مجلة الفنون المسرحية
لأن المسرح بدأ بعربة تتنقل في الهواء الطلق لتقديم ما يُشبه الحياة، وبجماليات قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، يتوق لها الجمهور، ويؤسس منها ترابطاً مجتمعياً، يدعو لِلمّ الشمل ضمن وعاء فكري “مسرحي”، وبلعبة معرفية، طرفاها الاتفاق على الحكاية في المسرحية والاختلاف في الفكرة، حتى أصبح هذا الاختلاف عماداً لديمومة المسرح، ففتح الباب لتشكل المسرح بمعمار مذهل سعى في أبسط إنجازاته لاستقرار المجتمع المدني، بل أصبح النموذج الحي لذلك الاستقرار وفق المفاهيم الحضارية، وأكثر من ذلك سعى لإرساء تقاليد قوضت فكرة الانعزال عند الإنسان ودفعت باتجاه خلق نسيج جمعي من خلال إعمال الخيال والفكر وتطوير الوعي، والتماهي مع كائنات تتحرك في فضاء صغير (خشبة)، لكنها رمز لعالم يمتد في أفق لا متناهٍ، وكأن تلك الخشبة هي الكون بأسره، نتذكر فيها أغوار النفس، ونجلد فينا الثبات والتطرف والدونية، فالمسرح سرعان ما ترسخ وأصبح حاجة إنسانية وأساساً لقيم فكرية ومعرفية، فانشغلت به الجماهير، وقلق به أبناؤه المسرحيون .
لكل ذلك، ولأن المسرح هكذا، فإن كل ما في المسرح هو مقترح عقلي يبتعد عن القواعد الجامدة، لأن لحظة الإبداع فيه تولد متجددة متحررة تعيدنا لعربة الرائد الأول في فن التمثيل “ثسبس”، ذلك المُقترِح الأول لفكرة الحوار مع الآخر، من خلال نسيج حكائي يُجسَّد درامياً عن طريق شخصيات نعرفها لكنها غريبة عنا حين تصدمنا بأفعال اقترفناها، تلك الأفعال التي كونت فكرة الدراما كصراع داخلي فاضح لنا . . هكذا ولد المسرح حراً لا يؤمن بقيود، ولم يأتِ أحد بقوانين أو قواعد تحدده .
إن هذا التأسيس يأتي منسجماً مع نزوع الإنسان للحرية في المسرح، الحرية بمفهومها الكوني الذي تنوعت فيه وسائل التعبير حتى أصبحت معضلة، وفهمت الحرية على أنها تنفيس عن الأفكار المتراكمة في أذهاننا وعقولنا . . نقول ونكتب ونجسّد كل ما يجول في الخيال، حتى تلك الإرهاصات المنفلتة، وذلك يحتاج منا لمراجعة حقيقية للبحث عن طريقة لخلق خطابنا المسرحي .
الحرية لا تعني الانفلات وتحويل الرسالة الإنسانية للمسرح إلى ساحة لتمرير الشتائم والكلمات النابية والاستهجان بجنس البشر وقيمه الإنسانية، لأن المسرح أعطى الشهادة الأولى على كرامة هذا الجنس، فنجد بعض المسرحيات التي تسمى كوميديا، تعتمد على نجوم يتهكمون على كل شيء، ويشوهون صورة الإنسان ويصفونه بأوصاف وكلمات الغاية منها أن يطلق جمهور محدد قهقهات تكلفه فراغاً في الوعي والمخيلة .
والحرية في المسرح لا تعني إرغام المتلقي على التبعية لتمرير ما نريده، إرضاء لدوافع ذاتية مغرضة، ونحن نعلم أن المسرح غير مطيع لذاتية الفرد، لأنه عمل جماعي في الفكر والتقنية، وهو لا يعالج أفعالاً فردية شاذة، بل يسعى لظواهر عامة، يقوم على تهشيمها وإعادة صياغتها بأسلوب مشاكس للمألوف، يبعث على التأمل ومعالجة النفس .
إن الابتعاد عن المسؤولية في المسرح يشكل خروجاً عن مفاهيم ندرك أنها ترتبط بنظام حياتي أخلاقي المساس به يعني السعي لأسس ومقومات الحياة الإنسانية، وهنا يحاول المسرحي كاتباً أو مخرجاً تقديم أساليب مباشرة تصل حد الخطاب السمج، أو تقديم موضوعات مترهلة غايتها نشر الفوضى الفكرية، والاستهانة بعقل المتلقي، ونحن إذا ما عرفنا أن الرقيب الحقيقي في المسرح هو الضمير والوازع الأخلاقي، فسننجح في مباغتة المجتمع ومشاكسته والنبش في عاداته وتقاليده التي تنطوي تحت خيمة المسكوت عنه، لتقديم عروض تلامس اهتمامات المتلقي .
المسرح كان ومازال لقاء حياً مع المتلقي، يستثيره ويستفزه بمحاولات زعزعة الثوابت عنده، وإعطائه الحرية التي يفهمها ويعيها في التفكير، وفي الرفض أحياناً ، وحين ندفع بالحرية لتكون مقلقة لفكره، عند ذاك يتعدى المسرح فكرة التأثير النصي على المتلقي إلى تأويلات جمالية في الاشتغال البصري .
بل حين نبحث في تأثير الحرية على المسرح، وتلك التبادلية بين الاثنين، سنجد أن جل أحاديث رجل المسرح ، صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة ظل على الدوام يدعو لهذه الفكرة، فمنذ بواكير شغفه بالمسرح وتقديم مسرحيته الأولى “وكلاء صهيون” التي استثارت المندوب البريطاني، الذي منع عرضها، وكان سبباً لمظاهرة جماهيرية، عبروا فيها عن أرائهم بكل حرية . لقد أحس صاحب السمو حاكم الشارقة، بضرورة المسرح، وكونه سلاحاً قادراً على التغيير وباعتباره مدرسة للأخلاق والحرية، ففي كل لقاءاته بالمسرحيين نجد حرصاً واضحاً ووعياً متجدداً بالفكر المسرحي، بما ينسجم وفعله التنويري في المجتمع مقابل ظلامية الأفكار التي تسيء للإنسان، وقد دعا سموه المسرحيين خلال لقائه بهم في افتتاح مهرجان المسرح العربي السادس بالشارقة، وقال (فيا أهل المسرح، تعالوا معنا، لنجعل المسرح مدرسة للأخلاق والحرية)، وهنا يؤكد لنا سموه مرة أخرى نبل المسرح في أهدافه التي تعطي للحرية معناها، حينما يعمل المسرحيون على فهمها على أنها فضاء للتعبير يدعو للقيم الأخلاقية السامية والإنسانية، باعتبار الإنسان المحرك والغاية الأسمى في المسرح والحياة .
---------------------------
المصدر: الخليج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق