مجلة الفنون المسر حية
من ضمن مهرجان "دي كاف" الذي تجري عروضه في القاهرة وتشارك فيه فرق من العالم كافة، آثرت فرقة "كون" السورية، لعدم تمكنها من تقديم عرضها "فوق الصفر" في مصر، أن تكون لها في بيروت خشبة مؤاتية لعمل استوحته من قصائد برتولد برشت التشاؤميّة، التي تردد في نهاية كل مقطع "أعيش في الأزمنة الداكنة"، ولعل أساساته شيّدت لها قصيدتها التعبيرية، الحيّة، حيث الإنسان المضطهد، المرسل بأدوات العنف والتعذيب إلى الموت أو الجنون، يرسم حدود جسده لا بالكلمات الشعرية بل بخطوط جارحة، نازفة، يشاركه الجمهور الجالس في مقاعده أحاسيسه المشرئبة، مخاوفه، وهربه من فخ ليقع في آخر.
الجمهور ليس من قارة بعيدة عنه، بل هو من ضلع هذا الإنسان الذي يمثّل على الخشبة حياته، أي بكلمة أخرى، ذلّ الحياة، قهرها، المجهول الذي بات صيغة تصرّف عليها أفعال القتل والدمار والإبادات، في سوريا، في العراق وعلى الحدود اللبنانية. في مجيئنا بهذا الكم الواسع من الناس لحضور "فوق الصفر" لمخرجها أسامة حلال، وأداء راوية الشاب، سارا الزين، ستيفاني كيّال، انطوان بوغيير، ماري تيريز غصن، عامر البرزاوي وحسّان رامح، كأننا كنا بمازوشيتنا المتأصّلة فينا، نمارس تعذيب الذات، وفي آن واحد نشارك الممثلين، واقع حياتهم، جزءاً لا يتجزأ منهم.
المشاهد المغمّسة بأفكار عبثيّة سوداء، ورموز عنيفة لا يفقه معانيها سوى من كتبوا النص الصامت إلاّ من الحركة الشبيهة غالبا
بملاكمات عنيفة أكثر منها رقصاً، وتخيّلوا أقصى ما تعانيه الشعوب حين تفتك بها الحروب، ولم يبالغوا.
فالحقيقة البشعة المتناقلة على قنوات العالم يرفض فن المسرح البوح بها علنا، فيتخيّلها على عنفها في قالب تعبيري مجازي من الشاعرية القاسية، تعيدنا إلى الشاعر برتولد برشت الذي من قصائده استوحى عرض "فوق الصفر" حالات تبلور الخط الذي سار عليه مسرحه العبثي. فبرشت حتى عندما يقول في قصيدته: "آكل عشائي مع المحاربين/ أنام بين القتلة/ ولا أهتم للحب/ ولا لجمال الطبيعة. أتمهّل..."، هو رجل خشبة، في مسرحه نافذة على المعاني الكبرى والآفاق الإنسانية، معان استقت منها مسرحية "فوق الصفر" الإيمائية للوشي بلغة الجسد العنيفة زمن الحرب، حيث لكل فرد على الخشبة حكاية مع الظلم والخوف والعنف. من مرآة هذا الزمن المفكّك، المستبيح القتل والذبح، هم يختبئون، يلتفّون بعضهم على بعض، ويتنافرون، ضحايا وجلادين، من تجرّبهم في خطيئة الحرب ينقّبون في أعماقهم.
في عمق المسرح عازفان على الإيقاع، عابد قبيسي وعلي الحوت، يستمدان عنف الصوت الصامت في حناجر الممثلين من تسجيل إلكتروني، صاعق أو مهمدر، يرافق الضرب على الدف، أو يعلو صراخ مسنون على حد شفرة حين تُغتصب الفتاة وترفع إلى مشنقة الشهادة أمام أنظار ربعها المتفرّج من دون حركة.
من العناصر الأساسية في هذا العرض، الأسرّة، التي تلعب أكثر من دور، غامضة في تنقّلاتها، نعطيها المعاني التي تعصف فجأة في المخيّلة. فالسرير هو الملجأ أحيانا، يختبئون تحته حين يشتد الخطر. السرير قد يكون ساحة معركة حين يتعاركون عليه. والأسرّة قد تكون أيضا سجنا أو مصحّا حين يفلت من المجموعة أحدهم، جنّ جنونه، يدور على حاله، يحكّ جسده، يضحك، ويرقص. التحليل كان شبه عسير في هذه المشاهد المسرعة، كنت لا أكاد أتصوّر جواباً لمشهد حتى يتوارى لآخر يوازيه غموضا.
من الإشارات العبثيّة التي ظلّت غامضة، رذاذ الدهون البيضاء التي راحوا يضخونها على أجسادهم ويطرشون بها الخشبة فأسال نفسي عما تعنيه هذه الفوضى على أجسادهم وحولهم فتعود إلى ذاكرتي لمامات من شعر بريشت "آتي إلى المدن في زمن الفوضى/ حين يعم الجوع...".
الصورة الـ"سلفي" الجامعة الضحايا والجلادين في ابتسامة واحدة، حط فيها المخرج أسامة حلال تفاهة الحروب وأكاذيبها المضلّلة. إلى أن تمسح إحداهن الدهون البيضاء عن وجهها وكأنها بذلك خرجت عن حدود الخشبة والتمثيل، تجسّد الواقع، بلا قناع ولا استعارات، تعدد مأساة شعب رازح تحت التعذيب والجوع والموت، مردداً: "من يطبطب على أكتافنا، حملنا قبة السماء، فهوت، من سمعنا، إذ نمشي في الشوارع ونهتف الأرض لنا، والأرض تكاد تسعنا، وننسى بأننا مذ خلقنا، تحت قبضتك متنا، مذ رفعنا الرايات في المدارس، مذ انتمينا لخطوط مرسومة على الخرائط...".
--------------------------------------
المصدر:مي منسى - النهار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق