوروبا وغيرهما من الأماكن. وتكشف هذه الرسائل جوانب معتمة من حياة الكاتب، وتوتر علاقته مع زوجته التي هجرته في فترة مرضه الأخير قبل وفاته.
الكتاب بفصوله السبعة، يتضمّن ثلاثا وثلاثين رسالة، مكتوبة في فترات متباعدة ومن أماكن مختلفة، إضافة إلى رسالتين كتبتهما زوجته بعد وفاته، يبدأ برسالتين إلى الأم يفجينيا والتي كان لها دور مؤثِّر في تنشئته وورث عنها الحساسيّة والطبع الليِّن. وفيهما، كما في معظم رسائله، يركّز تشيخوف على أدقّ التفاصيل العابرة، فنجده يكتب برويّة وهدوء شديدين عن المأكل والمشرب ونظافة الأماكن حيثما حلّ، وكذلك حديثه عن الأشخاص ممّن يلتقي بهم أثناء أسفاره أو حتى من يصادفهم في الطريق، وبأسلوب سرديّ شيّق، لا يخلو من سخريته المعهودة.
في إحدى رسائله نجد تشيخوف يقول واصفا إحدى الحانات ومن فيها “كان البار كريها وضيّقا للغاية، لكن الطاهي، جريجوري إيفانيتش، والذي سبق له أن عمل خادما منزليّا في فورنيز، كان في قمّة أدائه المهني”.
وفي نص آخر يقول “قام الموظف الحكومي كياهتان، الذي كان يستعدّ للسفر هو الآخر، بالترحيب بنا، وقَدَّم لنا شايا رائعا”.
وإلى أخته ماريا، المعلّمة والفنانة التشكيلية، التي يعود إليها الفضل في جمع أعماله، والإشراف على متحف تشيخوف بمنزله في يالطا، يكتب أربع عشرة رسالة، طويلة، عكس بقيّة الرسائل، والتي جاءت في الغالب قصيرة ومختزلة. ويخصّ الكاتب كلا من إخوته الثلاثة ميشا ونيكولاي وإيفان برسالة واحدة، بينما يخص أخاه الأكبر ألكسندر بست رسائل والأصغر ميخائيل بخمس فقط.
كما نجد رسالة كتبها لابن عمّه ميخائيل، واثنتين لعمّه م. ج. تشيخوف، وتسع رسائل إلى زوجته الممثلة أولغا كنيبر، التي قامت بأداء العديد من الأدوار النسائيّة الرئيسية في مسرحياته.
ويبدو أن تشيخوف الذي أحب زوجته قد فرح بحدث فراقها الحزين، عندما تركته في المنتجع الصحي بألمانيا حيث ذهب هناك لاشتداد مرضه بالسل، وتركته هناك وذهبت لمعالجة أسنانها في سويسرا، فأرسل إلى أخته رسالة يحكي لها عن ذلك وكأنه حدث سعيد، فقد وجد نفسه كبطل قصة تولستوي الذي تركته زوجته وهو مريض ولم تهتم به، ليبرز هنا عشق الكاتب للأدب قبل كل شيء.
يختم الكتاب برسالتين من زوجته، في فصل خاص، يحمل عنوان “من أولغا إلى تشيخوف بعد وفاته”، وهما من الرسائل المكتوبة بعد وفاته، إذ داومت أولغا لشهرين على كتابة يوميّاتها، وكانت عبارة عن رسائل متخيِّلة إلى تشيخوف.
عنصر المفاجأة لا يفارق رسائل تشيخوف (1860-1904)، كأن ينهي حديثا طويلا إلى الأم يفجينيا بقوله “يا لها من ذبابة خيل، لا تتوقَّف عن القرص!”. أو يذيّل رسالته بـ”المسافر الضجر عبر نهر الفولغا”، أو ينهيها بـ”الإنسان تشيخوف”، على سبيل الدعابة لا أكثر.
الرسائل التي ضمها الكتاب خطتها أنامل تشيخوف بأسلوبِه الرقيقِ العذبِ، وإن احتلت رسائله وهو في الطريقِ إلى سخالين بسبيريا الجزءَ الأكبرَ من المراسلاتِ هنا، حيث يصف خوضه لفيضانِ الأنهار والوحل والبرد ومن يقابلهم غائصا في وصفِهم، والجمالية هذه تتجلى حتى في التفاصيلِ فهو يحكي كل التفاصيل التي عاشها بدقة بالغة ومهارة رسام يعتني بأدق الجزئيات.
يعتبر أنطون تشيخوف من العلامات الفارقة في تاريخ القصة القصيرة، واحد من أكثر الكتاب شهرة في الاتحاد السوفييتي السابق. كان له تأثير في كثير من الكتّاب العالميين مثل فرجينيا وولف، وفي العالم العربي كان له تأثير واضح على يوسف إدريس، الذي عدّه كثيرون تشيخوف العرب.
عمادالدين موسى - العرب اللندنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق