مجلة الفنون المسرحية
ساعة وزيادة من الضحك المسترسل بفضل الخيال المجنّح للكاتب الفرنسي دانيال بيناك، الذي صاغ نصّا سرديّا عن عالم الطبّ من خلال تجربة عاشها داخل أحد المستشفيات الفرنسية بعنوان “مريض سابق بالمستشفيات الباريسية”، وحوّله بنجامان غييار إلى عمل مسرحي ناجح رُشّح لجوائز موليير لهذا العام، ويتواصل عرضه حتى مطلع شهر يوليو القادم بمسرح الأتيلييه بباريس.
“مريض سابق بالمستشفيات الباريسية” الذي حوله بنجامان غييار إلى عمل مسرحي يعرض حاليا بمسرح الأتيلييه الباريسي، هو نص سرديّ للكاتب الكورسيكي دانيال بيناكيوني الشهير ببيناك، وقد رأى النور عام 1944 في مدينة الدار البيضاء بالمغرب، ونشر روايات “سادتي الأطفال” و”مذكرات جسد” و”الدكتاتور والسرير المعلق” و”حزن مدرسيّ” التي فازت بجائزة رينودو عام 2007، مثلما نشر روايات لليافعين، وقصصا طويلة منها هذه القصة التي وصفها بـ”مونولوج إيمائيّ”.
الطريف أن هذا الكاتب العصامي الذي مارس أعمالا هامشية قبل أن يلتحق عام 1969 بالتدريس في المعاهد الثانوية الفرنسية، كان يساهم في أداء أدوار بعض شخوص أعماله حينما تُحوَّل إلى المسرح..
حكاية ذاتية
بطل قصة “مريض سابق بالمستشفيات الباريسية” هو الدكتور غالفان، وهو طبيب حديث العهد بمهنته يريد أن يحكي لمن يسمعه مغامرات عجيبة كان شاهدا عليها ذات ليلة بقسم الطوارئ في أحد مستشفيات باريس.
هذا البطل -الذي تقمص دورَه وأدوارَ مختلف شخصيات المسرحية الممثل القدير أوليفييه صالادان، أحد أعضاء فرقة “ديشان- ليشيان” الكوميدية- هو رجل في مقتبل العمر، يظهر منذ البداية في هيئة أستاذ أو مفكر، في ديكور بسيط به منضدة ذات عجلات ودولاب يوحيان بوجوده داخل عيادة، فيتقدم بخطى واثقة نحو متفرج في الصف الأول، نعرف لاحقا أنه الكاتب، ويستميله بقهوة كي يقبل الإصغاء إليه، فقد تملكته رغبة ملحة في سرد حكاية يرجع عهدها إلى عشرين سنة خلت، هي حكايته هو نفسه، كطبيب تخرّج حديثا، وعُيّن في قسم الطوارئ الليلية.
أوليفييه صالادان وفق في تقمص الشخصيات، من خلال حركاته وصوته، حيث تتغير نبرات صوته تباعا للتعبير عن تعجب الطبيب
وحينما كان ساهرا ذات ليلة، يطوف على المرضى الذين يتواتر قدومهم، بين جريح ومعتلّ ويائسة من الحياة حاولت الانتحار، ويفكّر في ما سوف يدوّنه على بطاقة عيادته التي ينوي إعدادها، جاءه لتلقي الإسعاف مريضٌ غريب الأطوار، سوف يحوّل ليلته إلى كابوس، ويضطرّه إلى الاستنجاد بفيلق من الأطباء من مختلف الاختصاصات، ليفحصوا أعراضا ما إن يكشفوا عنها حتى تزول عن المصاب بأسرع مما ظهرت.
وتتناسل في خضم ذلك وضعيات عجيبة، تتراوح بين الجدية التي يقتضيها موقف الطبيب، والذعر البادي على ملامح المريض في سكناته وحركاته، وتتعاقب الوضعيات المضحكة في نسق سريع، يأخذ بعضها برقاب بعض.
مونولوج لغوي
هي إذن عملية تسابق وتلاحق مثيرة للضحك، تنطوي على تقلبات عديدة، فأحداثها المسرودة تدور في مختلف أقسام المستشفى، لتُقحم المتفرج في حكاية ذلك الطبيب الحالم بمستقبل واعد، على غرار أبيه وأجداده منذ أجيال، لا يشغله سوى ما يريد تدوينه على بطاقة عيادته المقبلة، ولكن عمله الليلي سرعان ما انقلب إلى كابوس أمام ذلك المريض الغريب، الذي جمع بمفرده جملة من الأعراض المجهولة في وقت واحد.
تلك الأعراض التي سيتواتر ظهورها وزوالها بسرعة سوف تدفعه إلى الاستنجاد بزملائه الذين لم يفلحوا في تفسير تلك الأعراض علميا رغم خبرتهم وتنوع اختصاصاتهم، وتنتهي الحكاية بمفاجأة مذهلة، هي لحظة الانفراج التي تؤول إليها القصة، وتأتي كالعادة على غير ما يتوقع القارئ، والسامع، والمتفرج في واقع الحال.
الأعراض التي سيتواتر ظهورها وزوالها بسرعة سوف تدفع الطبيب إلى الاستنجاد بزملائه الذين لم يفلحوا في تفسير تلك الأعراض علميا
هي في النهاية حكاية طبية، خرافة مسلية، وهزلية تساعد في الترويح عن النفس دون أن تفقد عمقها النقدي لسلوك أنماط من البشر حين يواجهون طارئا لا يتحكمون في بدئه وفي منتهاه، وليس عبثا أن وسَم المؤلف عمله بالمونولوج الإيمائي، لأن المسرحية كانت أشبه بمونولوج لغوي، يستعرض في سخرية خطابَ كلِّ فرد تضعه أقداره في مثل هذا الوضع.
وقد وفّق أوليفييه صالادان في تقمص تلك الشخصيات، ليس في حركاته فحسب، بل في صوته أيضا، حيث تتغير نبرات صوته تباعا للتعبير عن تعجب الطبيب وشكه وذهوله، وعن دهشة المنصِت الذي لا يكاد يصدّق ما يسمع.
ينتقل بقدرة عجيبة من الجرّاح المتعالي إلى الممرضة المرهقة، ومن بطلنا المرتبك إلى الاختصاصي عكر المزاج، فيأخذنا في دوامة من المغامرات العجيبة حتى ليخيّل إلينا أننا نلهث خلف الطبيب عبر ممرات المستشفى، ويتحدث بحديث تصويري يجعلنا نكاد نقف عند كل ردة فعل، ونكاد نشاهد الآلات التي يتوسل بها هو وزملاؤه، فنحس من خلال حركاته ذهولَه وقلقه وانبساطه، ونفهم من خطابه المصطلحات الطبية الغامضة والأمراض المعروفة وغير المعروفة، هذه المفارقة هي التي تمنح النص توتّره وتوهّجه وتجعل المسرحية، على ما فيها من نقد لاذع للوسط الطبي، لحظةَ ترويح رائقة.
يقول دانيال بيناك في مقدمة هذه القصة الطويلة الصادرة عن دار غاليمار “في تلك الليلة، وجد الدكتور غالفان إيمانه بالطبّ، ثم فقده، ثم استعاده، ثم فقده من جديد، ثم عاد ليفقده، وهكذا دواليك، لأن الليلة طالت أكثر مما يلزم، كان لا بدّ أن يروي ما جرى لشخص يصادفه، أنا آسف إن وقع الاختيار عليك أنت أيها القارئ”.
--------------------------------------
المصدر : العرب - أبو بكر العيادي
المصدر : العرب - أبو بكر العيادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق