تصنيفات مسرحية

الخميس، 7 أبريل 2016

المهمة الأصعب في المسرح.. "كتابة النص المسرحي" / د. فاضل خليل

مجلة الفنون المسرحية

لأن كتابة المسرحية واحدة من اصعب الفنون ، نادرا ما تجد نصا عربيا استكمل ادواته الابداعية فكان نصا مسرحيا بجدارة ، مسترخيا لايحتاج الى تدخل المخرجين . ذلك لان أغلب الذين مارسوا الكتابة للمسرح انطلقوا من وهم استسهالهم في الكتابة فيه التي لا تبتعد عن اعتباره اكثـر من حوار بين اثنين او أكثـر من الشخصيات ، هذا الاعتبار الخاطئ في كون المسرحية محادثة عادية ، وليست معمارا تركيبيا متصاعدا . تتداخل فيه الكتابة ، ولا تتشابه مع بقية التأليف في الفنون الأدبية الأخرى .
بسبب أن " ليس هناك أي شيء عربي يمكن القول عنه من الناحية الفنية انه ذو أصل مسرحي" – حسب ادونيس - الذي يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يقول: " وعلى مستوى المشكلة الدرامية، يظل أرسطو أقرب إلينا من الحريري ( الذي يراه بعضهم أصلا مسرحيا ) ، ويظل بريخت أقرب إلينا من عاشوراء ( أصل مسرحي آخر )"(1) . قد نستثني من ذلك بعض المحاولات التي انطلقت من التجارب المسرحية الساعية الى تطوير موقف المتفرج من المسرح وصولا إلى المساهمة الإيجابية . وعليه فإن التأليف المسرحي إما أن يكون عملا سهلا ، كما في التجارب المتخصصة ، واما أن يكون مستحيلا كما في تجارب الكتاب الطارئين فيه
. وقد ينفع الدأب والثبات والاجتهاد في نجاح الكتابة إليه . والا فان تدخل الاخراج في التأليف ، من اجل الارتقاء بالنص المسرحي يكون ايجابيا في صالح النص والمسرح بشكل عام . علما بأن الرأي الغالب عند معظم العاملين بالمسرح يقول : " لاحاجة بنا إلى التواطؤ مع التأليف، وعلى الكاتب أن يأتي بمسرحية كاملة الصنع. ورغم شفافية هذا التدخل الذي اعتبره البعض تدخلا فيه الكثير من عدم الاحترام لجهود المؤلفين ، اعتبره البعض الآخر من صميم عمل المخرج في تأليف العرض ، حتى أن البعض من الكتاب يعمدون إلى طبع نصوصهم بعد أن تأخذ استقرارها الكامل على المسرح . أي بعد أن يضع المخرج بصماته عليها لأن " كتابة حوار لمسرحية مثل هاملت عملية خلق ممتعة ، أما اشغال الفكر حول من أين يدخل الشبح، من يمين المسرح أو يساره ، فهو أمر مقرف يحسن بالمؤلف أن يتركه للمخرج "(2) . هذا الرأي فيه الكثير من الإيجابية في امتزاج العملين من خلال الفصل بينهما. لاسيما وهو رأي لكاتب خبر المسرح وكتب فيه مثل برناردشو . وعليه فان تدخل المخرجين في العمل على النص ليس فيه من سلبية تقلل من شأن التأليف . وانما ذلك يعني أننا ندخل النص في مختبر الإخراج . ليكون اكثر فاعلية . ولنا في تجربة المسرح السوفيتي دليل أكيد في خلق الكتاب الشباب عندما تم أعطاؤهم فرصة الكتابة بإشراف المخرجين المتمرسين ممن عملوا مع العديد من المؤلفين الشباب . يؤيد ذلك فكرة التعاون المثمر بين المؤلفين والمخرجين، انطلاقا من أن الكاتب هو المؤلف الأول للنص، وأن المخرج هو المؤلف الأول للعرض المسرحي . وهكذا دائما يبدأ التأليف الرصين منذ ملاحم المؤلفين الإغريق الأوائل حيث : اسخيلوس ، سوفوكليس ، يوربيد س ، ارستوفانيس ، الذين كتبوا كلاسيكياتهم ، ليبدأ بعدها المسرح وبمعنى آخر يبدأ من مقترحات الكتاب . تماما مثل بدايات المذاهب الأدبية الأخرى التي كانت كنتيجة لجهود التأليف في مختلف العصور . ويستمر الحال مع تجارب : شكسبير وموليير . ومع من تلاهم من الذين تواصلوا مع المسرح كتابا ومخرجين من داخل المؤسسة المسرحية ، حتى اصبح لكل مسرح كاتبه، بل ولكل مخرج كاتبه. لقد اكتسب مسرح موسكو الفني شهرته الواسعة من كونه مسرح مؤلفين ، إضافة إلى كونه مسرح مخرجين ، وتألق من عروضه التي عرفتنا على كبار المؤلفين أمثال : غوغول ، غوركي ، تشيخوف ، شفينيفسكي ، تولستوي ، بوشكين ، شكسبير ، برناردشو ، واخرين . مثلما عرفتنا بمخرجين كبار ومهمين من أمثال : ستانسلافسكي ، ومايرخولد ، وفاختانكوف ، وأفريموف ، وتوفستنوكوف ، وزفادسكي . . وٍسواهم . لقد تملكت تشيخوف الدهشة من جهود المخرجين على النصوص المهمة ومنها نص مسرحيته ( بستان الكرز ) . إن لتعدد الرؤى في النص الواحد لأكثر من مخرج أثره في إغناء التأليف، لأنها ستضع المؤلفين أمام مسؤولياتهم في التفكير بضرورة الابتعاد عن سلبيات التأليف المعروفة، والاجتهاد والعمل على تقديم الرؤى والأفكار الجديدة التي تغنيه في ان يكون عاملا مساعدا في الارتقاء بالعروض . ولا يفوتني هنا أن اذكر ما حققته العروض الثلاثة لمسرحية ( الملك لير ) في مهرجان مسرح الأمم/ صوفيا 1982(**) في بلغاريا عندما تهافت الجمهور على مشاهدة العروض الثلاثة ، ولم يكتفوا بمشاهدة عرض واحد ، مع سابق معرفتهم بأنها نصا ومحتوى واحد لمؤلف يعرفونه وعلى اطلاع أكيد على حكاية النص. إضافة إلى انهم من المؤكد ربما قد شاهدوا عرضا او عروضا اخرى سابقة غير الثلاثة التي تهافتوا عليها في مهرجان مسرح الأمم 1982. إن في حرصهم هذا حكمة الاطلاع على تجارب ورؤى المخرجين الجدد وكيفية تناولهم لهذه المسرحية التي يعرفونها وشاهدوا لها عروضا سابقة، كل ذلك لكي يقارنوا بين رؤى المخرجين المختلفين وليقارنوا بينها ، في كيفية تناول كل من المخرجين لذات المسرحية ( الملك لير ) ؟ وماذا أضاف كل منهم في التجسيد لنص الكاتب ، بماذا اتفقوا وماذا الذي اختلفوا عليه ؟ ما الجديد في كل واحدة من تلك القراءآت ؟ وهل كان لتظافر جهد التأليف مع جهد الاخراج أثره الفاعل على العمل أم لا ؟؟
ما تقدم هو جانب من الموضوع ، يقابله رأي آخر يقول : ان المسرح ليس اكثر من ( المنصة + الممثل + المتفرج + مضمون يتم الاتفاق عليه ) . وليس شرطا أن يكون النص مسرحية كتبه مؤلف وانما هو اي مضمون مهما كانت بساطته شرط ان يتفق عليه فريق العمل . إذن وانطلاقا من وجهة النظر تلك لا يشكل التأليف عائقا على المسرح، وينتفي معه ما يشاع من ( أزمة النص المسرحي ) . من هنا تنشا فكرة سيادة سلطة المخرج في تأليف العرض بما يقترح للنص من البدائل عن نص الكاتب بالاعتماد على أفكار ومضامين سريعة ومقترحة ، من افكار يستمدها من خبر صحفي يومي بسيط، او من فكرة طارئة تهم المجتمع الذي يعيش فيه ، وغيرها من الافكار البسيطة والمعقدة . من هنا ينطلق المخرج المبدع الى سد النقص في التأليف بتلك البدائل التي تؤدي الغرض من اجل استمرار المسرح . هذه السلطة انما تعني : بأن المخرج هو من يمسك بخيوط اللعبة : مفكرا، ومنظما ، وقائدا لفريق العمل ، الذي بيده الكثير من الحلول الموصلة إلى التكامل الفني للعرض المسرحي .
ولما كانت التجربة العربية في كتابة النص المسرحي تحاكي التأليف من خارج محيطها ، وهو الأمر الذي أبعدها عن خصوصية الشكل والمضامين ذات النكهة المحلية. ولا نغالي إذا قلنا أنها ظلت زمنا ليس بالقصير أسيرة التقليد الأعمى للتجربة الاجنبية ، البعيدة عن هموم الناس . لم ينجُ من فخ هذا النوع من التأليف غير القلة النادرة ممن توصلوا إلى تشخيص الخلل بعد ما أدركوا أن منجزهم الإبداعي لن يحصد نجاحه ، أو يجد طريقه للنجاح وصولا الى الاهداف السامية المرسومة إلا إذا لامسوا جرح ناسهم بالاجابة عن التساؤلات الهامة في حياتهم ، وفي العمل على تخليصهم من مخاوفهم. وفعلا نجح البعض غير القليل منهم في هذا المسعى ، فكانت لهم الريادة عندما ثاروا على السائد من تلك المدونات التي كانوا يسمونها من غير وجه حق تأليفا مسرحيا . وهي في الحقيقة ليست اكثر من قفشات ومحاورات همها الأساس إضفاء المرح على سامعيها واعتبرت جزافا نوعا من التأليف . من هنا نتعرف على ان الانطلاقة نحو النص العربي كانت متعثرة ومتعكزة على تجارب الغير. لأنها لم تحمل هموما موضوعية أو فنية في أساليب كتابتها يقربها من الناس اولا ومن المسرح في الاخير .
انها بالتأكيد واحدة من أهم العوامل التي حالت دون ولادة الكاتب الذي نريد. عدا الذين أشرنا إليهم من الذين دخلوا المهنة من داخل المؤسسة المسرحية ، أي من غير الطارئين عليها ، فمارسوا الكتابة للمسرح عن دراية. وعندما يثار الحديث عن أزمة النص المسرحي ـ وهي غالبا ما تطرح ينبري كتاب المطبوع المركون ديكورا يزين واجهات المكتبات الخاصة والعام، والتي غالبها لم يرَ النور على خشبة المسرح، منطلقين في دفاعاتهم : من أن المكتبة العربية تعج بما لذ وطاب من أنواع النصوص المسرحية المطبوعة والمكدسة على الرفوف وحسب الطلب ، وفيها من : التأليف ، والإعداد، والترجمة، والاقتباس، والتناص، وغير ذلك من المسميات ما يسد حاجة شعب بكثافة الصين. متناسين من أن هذا الكم وهو هائل بالفعل ، لا يمت بصلة الى التأليف المسرحي. فالمسرحية هي التي تعتلي المسرح وليست النصوص الصالحة للقراءة ، شأنها في ذلك شأن الرواية، والقصة، والشعر، والحكاية ، وما شابه ذلك . ان تبرير المنصفين من الكتاب في عدم استطاعتهم كتابة المسرحية جيدة الصنع يعود إلى انهم لم يتوارثوا كتابتها عن أسلافهم كما هو الحال في تجارب الشعوب الاخرى ، مثل التجربة اليونانية التي وهبت كتابها المسرحيين إرثا مثاليا بدأ من سلسلة الكبار الأولين: [ اسخيلوس، سوفوكليس، يوربيدس، وارستوفانيس ] وحتى آخر الكتاب المعاصرين .
وعملا بالدقة التي نتوخاها، لابد لنا أن نذكر من أن هناك كتابا تمكنوا من صنعة الكتابة في المسرح العربي من غير الطارئين عليه. ممن كتبوا نصوصهم وكانوا جزءا من المؤسسة المسرحية . ولم تكن نظرتهم إلى التأليف فوقية ، أو انها نوع من ابسط فنون الثقافة، بل نظروا إليها كواحدة من الفنون الواجب دراستها قبل الخوض فيها . فأولوها الاهتمام الذي يليق بها ليجعل من كتاباتهم تدخل إلى مختبر التنفيذ لتجسيدها إخراجيا بكل جدارة . واثبتت جدارتها، لاسيما وقد رافقها من التحليل واعادة التركيب ، أوصلتها إلى الجمهور بكل صدق وعناية.

-------------------------------------
المصدر :جريدة  المدى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق