مجلة الفنون المسرحية
عندما تختفي الصفحة البيضاء ، ويموت المؤلف (الكاتب) ، ونبتعد عن النص (الأم) ، لابد من أن يكون هناك نصاً أخر موازياً للنص المكتوب ، وهذا النص يسمو ويتألق بإدراك حسي من لدن الممثل(الجوهر) الذي راح يبحث عن آليات وإشتغالات جديدة تشفي غليله في كتابة النص من جديد ، ولكن هذه المرة برؤى حديثة معاصرة . أذن هي دعوة وعودة الى النص (الجسد) من اجل البحث عن المعنى المستتر والمعنى المفقود ، وهذا في حد ذاته يمثل محاولة في الحفر عن الجسد المرتبط بالممثل أو الممثل المرتبط بالجسد ، وكلاهما يعمل على تطويع أوامر الأخر(الممثل المخرج) بسرعة خاطفة واستجابة متناهية قد تؤسس هيكلية النص (المخطط النصي) المرتجل وفق رؤى ، وتصورات ، وهذيانات حلميه (متمردة) تحفر على جسد الذاكرة ، ومن ثم يتم استدراجها شيئاً فشيئاً إلى أرضية الواقع عن طريق (الممثل) الذي يكتب أروع لغة بأجمل جسد. كما يقول(جاك ليكوك ) ” الممثل يكتب بجسده في الفضاء المسرحي مثلما يكتب المؤلف المسرحي بقلمه على صفحة بيضاء” أو كما يرى (ارتو) الذي يعول في تنظيراته المسرحية على( الفعل الجسدي او شبه الجسدي) إذ يرى في الجسد (مدخلاً لأشكال التواصل في الكون) عبر رحلاته الإستشراقية التي يؤكد من خلالها إلى( عودة الدراما إلى صفائها الأول) ،وهذا ديدن بعض العروض المسرحية التي خرمت من (الجسد) خطاباً كونياً عمرت به بعض المفاهيم (الوجودية) خطاباً يمرر ضمن منظومة علاماتيه مشفرة لاعتبارات أن الجسد هو( النص )،والنص هو( الجسد)، وبالتالي هو:(الهمس والحوار الداخلي الذي يضج بين الممثل وكينونته المطلقة ، وبين ذاكرة الجسد وذاكرة الأشياء التي تخلق وجودها في الفضاء المسرحي )انه جسد الأحلام والتأملات والهذيانات البعيدة عن كل ثرثرة واتزان، بعيدة عن كل تقديس وهسهسة لغوية (في البدء كانت الكلمة)،إنها لغة الكون لغة الجسد الراقص “سوناتا الهشيم” التي حازت على جائزة أفضل أداء جماعي في المهرجان المسرحي الأول الذي أقيم في كلية الفنون الجميلة(بابل)وهي من سيناريو وإخراج د. حازم عبد المجيد .. تقديم ورشة تواصل للثقافة والفنون(البصرة) الذي جاء متمرداً ومشاكساً للمتلقي أولا وربما للناقد أيضا .و لا أريد لقراءتي هذه أن تكون قاسية للعرض الذي أتهم من قبل المشاهد بشيئية من “التناصات” أو ما يعرف بـ(التلاصات) المترعة بالكثير من الصور والمشاهد واللوحات التكوينية (الراقصة) التي منحت هذا العرض هوية (تكنو/ كرافيه جسدية) عالية المستوى مشبعة بعض الشيء بدلالات “ايروتيكية” أنتزعها السيد(المخرج) من فضاءاته الذهنية(الأوربية) ليكون متلبساً بها شكلاً ومضموناً منذ قيام ساعة العرض التي شكلت طرحاً متعرياً لماهية ” الجسد” المضطرب والمضطهد بجدلية البحث عن الذات(الكينونة) من أجل الذات الغير متحررة عن قيود الوقائع والأفعال والأحداث المتراكمة والمتعاقبة على جسد الذاكرة الملتصقة بالوقائع أو الملتصقة بالمفترض (الغير موضوعي) الذي أستنطق العرض بتحولات (ميتا/ فيزيقية) اجترت من داخل المنظومة الذهنية (المعادلة المفترضة) للحالم (المخرج) الذي ضم سيناريو العرض بشيئية ” الواقع السحري” الملتصق بالخيال ، وبشيئية الشيء المفترض( اللاموضوعي) ليشكل قراءة مستقلة في البحث عن الوجود المتعري عبر سلسلة من الطقوس البدائية التي جردت العرض من ثرثرة اللغة الفارغة . ليكون” الجسد” أولا..، وقبل كل شيء لغة وحوار العرض الذي به يتكلم ويصارع ويتحرك، ويحيا، ويفنى ، وكل ذلك يحدث بدراية محسوبة منتظمة يرمي من وراءها إلى تجاوز المحرمات وتحريرها من القيود والرغبات المكبوتة التي لا يمكن السكوت عنها ..، وبالتالي هو(العرض) يركز على الممثل الحقيقي الذي يشغل جسده بطريقة (رياضية وأكروباتيكية) يحسن الصراع في إيقاع بدني يتناغم مع الفضاء السينوغرافي ..، وأخص هنا الممثل (المتحرر)من خوفه ورعبه ،وترسباته . آي الممثل الذي يكتب نصه عن طريق الحركة والجسد مستعملاً في ذلك طاقته التشخيصية الذاتية وذكاءه الفردي ، وبغير هذا لا يمكن للعرض ان يكشف لنا حقيقة التابوات الثلاث (المقموع/ الممنوع/ المحرم) الذي انماز به العرض جراء صراعات(نزاعات) نفسية أعلنت وجودها ضمن ميزانية (فكرة العرض) المموضعة داخل شرنقة (ثنائية) متضادة بين( الحياة والموت /الخير والشر/اللذة والألم /الأبيض والأسود …..) ثنائيات قلقة، حذرة، خائفة، متمردة نوعاً ما منذ التشكيل الأول (اللوحة الأولى) التي دلت على موضوعة العرض السوناتي رغم هيمنة الأشكال الغريبة التي عرت الجسد على غرار( ميثو/لوجي) غير مقنع بالمرة ،بدليل إذعانه من البداية لنزوات وشهوات أشبعت الغريزة لذات الرجل الأول(علي زيارة)الممثل الذي ظهر بلباس أبيض وجسد مربع على طراز (بدي كارد) ليكون المعادل الأول للخير، ولذات الجسد الآخر (عبد الزهرة سامي) الذي ظهر على هيئة( شيطان) طويل القامة(نحيف) يرتدي الثوب الأسود ، والأحمر ،والأخضر ،
وكذا (القناع) الوجه الآخر الذي أخفى(المخرج) به ملامح الشكل الحقيقي للوجه الذي مكنه إلى أن يكون أحد أسرار اللعبة التي لا تريد ان تفصح عن نواياها الحقيقية تجاه شيئين : الرقص أولاً باعتباره من المحرمات، و”الجسد” ثانياً باعتباره أداة غواية وعورة شكلت خرقاً وشرخاً في خطاب العرض الممسرح الذي ضج بتضاريس جسدية عبارة عن كتل بشرية (راقصة) جسدت طبيعة الصراع البشري ،أجساد لا تريد ان تعترف بالقسوة كمعالجة وعلاج ، ولا تريد أن تقول الحقيقة أي بمعنى أخر لم تؤثث لمكان معين ، ولا لزمان معين ، وذلك من أجل أن يبقى (العرض) مفتوح بقراءات تأويلية ربما تكون مقصودة ، أو غير مقصودة ،وهذا في حد ذاته يشكل قراءة أخرى تفتح العرض وتجعله على الدوام محايثاً بأسرار يصعب التكهن بوجودها بدليل منع تصوير العرض لأحتسابات أمنية قد تكون (دينية او أخلاقية أو اجتماعية) قد اوجد لها (المخرج) بعض المصوغات (المبررات) وهي إن العرض غير مكتمل ويحتاج الى وقت إضافي أخر ، أو أنه مرهون بكذا مهرجان ، ولا أريد(المخرج) أن اكشف عن أسرار العرض لحين وقتها مما دعاني إلى أن انوه قبل العرض إلى غلق الموبايل وعدم التصوير بأي جهاز موجود داخل صالة العرض التي أكتفت هي الأخرى بمشاهدة العرض دون تصويره …، لكن الحقيقة بعيدة عما قاله ويقوله المخرج . الحقيقة هي إن العرض المسرحي كان متخماً ب(أجساد شبه عارية راقصة)أصرت منذ ولادة العرض على ان تقتحم ذائقة” المتلقي” بكل ما تحمله من جرأه ومكاشفة صريحة لتكون إعلانا للكشف عن كل ما هو مستور ومسكوت عنه وفق رؤية( التشهي والأغراء) التي عرت الجسد بمفاهيم شهوانية أغرت الجسد لأن يتعرى،ويضاجع ، ويتناسل، ويستلذ ، ويتألم ،ويصارع ،ويحيا ، ويفنى ،… وكأن الحياة بدون هذا الحراك لا يمكن أن تستمر. آي بمعنى أخر غير جديرة بالعيش .
_______________
المصدر : بابات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق