مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
المصدر ايلاف
يوليوس قيصر على مسرح شكسبير الملكي نموذجا
ماذا يقول المؤرخون عن روما اليوم؟
هل يقولون إن ساحاتها الشاسعة لا تتسع إلا لرجل واحد؟
شغل موضوع القتل السياسي إهتمام شكسبير في معظم مآسيه. وكان يعود اليه في تراجيدياته ومسرحياته التاريخية، حتى انه خصص لموضوع الإغتيال السياسي مسرحيته الشهيرة (يوليوس قيصر) برمتها. وكان السؤال الذي يشغل ذهنه هو:هل القتل السياسي مبرر؟ وماهي النتائج المترتبة عليه؟ في عالم يحكمه الطغاة يظهر ان ليس ثمة حل لمواجهة الطغيان إلا العنف. لكن العنف يوّلد العنف،هذا منطق يؤكد عليه شكسبير في معظم مآسيه. وفي نظره أن:
)ليس هناك ملوك أشرار وملوك أخيار، إنما هناك ملوك على درجات مختلفة من السلم). عبارة لخص بها (يان كوت) في كتابه الثمين (شكسبير معاصرنا) جوهر الصراع السياسي الدموي في مسرحية يوليوس قيصر.
ففي عرض المسرحية على مسرح باربيكان من قبل مسرح شكسبير الملكي قبل عدة سنوات، أبرز المخرج(إدوارد هال) سياقات الصراع التاريخي التي تحتل المكانة القصوى في فهم شكسبير للتاريخ. وهي سياقات تظل أبدية تلازم الانسان في سعيه الحثيث للمسك بزمام السلطة السياسية. صراع يتجلى اليوم على المسرح السياسي في عالمنا المعاصر اكثر من أي وقت آخر. وكما هو الحال في معظم تراجيديات شكسبير فإن الشخصيات المتصارعة تتخاصم وتتعارك ضمن تاريخ معين يظل بمجراه الدموي هو البطل الرئيس والآلة الكبرى، لوالبها وعجلاتها كما يقول يان كوت، سادة كبار وقتلة مأجورون، آلة تجبر الناس على العنف والقسوة والخيانه وتطالب دوما بضحايا جدد.
استقى شكسبير مادة المسرحية من سير) حياة المشاهير) لبلوتارخوس اليوناني ومن الفصل الخاص بحياة يوليوس قيصر. وكان اغتيال قيصر يشكَل للإلزابثيين أكبر جريمة على مر العصور، فقد كان ينظر إليه بشيء من القدسية والألوهية. وبعد موته عنّفه معاصره وخصمه الشهير المؤلف المسرحي (بن جونس) متهما إياه بضآلة معلوماته في اللاتين واللغة اليونانية. لكن شكسبير لم يكن بحاجة الى معرفة اللغة اليونانية كي يقرأ كتاب بلوتارخوس، الذي كان قد ترجم الى اللغة الانكليزية في السبعينات من أعوام 1500. ومهما يكن من امر المصادر التاريخية للمسرحية فإن شكسبير لم يكن معنيا بالتاريخ كمؤرخ، بل كفنان مبدع، حتى ان صورة يوليوس قيصر نفسها مبتكرة لا تتطابق كثيرا مع شخصية يوليوس الحقيقية من الناحية التاريخية. وأكثر من ذلك أن المتآمرين أنفسهم يحملون عنه أفكارا متضاربة وصورا تختلف من شخص إلى آخر.
ويرى النقاد في هذه المسرحية نمطا خاصا ليس من بين مسرحيات شكسبير فحسب بل وبشكل عام من بين جميع المسرحيات التاريخية، ببنائها المحكم وحبكتها المتينة وقدرة مؤلفها على شد المتفرج طوال العرض. على اننا ملزمون هنا بتوضيح مقتضب حول مفهوم المسرحيات التاريخية في اعمال شكسبير والذي ينطبق حصرا على اعمال المؤلف الخاصة بتاريخ انكلترا وليس على المسرحيات التي تستمد موضوعاتها ومادتها وأبطالها من التاريخ، كمسرحية يوليوس قيصر على سبيل المثال، أما المسرحيات التاريخية فتضم مسرحيات من مجموعة ريتشارد الثاني وريتشارد الثالث، وكذلك مسرحيات هنري الثالث والثامن وهكذا دواليك، وهي مسرحيات تتناول تاريخ إنكلترا.
تشير الدلائل الى ان شكسبير كتب مسرحية يوليوس قيصر عام 1599 وليس قبل ذلك التاريخ على أي حال. فهي تنتمي من الناحية التاريخية الى مجموعة (هنري الخامس) و(كما تهواه) و(الليلة الثانية عشرة). وفي حينه اعتبرت (يوليوس قيصر) واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير شعبية.
ملاحظة: النصوص المقتبسة، من ترجمة الدكتورمحمد العناني لمسرحية يوليوس قيصر.
كثّف المخرج إدوارد هال نص المسرحية في وحدة فنية ذات بناء محكم وإيقاع دقيق بعد دمج مشاهدها وإلغاء الفواصل بينها بما في ذلك إلغاء فترة الاستراحة المألوفة في عروض مسرحيات شكسبير. ان المخرج إدوارد هال، الضليع بإخراج مسرحيات شكسبير والذي شهد له الجمهور اللندني عروضا متميزة مثل (الليلة الثانية عشرة) و(كوميديا الأخطاء) و(ريتشارد الثالث) و(حكاية شتائية) وعلى مسرح شكسبير الملكي (الملك لير) و(سيدان من فيرونا) و(هنري الخامس) ينقل أحداث المسرحية الى الزمن الحاضر المشحون بالأحداث المفاجئة والتحولات السريعة. فالمشهد الاول يسبقه مشهد إستهلالي ذو طبيعة إحتفالية وإستعراضية. إحتفالات مهيبة وطقوس منظمة تمهيدا لظهور قيصر، كما يحدث في دول تسودها الفاشية ويحكمها الطغاة .
يستهل شكسبير مسرحيته باحتفال الرومان بعيد الخصب (لوبيركال) في شكل كرنفال مهيب يقدم فيه القائد العسكري(مارك انطونيو) التاج الى يوليوس قيصر الذي يتردد في قبوله، معبرا عن مخاوفه الناشئة من تمركز السلطة في يد شخص واحد، وإن ذلك سيقود من دون شك الى التآمر عليه، وتدعم هذا الزعم نبوءة الامبراطورة كالبورينا التي تتراءى لها في صورة حلم مزعج، مفاده ان القيصر سيتعرض الى عملية اغتيال في الخامس عشر من آذار وستكون نهايته على يد زمرة من المتآمرين. ويفصح المتآمرون متمثلا في شخص بروتس عن نواياهم وعن مناقب قيصر وبالمثل يدافع انطونيو عن قيصر في خطبة منمّقة، تعد أكثر الخطب إتقانا في تاريخ الإلقاء وفن الإقناع، يسمح له بروتس بإلقائها امام الرومان ومن خلالها ينقلب الرومان على المتآمرين فلا يبقى امامهم إلا الفرار من روما لتبدأ الحروب الطاحنة بين المعسكرين تنتهي بانتصار انطونيو.
. كتب أحد النقاد )وأنت تشاهد العرض في باربيكان تحس وكأن شكسبير يعيش بين ظهرانينا، وهو يتابع سياسة بلير المحمومة عن كثب) وأكثر من ذلك انه كتب مسرحية (يوليوس قيصر) بعد أحداث 11 سبتمبر، اذ تفاجئك لافتة كبيرة على المسرح كتب عليها (السلام - الحرية- التحرير) والتي تذكرنا ببعض خطابات الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش التي يردد فيها (التحرير- العدالة).
بروتس : انحنوا أيها الرومان ! انحنوا ولنغسل أيدينا في دم قيصر
حتى المرافق! ولنخضّب سيوفنا بالدم ثم نخرج إلى السوق
فنلوّح بأسلحتنا الحمراء فوق رؤوسنا جميعاَ ولنصح: ) السلام والحرية والخلاص)
كاشياس : انحنوا إذن واغتسلوا! ترى كم من الزمن سيمضي
قبل ان يعاد تمثيل هذا المشهد الجليل في دول لم تولد بعد، وبلغات لا نعرفها!
بروتس : بل كم مرة سيقدم فيها قيصر على المسرح وهو ينزف دمه. .... تمثيلا لا واقعا ..
بينما يتمدد الآن هنا على قاعدة تمثال بومبي جثةَ لا تزيد عن التراب!
كاشياس : وكل مرة يمثل فيها هذا المشهد سيقال إن عصبتنا هي التي حررت بلادها
)المشهد الأول ـ الفصل الثالث(
إن طريقة الأداء في هذا العرض تنطوي على فهم الممثل لدوره وقدرة تفسيره تفسيرا قائما على فهم العلاقة الحية بين الماضي والحاضر، بما يتناسب والمهمة ) ما فوق العليا للمسرحية ) على حد تعبير ستانيسلافسكي) والعرض معاَ. فبدون فهم المهمة مافوق العليا التي تشكل قوام منهج ستانيسلافسكي في الواقعية.
إن ممثلي مسرح الملكي يقدمون مثل هذا الطراز من التشخيص في يوليوس قيصر بوسائل فنية ومهارات تمثيلية خالصة وخالية من التعقيد. يوليوس قيصر في أداء الممثل إيان هوكس، امبراطور فخور يتحرك في جلال وعظمة، إنه باختصار مزيج من القوة والوهن، الجبروت والضعف، العافية والمرض، يقابله الممثل كريغ هيكس في دور بروتس كنمط مألوف للسياسي الذي يتبنى القيمَ المثالية، ويتظاهر باللاعنف، حتى عندما يشارك في الدسيسة والمؤامرة لقتل القيصر. فهو سياسي عقلاني يتبنى المؤامرة بمبررات إنسانية دون أن يظهر حقده على الامبراطورية وعلى القيصر، وعليه فهو ينتمي إلى أخطر السياسيين فتكا بخصومه وتأثيرا في الآخرين . أما الممثل تيم بيكوت سميث فيقدم لنا شخصية كاشيوس كنقيض لشخصية بروتوس تماما، فهو نموذج للسياسي المتزمت المتحمس المتعصب المؤمن لا يخفي إيمانه بالعنف. أما من جهة أنصار قيصر فيقدم الممثل توم مانيون صورة واضحة ودقيقة للرجل السياسي المعاصر والخطيب اللبق والمراوغ والذي بإمكانه تأليب الشعب متى ما شاء بتصوير الحقائق تصويراَ مغايرا للواقع تماماَ.
الحلول السينوغرافية في هذا العرض قائمة على مبدأ المعاصرة وتحطيم الأطر التي تحبس فضاءاتها داخل الأزمنة الغابرة، فتحس منذ الوهلة الأولى وكأنك مقبل على الخوض في لجة أحداث عاصفة. هذا المدخل يذّكرنا بعرض شكسبيري آخر، تحديدا بالمشهد الإفتتاحي لمسرحية شكسبير (حكاية شتائية) من إخراج المخرج السويدي إنغمار بيرغمان في منتصف التسعينات من القرن المنصرم على خشبة المسرح الملكي في استوكهولم، حيث شكّل هو الآخر فضاء ذهنياَ وحسياَ في صالة المتفرجين مماثلاَ لأجواء المسرحية. تؤكد عناصر السينوغرافيا المنتقاة بدقة دورها الحاسم في سبر أغوار النص وإضفاء الحميمية والمعاصرة على العرض. بدوره تمكن المصمم ميكائيل بافولكا، مصمم مناظر عدد من العروض الشكسبيرية الناجحة لمسرح شكسبير الملكي من أمثال(سيدان من فيرونا) و(هنري الخامس) من تحويل باطن النص الشكسبيري الى مفردات بصرية ذات دلالات عميقة ووظيفة نفعية في الوقت نفسه. وفي ما يتعلق بفضاء اللعب فقد بات مفتوحاَ في مشاهد الالتقاء بعامة الناس ومغلقا في مشاهد الدسائس والمؤامرات.
ان تتابع المشاهد المنفتحة والمنغلقة يجري في هذا العرض بإيقاع منظّم متزامن مع المشاهد القريبة والمشاهد البعيدة وكأنها مرآيا تعكس احداث المسرحية بجلاء، وهي من التقنيات الإخراجية الناجحة في خلق الإيهام الضروري بالأبعاد الزمكانية. تقنية طالما أستخدمها بيرغمان في إخراجه مسرحيات شكسبير على المسرح الملكي ) الملك لير، هاملت، حكاية شتائية)مركزاَ على الجوهر بالتعبير عنه مجازياَ مع إهمال التفاصيل غير الضرورية.
ارتكز عمل المخرج والمصصم على الغاء الحد الفاصل بين المسرح والصالة لخلق مشاركة فعلية بين الممثلين والنظارة، ما يسّر تجسيد مشاهد عامة الشعب الروماني بحيوية وتلقائية، اذ يجري معظمها في صالة المتفرجين بطريقة فعلية وليست شكلية. فمن خلال توزيع الممثلين في الصالة وظهورهم المفاجئ بين النظارة ساد إحساس وكأن صالة المتفرجين هي المسرح الحقيقي للأحداث أو الساحة الكبرى في روما، خصوصاَ عندما يقف المتآمرون ورجال الحكم على المسرح وهم يراقبون الشعب والمعارضين في الجهة المقابلة. ان المخرج حوّل روما القيصرية إلى عاصمة دولة فاشية، بذلك بدت المسرحية أكثر معاصرة من أي وقت مضى. أليس كذلك؟
المصدر ايلاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق