مجلة الفنون المسرحية
هذا الكتاب هو محاولة للتعريف بالتيارات الفنية الأساسية التي برزت في القرن العشرين ، التي أسهمت بشكل أساسي في بلورة أساليب الإبداع الفني في مجال المسرح من خلال توضيح الملامح الأساسية و الخطوط العريضة لكل تيار فني بدءا من الظروف التاريخية ، وحتى المناخ الفكري الذي واكب بروز كل تيار .
و التيارات المسرحية التي يعرض لها الكاتب نشأت و تبلورت في الغرب ، و أثّرت تأثيرا واضحا في أساليب الكتابة الدارجة و العرض المسرحي في عالمنا العربي، و على وجه الخصوص المسرح البرختي ، أما عن ترتيب هذه التيارات في الكتاب ، فإن صاحبه يشير إلى محاولته الخوض فيها وفقا لترتيبها الزمني ، إلا أن هناك كثيرا من التيارات تتداخل زمنيا ، ففي بداية القرن مثلا نجد الرمزية في فرنسا تتزامن مع المستقبلية في إيطاليا ،و التعبيرية في ألمانيا ،و بوادر الدادية في سويسرا قبل انتقالها إلى فرنسا .
الرمزية
مع أن الرمزية ظهرت أواخر القرن التاسع عشر ، إلا أنه يمكننا القول : إن استخدام الرمز في الأدب قديم قِدم الأدب نفسه ، و الرمز في التعبير ما هو إلا مظهر من مظاهر اللغة ، و اختلف الرمزيون عن غيرهم باستخدام الرمز كوسيلة أدبية فعّالة لاختراق حجب الغيب ،و النفاذ إلى عوالم لا تتوصل إليها بالحواس. و الرمز في أبسط صوره هو علامة أو إشارة – قد تكون صورة أو كلمة أو نغمة – لها دلالة معروفة أو معنى معين في مجال التجربة الإنسانية . و ترتبط الإشارات أو العلامات بمرور الوقت بشحنات شعورية تكون أحيانا متوارثة كارتباط الساحرات بالشر في مسرحية "ماكبث" .
و الرموز نوعان : الرموز الجماعية المتوارثة ، وهي ما أسماه "يونج" بالرموز الفطرية التي تنتمي إلى الوجدان البشري الجماعي ، و هناك الرموز الفردية التي ترتبط بوجدان فرد بعينه .
تختلف المدرسة المسرحية الرمزية عن غيرها من المدارس الأدبية المسرحية في أنها لم تنشأ دفعة واحدة ، ولم تكن لها مبادئ محددة معلنة منذ البداية ، ونستطيع أن نلخص مبادئها علي النحو التالي :
أولا : رفض مبدأ محاكاة الطبيعة ، لأنها كما وصفها "بودلير" ( ستار)
ثانيا : الاعتقاد بأن جمال العالم المحسوس هو انعكاس للجمال العلوي النوراني .
ثالثا : رفض العقل ،والإيمان بأن ملكة الخيال هي الوحيدة التي تمكن الإنسان من إدراك الحقيقة.
رابعا :الإيمان بوحدة وعضوية العمل الفني واستقلاله،ولا نقارن العمل الفني بأي شيء خارجه .
خامسا : محاولة استكشاف مشاعر وحالات نفسية جديدة ( لكنهم قاموا بذلك عن طريق ممارسة الانحلال ، وتناول الخمور ، والمخدرات ،والتصوف ،والعلوم الروحانية ،وجلسات تحضير الأرواح ، وممارسة الجنون ) .
سادسا : الإيمان بان عملية الخلق الفني هي عملية واعية تستغرق كل القدرات وملكات العقل ، وليست نتاجا لخلطة إلهام ، أو زيارة خاطفة لشيطان الشعر .
سابعا :الإيمان بضرورة الاعتماد على الإيحاء بدلا من التقرير أو المباشرة،مع استغلال موسيقىالكلمات.
ثامنا : استخدام لغة تعتمد على المفارقة والتضاد والصور والاستعارات الغريبة ، وتداعي الأصوات .
يُعدّ "مالارميه" من رواد المسرح الرمزي، و ممن كان لأفكارهم دور كبير في بلورة مفهوم المسرح الرمزي كما يقول "هاسكيل م بلوك" في كتابه " مالارميه و الدراما الرمزية " ، لقد تصور "مالارميه" لغة مسرحية جديدة تتحرر من قواعد تركيب الجمل المعروفة ، و تمتزج فيها الصورة بالحركة امتزاجا يعبر تعبيرا رمزيا عن الحياة الداخلية والنفسية في إطار مسرحي شعري ، و ستكون مهمة هذه اللغة تجسيد الأحلام والخيالات – بل و الصمت – تجسيدا شعوريا .
المستقبلية
أعلن الإيطالي" فيليبو توماسو مارتيني" تكوين الحركة المستقبلية في الفن والأدب في عام 1909 عندما نشر وثيقته التاريخية " إشهار تكوين وإعلان مبادئ الحركة المستقبلية "، ومع أن الحركة المستقبلية ترتبط أساسا بالفنون التشكيلية إلا أننا نجد أن روادها الأوائل قد اهتموا كثيرا بالدراما ، فقد قام كل من " جياكوموبالا " و " إمبرتو بوتشيني " بكتابة العديد من النصوص المسرحية .
تتركز أهمية المستقبلية في أنها كانت رائدة المسرح الأوروبي التي شجعت التيار التجريبي، و الثورة على التقاليد المسرحية المتوارثة ، مما أدى إلى نشأة مدارس أخرى تتميز بانفصالها عن الواقعية والموضوعية ، مثل الدادية ، والسريالية ، و البنائية الروسية ، ومسرح العبث .
تميزت مسرحيات المستقبليين بتركيزها على العالم الوجداني الخاص للإنسان ، مما اكسب بعض هذه الأعمال صفات الشاعرية و الرمزية ، و اهتم كتّاب هذه المدرسة بتصوير الحالات النفسية، و حالات الجنون خاصة ؛بغرض إحداث نوع من الصدمة عند المشاهد ، وقد تنتج عن التركيز الشديد على النفس البشرية باعتبارها المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون مسرحا لأي أحداث حقيقية ، و ظهور مسرحيات لا تنتمي إلى أي بيئة موضوعية ، سواء واقعية أو متخيلة مثل مسرحية " الملل " للكاتب " أنجلو رونيوني " .
و قد قدّم المستقبليون مادة تتحدى العقل و المنطق المعروف قبل وصول السريالية إلى خشبة المسرح في أوروبا بفترة جيدة ، كما اعتمدوا على عنصر مسرحي هام انتفع به أصحاب المدرسة الدادية هو عنصر استفزاز المتفرج ، و المواجهة المباشرة ، و الإنكار التام لمبادئ الوجود و الأخلاق، أي العدمية.و قد اهتم المستقبليون بالمؤثرات المسرحية مما أدى إلى إدخال عناصر جديدة إلى المسرح مثل:كشافات الإضاءة، ومؤثرات حية حسية أخرى،كم حرصوا على تكسير الحائط الرابع الوهمي.
الدادية
ظهرت الدادية في عام 1916 على يد ثلاثة أصدقاء : الشاعر الألماني " تريستان تزارا" و الرسام الألماني " هانز آرب" و الشاعر المجري " ريتشارد هولسنبك "، و تم اختيار اسم للحركة بشكل عشوائي من دائرة المعارف ، وكانت أول كلمة صادفتهم فيها هي " دادا " و تعني بالفرنسية : حصان خشبي ، وبالروسية : نعم ..نعم ، و في نفس العام عُرض أول عمل مسرحي للحركة الدادية في مدينة " زيوريخ" .
و تهدف الدادية إلى تحطيم القواعد المعروفة للفن ، وللعقل و التفكير أيضا ، فهي أساسا حركة هدم تقوم على اعتناق مبدأ العدمية ، و إنكار جميع القيم والمفاهيم والأشكال الفنية و الأنظمة ، سواء المتوارث منها أو المعاصر ، وربما هذا ما أدى إلى قصور و اضمحلال تلك الحركة الفنية ، وعجزها عن إنتاج أعمال مسرحية لها صفة الاستمرارية ، فقد كان هدفهم مركزا على الهدم دون محاولة لإيجاد القيم والمفاهيم الفنية أو الأخلاقية أو الاجتماعية الجديدة التي تحل محل القيم المهدومة .
و تتجلى النزعة العدمية الهدامة للدادية بوضوح في الإعلان الشهير بإنشاء الحركة الدادية الذي صدر عام 1918 و فيه يقول " تريستان تزارا" :
الدادية : هي كل نتاج للسخط من شأنه أن يدمّر فكر الأسرة .
الدادية : هي كل احتجاج بالقبضات يوجه الإنسان فيه كل كيانه نحو التدمير والتخريب .
الدادية : هي التعرف على - و اعتناق - جميع الوسائل والأساليب التي يرفضها ذلك المجتمع
المخزي الذي يؤمن بالحلول الوسط واللياقة في التصرفات .
الدادية : هي إلغاء المنطق باعتباره النغمة العقيمة التي يرقص عليها من يفتقرون إلى ملكة الإبداع.
الدادية : هي إلغاء الذاكرة / هي إلغاء علم الآثار و التاريخ القديم / هي إلغاء فكرة المستقبل .
و استمرت الدادية حتى عام 1923 ، و مع أنها قدمت شيئا في مجال الفن التشكيلي ، إلا أنها فشلت في مجال المسرح و الدراما ، و يُسجل للدادية استخدام الرموز الشاذة المضحكة ، و إدخال لغة العبث إلى المسرح ، و كسر الحواجز ، و إدخال الحوار " الكونترابنطي " إلى المسرح .
السريالية
ارتبطت الحركة السريالية بالكاتب الفرنسي "جيوم أبولينير" الذي كان أول من استخدم هذا اللفظ في وصف عمل مسرحي ، وكان هذا العمل عرضا دراميا موسيقيا راقصا كتبه "جان كوكتو " ، وأخرجه "دياجليف" ،وصمم ملابسه ومناظره الفنان الشهير " بابلو بيكاسو" ،ووضع موسيقاه المؤلف "ساتي" ،وصمم رقصاته "ماسين" ،وعرض في باريس عام 1917 بعنوان "الاستعراض" .
ثم برز اسم "بريتون" الذي تأثر كثيرا بنظريات "فرويد" وأعلن في عام 1924 إنشاء الحركة السريالية ،وتؤمن السريالية بحركة الذهن الحر بعيدا عن قيود العقل والمنطق والقيم الجمالية والأخلاقية المتوارثة . كما ترتكز علي الإيمان بأن الأحلام أقوى من أي شيء آخر وبأن بعض أنماط التداعي الذهني التي لم يعرض أحد اهتماما بها من قبل قادرة علي أن تكشف لنا حقائق أبعد عمق من تلك التي تصل إليها عن طريق العقل والمنطق ، كما اهتم روادها كثيرا بالأدب الذي يعكس حياة النفس في الأحلام والغيبوبة والنوم ، ولذا لجأ كثير منهم إلي التنويم المغناطيسي ،وتناول العقاقير التي تجلب الهذيان ؛ حتى يحققوا الهروب الكامل من سلطان العقل الواعي ، وللوصول إلى منطقة تلاقي وتوحد الأضداد ، وعند استعراض إنجازات السريالية في الفنون المختلفة ، نجد أن حصادها في الإنتاج المسرحي كان ضئيلا إذا قورن بالفن العظيم الذي أثمرته في التصوير والشعر ، ومن طلائع المسرحيات السريالية مسرحية "الدولاب ذو المرآة" ، ومسرحية "أسفل الحائط "، ومسرحية مشتركة "لأرجون" و "بريتون" بعنوان " كنوز اليسوعيين " .
التعبيرية
هي مذهب يرفض مبدأ المحاكاة الأرسطية ، ويحل محلها مبدأ التعبير عن مشاعر الفنان في تناقضاتها ، وصراعاتها ، ويتخذ من هذه الرؤى الذاتية و الحالات النفسية موضوعا مشروعا للإبداع الفني ، و تميز هذا المذهب لذاتيته المفرطة أكثر من غيره ، ودار خلاف حول أول من ابتدع هذا المصطلح ، إلا أن هذا المذهب قد ازدهر في ألمانيا من الفترة 1910 إلى 1925 ، وظلت المبادئ و الأساليب الفنية التي نادى بها التعبيريون مستمرة سنين طويلة في مجال المسرح ، وقد تزامنت التعبيرية مع الحركة الرومانسية و أفادت منها في نظرتها الفلسفية للجمال ، و قد اكتشف الفنان "فان كوخ " التشابه بين أسلوب التعبيرية وأسلوب الكاريكاتير ، و قد آمن التعبيريون بأن الجمال هو صدق التعبير مهما كان هذا التعبير قبيحا ، ورفضوا الجمال بمفهومه التقليدي ،أو الكلاسيكي ،أو الرومانسي المبتذل .
كانت بدايات التعبيرية في المسرح مبكرة في بعض أعمال السويدي " أوجست سترندبرج" مثل مسرحيات : " الأب " و " الآنسة جوليا" ، و ثلاثية " الطريق إلى دمشق " ،و تبلورت الملامح الأساسية التي ميزت الدراما التعبيرية فيما يلي :
أولا:استخدام أنماط بشرية عامة،كالغريب،والشحاذ، والطبيب،بدلا من شخصيات متفردة بالطريقة التقليدية.
ثانيا : الاستغناء عن الحبكة التقليدية ، و تفتيت الحدث إلى مشاهد منفصلة متتالية تعبير عن مراحل
تطور الشخصية المحورية في رحلتها الشاقة .
ثالثا : توحد الكاتب مع الشخصية المحورية في العمل ، و هي الغريب الذي يعاني خلال رحلته كل
أنواع العذاب النفسي حتى يصل إلى خلاصه الروحي .
يتبع....
رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
قديم 21-05-11, 02:11 PM رقم المشاركة : ( 2 )
العربي
إدارة عامة
الصورة الرمزية العربي
الملف الشخصي
رقم العضوية : 2132
تاريخ التسجيل : 30-4-11
الجنس : ذكر
التخصص : لم يتم التحديد
العمر :
الدولة :
المشاركات : 4,740 [+]
آخر زيارة : اليوم(08:58 AM)
عدد النقاط : 33
قوة الترشيح : العربي is on a distinguished road
الأوسمة و جوائز
بينات الاتصال بالعضو
اخر مواضيع العضو
العربي غير متواجد حالياً
افتراضي رد: التيارات المسرحية المعاصرة
التكعيبية
و سارت التكعيبية في اتجاه يحاول الوصول إلى الحقيقة عن طريق إعمال العقل ، وتحليل التجربة المحسوسة تحليلا علميا مجردا ، معتمدا على العلوم الطبيعية و الرياضيات ، ويعبر عنها في أشكال هندسية متداخلة تتميز بالمنظور المسطح ، و كان الاتجاه إلى العلم و العقل محاولة لفهم العالم ، و التعبير عنه فنيا بعد أن زادت الفجوة بين الفن و العلم .
و الجديد الذي أتى به التكعيبيون في محاولة فهم العالم المتغير حولهم ، و التعبير عنه هو الدعوة بأن الفنان يجب – حتى يتوصل إلى الحقيقة – أن يُعمل ملكة العقل لديه في تفسير و تحليل الظواهر ، و أنه بدون إعمال العقل لن يتوفر للرؤية الفنية القدر اللازم من الصدق .
و يُعدّ الفنان الفرنسي "سيزان" الأب الروحي للتكعيبية ، وتبعه "سيروزييه" ، وتبلورت التكعيبية حتى أصبحت أقرب النظريات الفنية إلى العلم ،و كان لنظرية النسبية أعمق الأثر في بلورة الحركة ، بل هي الأساس الفكري الذي قامت عليه ، وتحليل العلاقات المتشابكة التي تربط كل مستوى بجميع المستويات الأخرى لجميع الأشياء ، وبرزت التكعيبية في المسرح على يد الإيطالي "لويجي بيراندللو" في مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" ، و يمكن اعتبار المسرحية دراسة في نقد مظاهر الشخصية الإنسانية نخلُص منها إلى أن أي حث في الواقع إنما يتم على مستويات متعددة من التجربة بحيث يصبح معناه دائما نسبيا .
مسرح العبث " بين صمويل بيكيت و هارولد بتنر"
ارتبط ظهور مسرح العبث كما أطلق عليه "مارتن إسلن" في المسرحية الأولى للكاتب المسرحي الإيرلندي "صمويل بيكيت" الذي عرضت مسرحيته في باريس عام 1953 ، و أحدثت ضجة هائلة في الأوساط المسرحية الأوروبية حين كشفت عن أصولها في الفلسفة الوجودية و الفكر السريالي ، و عن رؤية عبثية قاتمة للوجود الإنساني تخلو من الجلال المأساوي ، و تتخذ من السخرية المريرة ،و الفكاهة السوداء أسلوبا لها ، و توالت مسرحيات "بيكيت" ، و حدد النقاد من خلالها كثيرا من المحاور الأساسية في مسرح العبث نذكر منها التالية :
§ الاغتراب التام للإنسان ، و وحدته في كون يناصبه العداء ، و كأنه ينكر عليه حق الوجود ، و مسرح العبث يقدم لنا الشخصية المنبوذة اللامنتمية .
§ فكرة اللاجدوى التي تسيطر على كل شيء ، فمسرح العبث يرى كل أفعال الإنسان وأنشطته مهما بلغت قيمتها ما هي سوى "ألعاب".
§ ترتبط فكرة لا جدوى العقل بفكرة لا جدوى اللغة في مسرح العبث ، فالإنسان يتكلم لا لشيء سوى أن يخدع نفسه بوهم التواصل .
§ محاكاة أسلوب السينما الصامتة ، و اقتباس فكرة البطل الشريد ، و اختيار مواقف تختلط فيها عناصر البؤس الشديد بالقسوة البالغة ، والكوميديا الفاقعة أي " الهزلية الفلسفية السوداء".
و يرى النقاد أن "هارولد بنتر" هو الامتداد الطبيعي لمسرح "بيكيت" الذي يؤمن بصعوبة التواصل بين البشر بل استحالة و عجز اللغة عن عبور الحواجز بينهم ، و يصورها كوسيلة للإخفاء و التمويه ، و يختلف عن "بيكيت" في رفضه أن يتخلى عن الإطار الواقعي الخارجي في أعماله .
ما بعد العبث " مسرح الاستهزاء والتتفيه "
للكوميديا هدفان : الأول : إثارة الضحك لإراحة الذهن من التفكير ، وهو ما تندرج تحته العروض الهزلية المضحكة ، و الثاني : الضحك لإثارة الفكر و التفكير ، وتحته تندرج الكوميديات الراقية ، ثم ظهر ما يسمى "الكوميديا السوداء" .
ترتكز الكوميديا السوداء أساسا على إحساس عميق باللاجدوى أو العدمية ، وهو إحساس يتخطى مرحلة الإحساس بالمأساة أو الفجيعة، ولا يمكن التعبير عنه إلا بالضحك المتشنج الهستيري . و هو ضحك لا يشبه أي نوع من الضحك الكوميدي بل هو هنا متنفس عقلي عن توتر عميق مدمر ينتج من إدراك المتفرج لموقف بالغ القتامة ، لا أمل في علاجه ، و لا مهرب منه إلا بالضحك ، أو الموت ، أو الجنون .
ويرى النقاد أن ظهور هذه الكوميديا الجديدة في القرن العشرين نتيجة طبيعية لما حاق بالغرب من تمزق ، وتخلخل في معتقداته الأساسية ، و رؤيته للحياة ، بعد أن تحولت الشواذ إلى قواعد ، وكانت هذه المرحلة في أمريكيا في صورة مسرح الاستهزاء والتتفيه .
كان أول عمل مسرحي من هذا النوع هو مسرحية ل " رونالد تافيل" بعنوان "حياة ليدي جودايفا" عام 1966 ، و تبع ذلك تأسيس "فرقة مسرح الاستهزاء" عام 1968 بإشراف " تشارلز لادلام" .و كان المبدأ الأساسي لهذا المسرح هو استخدام سلاح السخرية اللاذعة في محاولة لتدمير جميع المبادئ والنظريات التي تحكم الأنظمة السياسية في جميع أشكالها ، والعلاقات الإنسانية ،و المفاهيم الثقافية ، و الأفكار الفلسفية ، و السيكولوجية التي أصبحت في نظر أتباع هذا التيار زائفة لا تنتمي إلى واقعهم المجنون ، فظهرت عندهم المحاكاة الهزلية المتعمدة للأشكال المسرحية الكلاسيكية عن طريق المبالغة فيها لدرجة الخلل المتعمد ، مع الخلط الشاذ و المضحك و انتقاد كل ما هو هابط ، وفجّ ، وسوقي ، والتركيز على كل شاذ وغريب في سلوكيات المجتمع و لغته .
و في عروض هذا المسرح يبدو جميع الممثلين كمخلوقات شاذة تائهة ، مع الاعتماد على المؤثرات المبهرة ، و التعري التام ، وأعمال القسوة السادية ، و الرموز الجنسية السوقية ، وخلط الأزمنة و الأمكنة ، وعن هذا يقول " تافيل " : " أما عن العبث فقد تخطيناه بمراحل ، لقد أصبح عالمنا الآن مرعبا في جنونه لدرجة الهزل " .
المونودراما
هي مسرحية يقوم بتمثيلها ممثل واحد يكون الوحيد الذي له حق الكلام على خشبة المسرح ، فقد يستعين النص المونودرامي في بعض الأحيان بعدد من الممثلين ، ولكن عليهم أن يظلوا صامتين طول العرض،و ملامح هذا الشكل المسرحي ترتد إلى العهود المسرحية القديمة،وتعود البداية الحقيقية للمونودراما إلى الفيلسوف الفرنسي" جان جاك روسو"الذي كتب مسرحية منودرامية بعنوان" بجماليون" في عام 1760 ، وتوالت بعدها الأعمال و الحركات المسرحية ، ويمكن لنا أن نوجز أبرز الملامح الأساسية لهذا الشكل المسرحي بالتالية :
أولا : التركيز على الفرد ، وهذا منظور تنعدم فيه فرصة الجدل عن طريق التنوع ، وبالتالي ينعدم الحوار ، ويقيم الممثل الجدل مع نفسه .
ثانيا : العزلة ، لأن ظهور الممثل الواحد على خشبة المسرح لمدة ساعة أو أكثر يخلق هذا الإحساس لدى المتفرج مهما كان موضوع المسرحية ، و مهما استخدمت مؤثرات صوتية .
و تعتمد الحركة الدرامية فيها على تطور الصراع النفسي المركز بين ما كان و ما كان يمكن أن يكون ، وبين التوقع و التحقيق ، و غالبا ما تتمتع بالكثافة الشعورية النابعة من تركيز الحدث في شخصية واحدة تلح على وجدان المتفرج .
المسرح العمالي
هو مسرح سياسي عمالي ، أو مسرح العمل السياسي و الاجتماعي ، كان الهدف منه الاحتجاج و الدعوة والتحريض ؛ ولهذا تصدى المسرح العمالي الأمريكي لمأساة التفرقة العنصرية ، وطرح قضية الظلم الفاحش الذي عاناه الزنوج و الأجانب من المهاجرين في جو المحافظة الفكرية ،والقمع السياسي الذي نتج عن التخوف من غزو الفكر الاشتراكي بعد انتصار الثورة الروسية ، وقد استمد هذا المسرح مادته من حوادث واقعية عنصرية مؤثرة هزت وجدان الرافضين للتفرقة ، واستطاع أن يحقق التواصل الفني و الفكري الفعال بين العمال و المسرحيين في مختلف أقطار العالم .
بريخت و المسرح الملحمي
يُعد الفكر الماركسي الذي أفرزته النظرية الماركسية الأساس الذي نشأ منه ما يعرف الآن بالمسرح السياسي الذي يمكن القول إن المسرح العمالي ، والواقعية الاشتراكية ، ومسرح التحريض ، ومسرحيات "إرفن بسكاتور" ، ومسرح "برتولت بريخت" كلها من صور المسرح السياسي .
آمن "بريخت" بوجوب تغيير المجتمع عن طريق فحصه وتحليله و توعية الناس بأسباب شقائهم و معاناتهم ، وآلمه أن المسرح لا يصل إلى الطبقة المسحوقة ، و إنما تحول إلى سلعة ترفيهية للطبقة البرجوازية ، لتعكس آلامها و آمالها المرتبطة بوضعها الطبقي ، أما المسرح الذي يتناول حياة الطبقة العاملة فإنه كان في بداياته مسرح وعظ و عزاء ، كان يعظ العمال و يحثهم على الالتزام بالقيم التي تحقق أكبر ربح للرأسماليين ، و أصحاب العمل ، ويعزيهم عن أحوالهم المعيشية المتردية باعتبارها قدرا مرسوما لابد من قبوله .لكن المسرح الذي يخاطب الطبقة العاملة لم يلبث أن تحول إلى مسرح سياسي حقيقي حين انظم إليه المثقفون ، و الفنانون الاشتراكيون في أمريكيا و أوروبا وكان أبرزهم المخرج الألماني "إرفن بسكاتور" ..
وبدأ "بريخت" مسرحه السياسي عام 1928 بمسرحيته الهادفة " أوبرا الثلاث بنات " وهي أشبه ما تكون بمسرح شعبي ابتعد عن التقاليد الارستقراطية والبرجوازية وقدمت تعليقا ونقدا لاذعا للواقع السياسي والاجتماعي وبعدها نشر "بريخت" أفكاره المسرحية في كتابه الشهير " الأورجانون الصغير للمسرح " ، ويظهر من مسرح بريخت وكتاباته ما يلي :
§ رفضه لنظرية أرسطو الدرامية التي سيطرت علي المسرح الأوروبي عشرين قرنا.
§ رأى بريخت أن البطل الفرد المتميز طبقيا هو رمز لمجتمع يغرس نظاما هرميا معينا يقوم علي التميز الاقتصادي والاجتماعي لفئة محدودة ، وقهر الفئات الأخرى .
§ أدرك "بريخت" أن الخطأ التراجيدي وسقوط البطل ما هي إلا دلالة علي الخروج علي العقائد والأعراق الطبقية ، والهدف تحذير المشاهد من الوقوع في نفس الخطأ أو السقوط.
§ أدرك بريخت أن النهاية الفاجعة للبطل الذي يتوحد معه المتفرج عاطفيا ما هي إلا تحذير من الثورة علي الواقع ، وأن فكرة التطهير التي جعلها أرسطو هدف التراجيديا ما هي إلا تطهير للمتفرج من نزعة الثورة علي الأوضاع الاجتماعية والأطر العقائدية مهما كانت ظالمة أو فاسدة .
§ اهتم مسرح "بريخت" كثيرا بضرورة مشاركة المتفرج مشاركة ايجابية في العرض المسرحي عن طريق إيقاظ وعيه النقدي بمثالب الواقع ، بحيث يدرك ضرورة تغير هذا الواقع وتستيقظ لديه الدافعية نحو الفعل الثوري بهدف التغير .
§ غير بريخت كل نواحي الشكل الدرامي( أسلوب التخيل ، الديكور ،المؤثرات البصرية ، المؤثرات الصوتية ،...) وهدف إلي هدم مبدأ الإيهام والتعاطف ، والى التغريب و إثارة وعي المتفرج بغرابة وتناقض واقعه الاجتماعي الذي يعريه العرض علي خشبة المسرح .
وقد وضع بريخت في مقال بعنوان " المسرح الحديث هو المسرح الملحمي " جدولا يبين الاختلاف بين مسرحه الملحمي والمسرح الدرامي الأرسطي .
------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق