مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
يفقد الناس الأدب مقابل ما يكتبونه من هُراء. فالحوادث والحرب، والرقابة و الارتياب الذاتي، وحالة اللامبالاة والذرية الصلبة ــ جميعها قد وجدت مكاناً لها في مكتبة العالم. فبعض المفقودات مادية وغير قابلة للإلغاء. والبعض الآخر مفقود لأن المؤلف يقول هكذا، وليس لأن الرأي العام يحسبها كذلك. وهذه ربما أكثر إشكالية : فهي مفقودة لأن ليس هناك من يريدها موجودة.
في تشرين الأول من عام 2015، أعلن سين ترنر، وهو مخرج مسرحي بريطاني، أنه قد توصل بعد تنقيب إلى مسرحية آرثر ميلر الأولى القليلة الشهرة التي لم تمثَّل أبداً، والتي تم التخطيط لمسرحتها كجزء من الاحتفالات بمرور مئة عام على ميلاد الكاتب المسرحي الأميركي ( 1915ــ 2005) وقد تم أول ظهور عالمي لمسرحية " ليس هناك من وغد No Villain " في مسرح صغير يقع فوق حانة في لندن تدعى "الأسد الأحمر العجوز". ومع أن الإنتاج جاء متأخراً 79 عاماً، فإن المزاج كان مرحاً. وقد راح الضيوف يحتسون الشمبانيا بينما كانت فرقة موسيقية تعزف " سنلتقي ثانيةً ".
وكان السيد ميلر في العشرين من عمره وهو طالب في السنة الثانية بجامعة ميشيغان حين كتب هذه المسرحية عام 1936. وكان الدافع المال، وليس عرائس الإلهام، وراء قراره : فقد كان في حاجة للنقود ويأمل في الفوز بجائزة مسرحية جامعية قيمتها 250 دولاراً ( وهذا ما حصل ). وفي السنوات اللاحقة، وقد كبرت سمعته كواحد من كتّاب أميركا المسرحيين البارزين، انتقلت اهتماماته إلى مشاريع أخرى. فوجدت مسرحية " ليس هناك من وغد " هذه نفسها في ذلك المكان المعتم المعروف بأدراج الكاتب.
وقد عرف المخرج السيد ترنر بالمسرحية من سيرة آرثر ميلر الذاتية، " منعطفات الزمن "، حيث يرد لها ذكر واحد وحيد. وقد فاتح جامعة ميشيغان بأمرها ووجد أنها ما تزال تمتلك نسخة منها في ميكرو فيلم. وما قرأه السيد ترنر، وما يمكننا مشاهدته الآن، هو تقرير شخصي جداً عن السيد ميلر الشاب وأسرته، محجوب على نحو خفيف وراء قصة آل سيمونز، وهي أسرة يهودية تعيش في بروكلين خلال فترة الكساد في الثلاثينات. فالأب، أيب، يمارس عملاً تجارياً ضعيفاً في مجال صنع الملابس، ويعمل له ابنه الأكبر بين، أما ابنه الأصغر، رينولد، فقد عاد للتو من الجامعة وقد تعبّأ بأفكار ماركس وحقوق الطبقة العاملة. وحين تهدد الاضرابات بتدمير عمل أيب التجاري، يتحول الأب نحو ابنيه من أجل المساعدة، ويشتعل الفيوز.
ومسرحية " ليس هناك من وغد " ليست بالتحفة الفنية. إنها عمل شخص غير محترف موهوب ما يزال يتعلم حرفته. فلكل أداء بارع للشخصية هناك أداء آخر يكون دقيقاً. فاقتران الشخصي بالسياسي، الذي يتكرر في " كل أبنائي "، يخفق في الانسجام مع تناغم ذلك العمل اللاحق، بينما يبدو جوهر الدراما مؤسساً من دون ترتيب إلى حد ما ومصمَّماً بشكل مستعجَل.
وعلى كل حال، فإن السيد ترنر قد قام بعمل مؤثر بتسويته الصدمات والتجعدات : فالخطو مشدود، والمسرحة نظيفة وفعالة، وتوزيع أدوار الممثلين معتنى بها. ويمكن القول إن إخراجه يتدبر أمره في نقل الانفعالات التي يهدف إليها الكاتب المسرحي الشاب ولا يفلح على الدوام.وما بعد هذا، فإن المسرحية تستحق المشاهدة لرؤية الاستكشاف الأول للموضوعات التي سوف تستنفد عمل السيد ميلر اللاحق. فذلك كله هنا : الآباء المتحكمون، الملزمون الذين يوجهون نواقصهم إلى أبنائهم؛ التجاهل الشخصي الممرَّر كقوانين الحياة؛ الهاجس الذي يأكل المرء للتدخل في شؤون الغير، طغيان الأسرة؛ الخواص اللينة المراوغة للنجاح، و الحب، والسعادة؛ الالتزام التراجيدي بالأحلام الخطأ.
ويمكنك أن تدعو هذا دفاعاً عن رواية "امض ونصّب نفسك حارساً"، بعد التأمل والبحث عن الروح الذي أثارته رواية الكاتبة الأميركية هاربر لي الأولى هذه حين نُشرت بعد طول إغفال في موقت مبكر من عام 2015. وقد تساءل النقاد والقراء عما نأمل في كسبه من النظر إلى أعمال العظماء المهجورة المبكرة.
والجواب المريح هو أن هذه الأعمال المتروكة تتنبأ بالأعمال الكلاسيكية التي تعقبها. ويمكنك أن تعيّن مواهب المؤلفين، وكيف سيتطورون، وكذلك مشاكلهم وكيف سيتغلبون عليها. وهما المحاولة والغلطة الضروريتان لتطور المؤلف. فهل كان من الممكن من دون هذه المسرحية، " ليس هناك من وغد "، أن يوجد عمله الشهير "موت بائع متجول"؟ وهل ذلك الزعم التطوري كافٍ لإثبات شرعية وجودها؟ وقد ظل السيد ميلر، طيلة حياته، يجيبنا على ذلك السؤال الثاني. وفي نهاية الأمر سيكون التاريخ هو مَن يقرر، أما بالنسبة للوقت الحاضر في الأقل، فإن ما فُقد قد تم العثور عليه الآن.
ترجمة: عادل العامل
عن/ The Economist
المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق