مجلة الفنون المسرحية
افتراضياً .. كان على المجتمع العربي أن يعرف المسرح منذ زمن العصر العباسي عندما انفتح العرب حينها على علوم الحضارة اليونانية، لكن خطأ معرفياً في نقل المصطلحات وترجمتها أخّر وصوله إلينا ما يربو على العشرة قرون، حيث عمل هذا الخطأ المعرفي على اعتبار المسرح نوعا خاصا من أنواع الشعر ونحا به بعيداً عن كينونته الأصلية، خصوصاً وأن المسرح اليوناني كان قد بني بناءً شعرياً بالأساس، فضاعت على العرب فرصة معرفة المسرح وفهم طبيعته وإدراكها..إذا وافتراضيا أيضاً.. نحن متأخرون عن ركب العالم المسرحي عشرة قرون !.كيف لنا أن نلحق بهذا الركب ؟! كيف لنا أن نردم الهوّة السحيقة الناتجة عن هذا التأخّر؟. هل بالإمكان فعل هذا؟ كيف ؟!!. هل النوافذ المعرفية الحديثة والتي تتيح لنا الإطلال على تجارب الآخرين بيسر وسهولة تختصر الطريق؟!.
لعبت الفلسفة كنمط تفكير وكطريقة نظر إلى الأشياء دوراً جوهرياً في تطوّر الحالة الإنسانية على مختلف الأصعدة. ومما لاشك فيه أن نقاط الانعطاف في حياة المجتمعات واللحظات الحاسمة في تاريخ تطورها وازدهارها اتصفت بازدهار الفلسفة والفن فيها، وقد تجلى هذا في اندياحها كحالة تعاطي اجتماعي واسع الطيف.
إن مفهوم التطوّر والتطوير ينطلق فلسفياً من موقع الموقف التساؤلي أي بالذهاب والسفر الفكري أو النظري إلى ما وراء المباشر أو الملموس، لقد انبثقت هذه الحالة بالأساس من التساؤل غير الملتزم بمنطق بحثي معين، انطلقت من البحث غير المتقيد بمنطقة محرّمة على الفكر البشري وغير الخاضعة لأي ‘تابو’ اجتماعي أو أيديولوجي على الإطلاق . باختصار انطلقت من موقف تساؤل عقلي واع و حر ومريد.
إن الوقوف في مساحة التساؤل ومحاولات الكشف هو سيّد الحالة الميتافيزيقية ،أما منطقها وشعارها هو: الموضوع الذي لا يعرف الاكتمال.عليه ! ماذا لو تمّ تناول التجربة المسرحية والتعاطي معها من هذه الزاوية الفلسفية فنيا؟.. ألا تشكل النظرة الفلسفية الفنية للموضوع قفزة فكرية على مستوى التطبيق العملي للحالة؟!. خصوصاً وأن المسرح العربي في حالته العامة وقف على طرف النقيض من هذا المفهوم فبقي يدور في جلباب النظريات الاجتماعية أو السياسية المنجزة المكتملة الخاضعة لمساطر محددة وقوالب ثابتة .
إن البحث في المفاهيم الفنية المسرحية من زاوية فلسفية، أو النظرة الميتافيزيقية للموضوع الفني لا تنطلق من مفردات متخيلة أو خارجة عن هذا العالم المحسوس كما يظن البعض بل على العكس فهي تنطلق بالجوهر من مفردات ومعطيات التجربة الوجودية للإنسان. لقد نشأ المسرح العربي وترعرع في كنف رؤى فكرية منجزة ومحددات اجتماعية مرسومة لا تقبل إلا القياس المطابق أو الانزياح القريب، وقد تطور لاحقاً ولزمن طويل ضمن صنميّة النظريات الاجتماعية الدينية المتأصلة أو النظريات السياسية الوافدة إلى مجتمعاتنا العربية والتي أنتجت بكلتا الحالتين مذاهب فكرية وفنية مستنسخة عنها من حيث مفاهيمها النظرية وآلياتها التطبيقية العملية ونُسخت على الحالة الفنية عامة والمسرحية منها على وجه التحديد مدركة لما للمسرح من أثر تفاعلي متأثر ومؤثر على القيم والمعتقدات المجتمعيّة.
وقع المسرح العربي أسير الأخطاء الغافلة غير المقصودة جراء القراءات الخاطئة لبعض المفاصل الأساسية في تلك النظريات، كما ذهب أيضاً أسير المغالطات المقصودة المحرّفة التي عملت بعض القوى السلطوية السياسية والاجتماعية على خلقها و تكريسها وتثبيتها انطلاقاً من فهمها وإدراكها لخطر الفكر الفلسفي وأثر الحالة الميتافيزيقية على وجودها وبقائها إذا ما أبيح التعاطي فيها أو التعامل معها . ليس من باب الصدفة أو المصادفة وخصوصاً في عصرنا الحديث أن جَرّ الذهن الميتافيزيقي على صاحبه صفة السلبية، أو أن اكتسبت الرؤية الميتافيزيقية صفة الغرابة والتخبط وضياع الهدف، لقد أسيئ إلى مفهوم الميتافيزيقيا عمداً وبشكل قاصد مدروس وذلك لوضع الإنسان الحديث تحت طائلة مجموعة من المحددات العامة التي وضعته في حالة إنكار للذات وبذلك أصبح أحد معطيات العصر الساكنة الهادئة التي جعلت من حالته الفكرية السكونيّة تلك عامل أمان واطمئنان لهذه القوى.
لقد حُمّل البشر على تشييء بعضهم البعض وذلك بحظر التساؤل وإغلاق باب الاجتهاد أو النظر، فحالت بينهم وبين أن يكونوا كائنات عارفة وبالتالي مريدة وفاعلة وهو ما يشكل خطراً على سلطتها. على سبيل المثال لا الحصر .. إذا نظرنا إلى مذهب الواقعية الجديدة بصفته المذهب الذي احتضن المسرح العربي الفترة الزمنية الأطول من عمره وعاشت التجربة المسرحية العربية عصرها الذهبي بعجرها وبجرها في ظله وتحت رعايته، لوجدنا أن الصفة الأبرز لهذه التجربة بمجملها هي التكرار الشكلي والثبات الدلالي والمراوحة الفكرية وادعاء الاكتمال !. الغريب في تلك التجربة وربما كان الطريف فيها أن مذهب الواقعية الجديدة هو وليد الفكر الاشتراكي التقدمي أصلاً، والذي بدوره أي الفكر الاشتراكي يعتبر الابن الشرعي للنظرية الماركسية التي يضعها البعض خطأ على موقع النقيض من الميتافيزيقيا!
الحقيقة ان عظمة النظرية الماركسية وجوهر الخلق العقلي فيها يكمن في مرونتها وقبولها للتساؤل والنقد والتغيير، إن قيمتها الحقيقية في بنائها كعامل نفي لا كعوامل إثبات. لقد لعب مفهوم الاكتمال في المسرح العربي باستناده النظري لمجموعة معطيات سياسية واجتماعية ثابتة مثبتة بحجة اكتمالها وتطورها دوراً كبيراً في مسيرة تقدمه البطيء، إن لم نرد القول في مراوحته بالمكان، ومن ليس بازدياد دائم فهو في نقصان.
إن إغفال مبدأ الشكيّة والارتياب في حياتنا المعاصرة والركون إلى العوامل والمفاهيم الثابتة بغض النظر عن الزمان والمكان، عمل على إعادة إنتاج التجارب نفسها وصاغ مقاييس شكلية وهميّة كمؤشرات للتقدم والتطور، ما أدرج الموقف على الفنون برمتها والمسرحية منها بشكل خاص على اعتبارها الفن الجامع لها وكونها نتاج معرفي اجتماعي يتقدم بتقدمها ويتخلف بتخلف إنتاجها .
وكما أن الفعل الإنساني ليس فعلاً عضوياً عفوياً خام بل هو مجموعة سلوكيات و استجابات وردود أفعال عقلية تمرّ من خلال الأقنية التي صنعتها منظومته الفكرية المكتسبة، فإن الفعل المسرحي بصفته الإنسانية الواعية الهادفة نتاج لهذه السلوكيات والاستجابات الإنسانية المنسجمة المتوافقة معها، فكلما اتسعت هذه المنظومة وازدادت معرفة ومرونة واسترخاء وتحررت من أكبر قدر ممكن من المعوقات والقيود الفكرية، كلما تحرر الفعل المسرحي وأخذ مساحة إنسانية أكبر وأكثر عقلانية وحسية وجمال .
يجب أن يتجرأ الفعل المسرحي العربي على خرق الفضاء الفكري الضيق الذي غلفه ووضعه في حالة عطالة وظيفية إلى حد السكون . عليه توسيع منظومته الفكرية والبحث عن أقنية معرفية جديدة أكثر حداثة ومعاصرة واكتسابها فعلياً، وأن يؤمن باتساع المساحات الفكرية والفنية القادر على شغلها وعلى ولوجها والخوض فيها، عليه أن يتخلص من إحساسه بالذنب والمعصية فيما لو خرج عن طاعة البنى الأيديولوجية التي تربّى في كنفها والتي صبغت عليه صبغتها الثابتة وذلك ليس بالكفر بها أو باعتبارها لا قيمة لها أو لا فائدة منها، ولكن بالتعامل معها كمنطلقات اجتماعية فكرية لا قدسية لها قابلة للنقد والتطوير، خاضعة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية الحتميّة، عليه إدراك أن من واجبه ومن وظائفه الجوهرية ومن مقومات استمراره أصلاً العمل على تفكيك وإعادة تركيب هذه البنى على نحو أكثر عقلانية وموضوعية وحداثة.
إن التساؤل والشك والارتياب كأبرز آليات عمل الذهن الفلسفي الميتافيزيقي من شأنها أن تمهّد الطريق للنظرية التي تعيد البناء على صورة أكثر عقلانية. لتأتي بعدها مرحلة تقليص المسافة والفارق بين الفكري النظري والواقعي التطبيقي وذلك من خلال سلوك إنساني تنفيذي تجريبي واع واضح المسار والهدف العام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق