تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 11 مايو 2016

الأداء الأنثروبولوجي لمسرح الأقليات.. "مهاد تأسيسي" / بشار عليوي

مجلة الفنون المسرحية

ارتبطت الانثـروبولوجيا ارتباطاً وثيقاً بالمجتمعات الانسانية التي توجد فيها لناحية اهتمامها بدراسة الإنسان , ومن هُنا فقد تعددت الدراسات والاتجاهات والأبحاث التي انصبت على الانثـروبولوجيا بوصفها أحد العلوم الحديثة . إذ اتسعت مجالاتها لتتداخل مع علوم أُخرى عبرَ التعابر مع موضوعات تلك العُلوم واهتماماتها كاشفةً عن مُقومات حياة الشعوب فضلاً عن هويتها الثقافية , لذا فإن دراسة ارتباط الانثـروبولوجيا وفقاً لتعدد مجالاتها بالمجتمع الانساني تُقدم لنا صورة كاملة عن مظاهر الحياة البشرية والحضارية لشعب مُقارنة بشعب آخر , بالاضافة الى إمكانية وصف الظاهرة الثقافية لهذا الشعب عبرَ تحديد الأداء الانثـروبولوجي لتلك الظاهرة  وصولاً لتأكيد هوية الشعوب والمُجتمعات الانسانية على حدٍ سواء والمُستلة من وجودها كَكِيان قائم بذاته .

لقد مهدَّ تعدد مجالات الانثروبولوجيا وفروعها كالانثروبولوجيا الطبيعية والانثروبولوجيا النفسية والانثروبولوجيا الاجتماعية
والانثروبولوجيا الثقافية , لانفتاح واسع أمام سبر أغوار الظواهر الثقافية للشعوب ومعرفة الاداء الانثروبولوجي لتمثلات هذهِ الظواهر من خلال دراسة نشوء الظاهرة الثقافية ضمن الحاضنة الاجتماعية , وفي صياغة الاداء الانثروبولوجي لظاهرة ثقافية بعينها , ومعرفة مكونات هذا الأداء وارتباطهِ بمكونات الظاهرة , سعياً للحفاظ على هوية شعبٍ بعينه . اذ دائماً ما يسعى أفراد الشعوب من خلال مُمارساتهم الثقافية على اختلاف انواعها, الى تأكيد وجودهم من خلال تأكيد هويتهم الحضارية والاجتماعية وهوَ ما يُحققهُ الأداء الانثروبولوجي لهذهِ المُمارسات ومنها المسرح , اذ عمدَ هؤلاء الأفراد الى تبني المُمارسة المسرحية كنوع من تأكيد الهوية الجمعية لشعوبهم .
أفرزت التوزيعات السُكانية لهذهِ الشعوب وفقاً لمعطيات الجيوبولتيك الحديث واقعاً جديداً عليها لأسباب عديدة ، تمثلَ هذا الواقع بوجود أغلبية سكانية مُعينة , وثمة أقليات سكانية تعيش ضمن نطاق ما أفرزتهُ الجغرافيا السياسية حيثُ وجدت تلك الأقليات على أُسس عرقية أو قومية أو حتى دينية لكنها تعيش ضمن نطاق الوطن الواحد في الوقت الذي عمدت هذهِ الأقليات الى التكيف مع واقعها الحياتي الذي فرضتهُ ظروف سياسية واجتماعية في أن تعيش كأقلية داخل حدود الوطن , اذ سعت جاهدة بُغية المُحافظة على هويتها الأثنية أو القومية أو الدينية الى تبني مُختلف المُمارسات الثقافية كالمسرح , من أجل البقاء على تلك الهوية والتعبير عنها بوساطة المُمارسة المسرحية , حيثُ أصبح لكُل أقلية مسرحها الخاص بها وفقاً لطبيعة كُل دولة تضم أقليات مُتعددة منها إسبانيا التي تضم أقلية الباسك وايران التي تضم أقلية العرب وأقلية الكُرد والمغرب الذي يضم أقلية الأمازيغ ومصر التي تضم أقلية الأقباط والعراق الذي يضم عدة أقليات منها الكُرد والتُركمان والسريان ... وغيرهم. 
ان هذهِ الأقليات قد تبنت المسرح كمُمارسة حياتية , بوصفهِ مُعبراً عن تطلعات أبناء تلك الأقليات في المحافظة على هويتهم الاجتماعية والقومية والعرقية , إذ أصبح لكُل أقلية مسرحها الخاص بها حيثُ أصبح مسرح الأقليات يهتم بتقديم العروض المسرحية بلغة الأقلية الأصلية , ويستقى موضوعاتهِ من واقعهم الحياتي ومُستثمراً التراث الشعبي بوصفهِ خير من يُمثل هوية أفراد كُل أقلية , لذا فإن الأداء الأنثروبولوجي لهذا المسرح يُعنى بدراسة ثقافة الأقليات ومنتوجاتها , كالتراث الشعبي والفلكلور واللغة , بُغية تأكيد هوية الأقلية القومية والتي لطالما سعت السلطات الحاكمة في البلدان التي توجد فيها أكثر من أقلية واحدة , الى طمس معالم تلك الهوية , وجعلها مُنصهرة ضمن حيز مفهوم الوطنية الذي هوَ بالأساس مفهوم الأغلبية السُكانية , وبذلك يُمكن تعريف الأداء الانثروبولوجي بأنهُ "مُجمل اشتغالات الأنثروبولوجيا داخل متن المُمارسة المسرحية عبرِ دراسة المضمون الحضاري لتلك المُمارسة كالتراث الشعبي واللغة والطقوس والشعائر والفعاليات الحياتية اليومية للأقلية " .
ان مسرح الأقليات ( محور هذا المهاد التأسيسي ) يُمكن وصفهِ بأنهُ "هو كُل نتاج مسرحي يُقدم باللغة الأصلية للأقلية بوصفه معبراً عن هوية بيئة الأقلية الحاضنة لهُ ,  تراثاً وشُخوصاً ومكاناً" حيثُ يؤكد كاتب هذهِ السطور أن مُجمل الدراسات والأبحاث المسرحية والمُقاربات النقدية في المشهد المسرحي العربي , قد تناولت أنواع هذا المسرح بحسب البلد الذي يضمهُ فضلاً عن تأثر هذا التناول بالظروف السياسية المُتقلبة , لكن لم يسبق لأي منهم أن قامَ بتوضيع توصيف "مسرح الأقليات" بكُليتهِ ضمن مسارات الاشتغال النقدي , ومُقاربة أدائهِ الإنثروبولوجي على اعتبار أن ثمةَ مُشتركات جامعة بين أنواعهِ العديدة , وبذلك نؤكد على أن توصيف " مسرح الأقليات" هو الجامع لكُل أنواعهِ , اذا ما ارتكنّا الى الخوض في مجال التأسيس لمفهوم جديد في فنون العرض والنحت المفاهيمي يُكون بمثابة الحاضنة لاشتغالات الأداء الأنثروبولوجي مسرحياً عبرَ توصيف " مسرح الأقليات " , اذ تعددت انواع وتقسيمات هذا المسرح بحسب البلد الذي تعيش فيه الأقلية , كما أن الباحثين والدارسين والنُقاد المسرحيين قد اهتموا بمُتابعة عروض هذا المسرح عبرَ تصنيف عروضهِ وتبوبيها وفقاً , فكانت عروض " مسرح الجنوب الحُر " في الولايات المُتحدة الأمريكية اسسه كل من ( جونز اونيل ) و ( جلبرت موزز ) عام 1963 في جو من التعاون بين الزنوج والبيض , وقد اتخذ هذا المسرح من مدينة ( نيواورليانز ) في جنوب الولايات المتحدة الامريكية مقراً له , حيث عمد هذا المسرح الى استقطاب الزنوج الامريكان من خلال تقديم عروضه في شوارع الاحياء السكنية التي يقطنها الزنوج وتجسدت في عروض هذا المسرح العديد من المحمولات الفكرية والمُتمثلة بكونهِ يؤدي وظيفة سياسية واجتماعية إضافة الى دعوتهِ للتحرر الاجتماعي والسياسي من سيطرة البيض ورفض العنف الذي يمارسه المجتمع الامريكي ضد الزنوج والمطالبة بالحقوق المدنية لهم والاعتراف بحريتهم , وكذلك " المسرح العربي" في ايران  ومُجمل العروض المسرحية التي تُقدم داخل مُدن أقليم الأهواز العربي في إيران على مدار العام , و" المسرح الأمازيغي " في المغرب والجزائر , وكذلك " المسرح الحساني" في المغرب , و"المسرح الكاثوليكي" في مصر , و"مسرح المنطقة الشرقية" في السعودية , و" والمسرح الكُردي " و" المسرح التركماني " و " المسرح السرياني " في العراق .... وغيرها , كُلها تمثلات لمسرح الأقليات في العالم , اذ كان الأداء الأنثروبولوجي لمسرح الأقليات واضحاً في تأكيدهِ على هوية تلك الأقليات ووجودها القومي أو الإثني , حيثُ لطالما عُرف النتاج المسرحي المُقدم داخل حدود أية بيئةٍ حاضنة لهُ,  بكونهِ معبراً عن هوية تلك البيئة , لذا توالدت هذه التوصيفات  بوصفها الكاشفة عن ماهية النتاج , لغةً وعرضاً وجمهوراً , لذا فإن مسرح الأقليات له أداؤه الانثروبولوجي الخاص بهِ والذي يُميزهُ عن غيرهِ من المسارح , كما تجدر الإشارة والإشادة هُنا بمجهودات عدد من الباحثين والنُقاد المسرحيين ممن كانت لهم بصمات واضحة في مُقاربة مُخرجات أنواع "مسرح الأقليات" نقدياً , والكتابة عنها ورصد ماهويتها , منهم على سبيل الذكر الكاتبة التشيكية شيري موراجا وكتابها الهام (مسرح الاقليات ومسرح المقهورين) , والباحث العراقي نصرت مردان ورصدهِ للمسرح التركماني في العراق , والباحث المغربي د.جميل حمداوي وكتابتهِ عن( المسرح الأمازيغي ) , والناقد العراقي صباح هرمز ومجهوداتهِ النقدية في رصد ومُتابعة المسرح الكُردي والمسرح السرياني في العراق , وكذلك الناقد بشار عليوي واهتمامهِ بالكتابة عن المسرح الكُردي في العراق والكاتب السوري احمد اسماعيل اسماعيل وما انجزه عن المسرح الكردي في سوريا , والباحث العراقي د.علي محمد هادي الربيعي واستكشافه لمناطق جديدة داخل حركة المسرح المسيحي في العراق , والباحث المصري شكري عبد الوهاب وكتابه عن المسرح اليهودي .... وطائفةً أُخرى من الباحثين والدراسين .

الإحالات : 
• سمير سرحان  , تجارب جديدة في الفن المسرحي ,  ( الجيزة : هلا للنشر والتوزيع , 2006 )  .
• محمد عزام , اتجاهات المسرح التجريبي , مجلة البيان , ع369 , ( الكويت : رابطة الادباء , ابريل 2001 ).
----------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق