مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
1-2
تنتمي السلطة إلى تلك المفاهيم التي رافقت العقل البشري منذ تأسيسه الأول وإلى رغباته في بسط الهيمنة على الآخر مستفيداً من قدرته على فرض القوة ، الأمر الذي تحولت معه السلطة إلى فعل مستمر ومتجدد تتفاعل الجماعات الإنسانية معه ، وتسهم في إعادة إنتاجه داخل البنية الإجتماعية ، الامر الذي أسهم بدوره في إنتاج متماثلات سلطوية اكتسبت من شخصيات التأريخ حضوراً وأسلوباً في إخضاع الشعوب على إختلاف عاداتها وتقاليدها ، مستفيدة من توافرها على مسميات مختلفة تتكئ بعضها على مبدأ القوة المادية المباشرة ، ويرتبط بعضها الآخر على ماهو مستتر داخل المتن الديني الذي أفاد منه رجال السلطة في إخضاع المجتمع تحت ذريعة التعاليم السماوية .
وقد شكلت تلك الثنائيات التي تتكئ السلطة عليها علاقة جدلية أفاد فن المسرح منها على مستويات عدّة ، منها ما ارتبط بتأسيس البنية النصية التي تشكلت عبر تدوين نصوص مسرحية (عالمية وعربية وعراقية) اكتسب بعضها خصوصية التعبير عن السلطة، إذ تأتي في طليعتها شخصية (كلكامش) الباحث عن الخلود ، وشخصيات المسرح الإغريقي المشاكسة لسلطة القدر ، وشخصيات شكسبير الدموية ، وشخصية كاليجولا عند ألبير كامو ، وغيرها .. بوصفها شخصيات ارتبطت بالمتن التأريخي ، ولم يكن المسرح العراقي بمعزل عن التعاطي مع تلك الشخصيات سواء عن طريق الإعتماد على ماتوافر في المسرح العالمي ، أو مايتوافر في التراث العربي الحافل بالشخوص السلطوية والدموية . وتأتي تجربة الفنان الراحل (قاسم محمد) تأليفاً وإخراجاً وإعداداً في طليعة التجارب المسرحية التي نهلت من التراث العربي نصوصاً درامية وعروضاً مسرحية أسهمت في تكوين خصوصيته المسرحية التي شكلت حضوراً عراقياً وعربياً ، ولاسيما في اشتغاله على مايتوافر في التراث العربي الإسلامي من شخوص وأحداث درامية أفاد في تحويلها إلى المسرح والتعبير عن القضايا الراهنة التي تأتي في طليعتها هيمنة السلطة على المجتمع وإغراقه بالحروب الدموية من أجل تحقيق غايات تسلطية ، وقد اعتمد في ذلك على المتن التراثي سعياً وراء الخلاص من سلطة الرقيب التي كانت تسيطر على الحقل الثقافي ، وما مسرحيته الأخيرة ( مكاشفات ) التي عمل على إعدادها بالإعتماد على المزاوجة بين مسرحية (مكاشفات عائشة بنت طلحة ) للأديب (خالد محيي الدين البرادعي ) ومقاطع من مسرحية( أبن جلا ) للكاتب المسرحي (محمود تيمور) ، إلا دليل على مشروعه المستمر في إعادة إنتاج التراث العربي وجرجرة شخوصه التي شكل حضورها امتداداً معرفياً متمركزاً في بنية العقل العربي ذي النزعة التسلطية ، وقد اختار التعاطي مع شخصية (الحجاج بن يوسف الثقفي) الذي يعد من الشخوص المثيرة للجدل في التأريخ الإسلامي ، لإحتكامه على مبدأ القوة في بسط السلطة والسيطرة على المجتمع .
قدمت مسرحية (مكاشفات) على قاعة المسرح الوطني في بغداد ، سيناريو وإخراج ( غانم حميد) تمثيل :( د. شذى سالم ) و ( د. ميمون الخالدي) و (فاضل عباس)و سينوغرافيا (علي محمود السوداني).
ثنائية النص الدراماتورجي وسيناريو العرض:
اختلفت التوصيفات المعرفية في تحديد مفهوم الإعداد المسرحي للنص، ويعود ذلك إلى ان فكرة الإعداد ظلت مرتبطة بتحويل البنى السردية والشعرية المنضوية تحت مسميات (الشعر والرواية والقصة القصيرة ) إلى الحقل المسرحي عن طريق اختزال الاحداث السردية وتحويلها إلى أفعال درامية فضلاً عن تضمينها للصراع الدرامي بين شخوصها . من جهة اخرى فإن عملية تكييف النص المسرحي لمقترحات الرؤية الإخراجية بات يدخل في اشتغالات الإعداد، لاسيما مايرتبط منها بإنتاج نص درامي مغاير عن النص الأصلي ، ويأتي اشتغال الفنان الراحل (قاسم محمد) في تلك الحدود ، إذ يدخل (الإعداد) للنص المسرحي في وظيفة الإشتغال (الدراماتورجي) الذي اعتمده (قاسم محمد) في تكييفه للنصوص ، الامر الذي أسهم على نحو فاعل في إنتاج نص مغاير عن النصوص التي شكلت مرجعياته الدرامية ، فضلا عن أن (قاسم محمد) إعتمد في صياغته للنص المعّد على تدوين لغة درامية امتلكت خصوصية شعرية أسهمت على نحو فاعل في التعبير عن شخصيات المسرحية التي إرتبط كل منها بمرجعيات معرفية في التراث العربي الإسلامي ، فضلا عن اعتماده على إنتاج صراع متباين داخل المتن النصي، بمعنى أن (النص المعّد) لم يركن إلى تأسيس صراع تقليدي متوارث عن النصوص، بل راح يتفاعل مع الشخصيات في إنتاج صراع على مستويات مختلفة منها ما يعود إلى صراع غير متكافئ القوى بين ( الجلاد/ الحجاج) و (الضحية/ عائشة) ،إذ بدا واضحاً أن (الحجاج) اعتمد على مايمتلك من سلطة في السيطرة على المجتمع ، وقد تكشف ذلك على نحو واضح في مقولاته التي شكلت ذاكرة جمعية تم عن طريقها التعبير عن السلطة القمعية ، عبر مقولاته التسلطية: ( إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها .. وإني لصاحبها) ، وفي مستوى آخر للصراع اختار (قاسم محمد) التأكيد على صراع (الذكر/ القوة) ، (الأنثى / الضعف) ، وهي إشارة دالة إلى العقل الذكوري الذي هيمن على السلطة داخل البنية الإجتماعي العربية ، إلا أنه لم يركن إلى الصراع الأحادي الذي تم إنتاجه عبر السلطة الذكورية فحسب، بل عمل على تأسيس (القوة الناعمة) التي إحتكمت إليها شخصية (عائشة) في مواضع مختلفة من المتن النصي والتي تمكنت فيها من ترويض (السلطة الذكورية) داخل العقل العربي المتمثل بالحجاج ، وبذلك فإن ( قاسم محمد ) استطاع إنتاج نص درامي ينهل من التراث العربي وشخصياته الجدلية ويسهم في التعبير عن الحجاج وسلطته الحاضرة في كل زمان ومكان.
إلا ان صياغة المخرج للنص الدرامي تحت مسمى ( سيناريو العرض) لم تكن منسجمة مع المنطلقات الفكرية العميقة التي كشف عنها نص (مكاشفات) ، وقد يبدو ذلك للوهلة الاولى جرأة ومغايرة من المخرج ، إلا ان (سيناريو العرض) جاء على نحو متواضع ، ابتداء من تهشيم النسق النصي الذي اعتمد (قاسم محمد ) في تأسيسه على شخصيتي (الحجاج، عائشة) بوصفهما بؤرتي صراع ، إلا أن المخرج توجه إلى إضافة شخصية (مجهولة الهوية والمعنى) تحت مسمى (خادم العرض) في محاولة لخلق مشاكسة درامية أسهمت على نحو فاعل في إنتاج فجوة درامية أطاحت بالمتن النصي ، وذلك عن طريق إعتمادها على اللهجة المحلية التي كان لها دور فاعل في تهشيم البنية النصية ، وقد بدا واضحاً أن المخرج اختار الركون إلى اللهجة المحلية في محاولة للتعبير عن مقترحات إخراجية ارتبطت بالمنطلقات الأساسية للمسرح البريختي عن طريق (قفشات لفظية)، إلا أن ذلك لم يكن بمعزل عن الملفوظ النصي الهجين الذي اقتحم بنية النص وأسهم على نحو واضح في الإطاحة بالشخصيات الدرامية ومرجعياتها التاريخية في محاولة فقيرة للتعبير عن إنحطاط السلطة عن طريق تفاعلها مع الملفوظ الهجين ومغادرتها للملفوظ النصي، ولم يقتصر ذلك على شخصية (الحجاج) حسب ، بل إنعكس بدوره على شخصية (عائشة) التي طالها الإنهيار اللفظي لتكون منسجمة مع مقترحات (سيناريو العرض) ، الامر الذي انتفى معه الصراع الدرامي بمستوياته التي بدت حاضرة في المتن النصي الذي تأسس ابتداء على وفق قراءة دراماتورجية أسهمت في إنتاج نص محايث لما توافر في النصوص السابقة.
المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق