تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 21 يونيو 2016

مسرحة التاريخ والجسد في المسرح العربي / احمد شرجي

مجلة الفنون المسرحية

انتبه اللبنانيون الى التاريخ، وكيفية الاستفادة من ثراء تنوعه ، هذه الانتباهة أنتجت تيارا جديدا في المسرح العربي ، هو (تيار المسرحية التاريخية)، التي بدأها خليل اليازجي عام 1876، في مسرحية (المروءة والوفاء، او الفرج بعد الضيق) (  يذكر محمد يوسف نجم في كتابه "المسرحية في الأدب العربي الحديث" ص55 أن مسرحية المروءة والوفاء مثلت في العام 1878. ) والتي تعود أحداثها الى ما قبل الإسلام ، وبالذات إلى مملكة الحيرة..


كانت محاولة اليازجي، ولادة للتراجيديا العربية ، التي تأخذ التاريخ العربي وملاحمه ، مادة النص المسرحي، لعله أراد بهذه الخطوة ، ان يسير على وفق مسار الثالوث المقدس في التراجيديا اليونانية، وقد ذكر جورجي زيدان هذه التراجيديا بأنها ( خطوة فريدة من نوعها في الادب العربي) وأضاف  بان ظهورها " يشكل خطوة هامة في تاريخ الأدب المسرحي، لانها تقترب من النماذج الدرامية لكبار الكلاسيكيين الأوربيين" ( بوتينتسيفا، تمارا الكساندروفنا، الف عام وعام على المسرح العربي ،ص124)
بعد خطوة اليازجي توالت المسرحيات التاريخية منه ، ومن الآخرين مثل نجيب الحداد ، واحمد وسليم البستاني، والأخير اهتم أيضا بترجمة كلاسيكيات شكسبير، وبهذا يسجل سبقا بعدم توجهه الى الكلاسيكيين الفرنسيين ، بل الى شكسبير، واهتمامه بشكسبير أعطى ميزة لأعماله المسرحية، كالبناء الدرامي، وفخامة اللغة، ودرامية مقبولة،يتجاوز ظروف البيئة العربية وتقاليدها، بحيث جعل من قيس وليلى شبيهة بروميو وجوليت الشكسبيرية.
وهناك أيضا ابراهيم الأحدب، الذي كتب مسرحية الاسكندر المقدوني. وأيضا عبد الغني  رمضان  الذي عرف كيف يوظف فن المقامات دراميا في مؤلفاته ، إذن كان هناك حراك كتابي مهم ، بل ومهم جدا لتأصيل الشكل المسرحي عربيا ، هذه النصوص التي سعت لتأصيل الخصوصية من خلال تدوين الملاحم التاريخية على شكل تراجيديات عربية ، اذا صحت لنا تسميتها ، تقترب كثيرا من خطوات التراجيديات الإغريقية، لكن عدم الاستمرار ، ومن ثم الانقطاع  عن ذلك الاستلهام، او تدعيم تلك الخطوات، وتبنيها ، والاشتغال على تطويرها، كما حصل عند اليونانيين مثلا، لم يهدم سوفكلس ما جاء به اسخيلوس، ولم يسع يوربيدس إلى الغاء ما جاء به من سبقه، بل سعوا جميعا لتطوير شكل التراجيديا، بمعنى انه كان امتدادا وتطورا وانتقالا طبيعيا من مرحلة إلى أخرى، على الرغم من ان يوربيدس ذهب بعيدا في اشتغالاته عن اسخيلوس وسوفكلس.
ساهم كل ذلك بعدم دعم اللبنات الأولى لهذه التجارب، مع ان الثقافة العربية بدأت تأخذ مسارها الصحيح  كعقل تطويري وتنويري داخل المجتمعات العربية، لكنها للأسف أجهضت . تعزو الباحثة الروسية تمارا أسباب ذلك الإجهاض إلى "تزايد تدخل السلطات التركية ورجال الدين المحليين. لقد تسبب تشابك المصالح وتغلغل رؤوس الأموال للدول الأوربية العظمى إلى سورية ولبنان، بحدوث مذبحة بين الموارنة الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع ايطاليا وفرنسا وبين الدروز الذي كانوا يتلقون الدعم من إنكلترا. ففرضت تركيا نظاما صارما ودعمت وضعها في البلاد ما ادى الى تعاظم دور المشايخ الذين اخذوا يتهمون كل من يشتغل بالمسرح بالانحلال واللا اخلاقية وإهمال القواعد الإسلامية" (بوتينتسيفا، تمارا الكساندروفنا، ص 130)

الجسد بوصفه [تابو]
تحرر الجسد، هو احد الأسباب التي ساهمت في تطور المسرح الغربي ، وأيضا المسرح في شرق آسيا، تجسيد الطقوس كانت تتم بواسطة الجسد، تحرره، انطلاقه، استنطاقه، منذ أن نشا المسرح عند الإغريق بوساطة الاحتفالات الدينية والطقسية، كانت الاشتغالات تجسدها الأجساد المتحررة، التي شكلت اللبنات الأولى للمسرح، وبعد ان انتقل الجسد من وظيفته الطقسية الاحتفالية، الى الخشبة المسرحية على شكل تراجيديات، كان الجسد حاضرا ، الجسد بمعناه المطلق، يشكل مركز البؤر التراجيدية، اوديب كجسد يتزوج امه وينجب منها ، ومن ثم يعاقب بنفسه ذلك الجسد ويفقأ عينيه ، ويعذبه، انتيكونا الرائعة تضحي بجسدها من اجل دفن جسد شقيقها، انه المركز وكل ما يدور حوله فهو من اجله، من اجل تدعيم حضوره.
الاحتفالات الدينوزوزية و " باحتفالاتها الحسية ، وما تمثله من تلاقح الغريزة والجسد، تعني انه يعيد الاعتبار الى الجسد ويكشف من جديد عن أهميته ، وعن ضرورة إيقاظه وتفعليه" ( نديم معلا ، الجسد ،عالم الفكر ،213.   ). الجسد طاقة تعبيرية تملك خصائص إرسال شفرات العرض ، منذ المسرح الإغريقي إلى اليوم، سحر دهشة المسرح في شرق آسيا "الصين، الهند، اندونيسيا، اليابان" ، كان عن طريق الجسد ، من خلال تحرره ، طاقته الإرسالية ، وطاقته التعبيرية. لم ينظر إليه كشيء مقدس ، القدسية التي تحرم ذلك التحرر والانفلات من القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية، التي تساهم بإعاقة ذلك الانطلاق ، بعد ان تلفه بكم هائل من التابوهات.

الجسد عربيا
 ومنذ نشأة المسرح العربي، ظل الجسد مقيدا، سجين اللغة والحوار، ملفوفا بهالات من التقديس أحيانا، وأحيانا أخرى كونه مدنساَ، لم ينتبه المسرح العربي لقضية تحرر الجسد من التابوهات التي تقيده ، إن كانت: دينية، اجتماعية، نفسية، ظل أسيرا لتلك التابوهات . نتيجة لذلك القيد، اهتم العرب بالمنطوق ، لأنه المصدر الوحيد لكل المتداولات الفنية والجمالية،  وأهملوا اللغة الجسدية ومدلولاتها، الجسد أسير وفق الطروحات الدينية كونه يعد (عورة) والعورة لا يمكن الكشف عنها، فإن ذلك شيء محرم، ظل الجسد وتفاصيله طلسماَ، لا يعرف كيف تفكك شفراته ودلالاته، وأيضا ذكر في القرآن الكريم على انه غواية (وقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) صدق الله العظيم، سورة ص-32،  بأنه مقدس ، لهذا صعب الاقتراب منه، وتدنيسه، يذكر الدكتور محمد إقبال عروي بأنه وردت في القرآن إشارات الى عد الجسد آية، " سورة يوسف-105"( وكأي من آية في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون) صدق الله العظيم، آية تدل، بطبيعتها و خصائصها ، على وحدانية الله عز وجل وعظمته، وإذا كانت الآية علامة ، فأن الجسد، بهذا المعنى يتحول الى علامة تندمج في وظيفة تواصلية مبلغة لرسالة من مصدر القرآن إلى البشرية، حول جسدها ذاتها وتصوراتها التقليدية حول الذات، والتهيؤ لاستيعاب دلالات وتصورات جديدة تحوله في كائن بلا غاية الى كائن/آية. (محمد إقبال عروي ،عالم الفكر، ص13 )

تساؤلات
هل تأثر المسرح العربي بالخطاب الديني ، ومن ثم ساهم بسجن الجسد؟ وبقي الجسد ما بين طروحات المقدس والمدنس، بوصفه - في القران -مصدرا للطهارة كما يذكر الدكتور العروي؟. هل ان طهرانية الجسد كمفهوم ديني ، قرآني حال دون تحرره، ومن ثم أمسى احد الأسباب التي ساهمت في عدم تطوير المسرح العربي؟. هذا الرأي له ما يدعمه في المسرح الغربي ، حين أقدمت الكنيسة على أسره داخل الكنيسة، ولم يتحرر المسرح والجسد إلا حينما تحرر من سلطة الدين والكنيسة، عندما كسر تلك القيود وانطلق في الفضاء.

هل هذا سبب لعدم تطور المسرح العربي؟؟؟
يجب ألا ننسى بأن الله خاطب الرسول محمد(ص) ، بكلمة اقرأ، هذه الكلمة كان لها سحرها فيما بعد، بعملية الحفظ، التي يجيدها العرب، لهذا نجد الشعر العربي أكثر رسوخا، من الفنون الأخرى، لأنه يتداول عبر الألسن، وكذلك الحكاية والرواية، كما جاء على لسان بشار ابن بُرد( .. و الإذن تعشق قبل العين أحيانا)، هذا إذا دل على شيء فانه يدل على ان العرب اهتموا بالمسموع على حساب المرئي، لكن الغريب في الأمر إن الاحتفالات التي كانت تقام قديما كان للجسد حضور فيها أيضا!!
تحرر الجسد هو احد عناصر تطور المسرح في العالم، كون الممثل لا يمكن أن يبقى حبيس لسانه ، وعقله فقط على الخشبة، لان العقل يصدر أوامره للجسد بالتعبير عن الأحاسيس والمشاعر، التي يطلقها اللسان كذبذبات صوتية.
وقد تناول الكاتب السوري سعد الله ونوس، قضية سجن الجسد ، وضرورة تحرره من القيود التي تعيق تواصله مع الآخر، ومنها :
دينية
اجتماعية (العادات والتقاليد)
نفسية (الحاجز نفسي)
هذا ما أشار إليه ونوس في مسرحية (طقوس التحولات والإشارات)، عبر جسد /شخصية، (مؤمنة):
الجسد وجود لنزوات وشهوات الرجل، يفقد إنسانيته وينشي ويتحول إلى مجرد ركام....أريد يا شيخ قاسم أن أعتق جسدي وأفك عنه هذه الحبال التي تمتص دمه وتقمعه. أن يغدو حرا ، وان يستقر في مداره الذي خلق له. كالورد وأوراق الشجر، كالقمر وأعشاب الأرض، كالغزلان وينابيع السفوح، كالنور وكل ماهو حي في هذا الكون. 
ونسأل ايضا ...؟؟ هل ساهم الجهل العربي في  النكوص  مسرحيا عن فهم طروحات ارسطو في كتابه فن الشعر؟ فلقد فصلوا مفهوم (الحوارية الشعرية) واحتفوا بالشعرية فقط، وهذا الانفصال أدى إلى فهم خاطئ ، ومنها ترجم العرب  الكوميديا بالهجاء، والتراجيديا بالمديح، وفق المفهوم الشعري، من دون ان يفهم دلالته المسرحية، " باعتبار ان  مصطلح التراجيديا كان مبهما للمنطقة العربية ، ولم يستعمل تعبير مأساة للدلالة على التراجيديا إلا في نهاية القرن التاسع عشر مع دخول المسرح الى العالم العربي، ومع محاولة تصنيف المسرح إلى أنواع" ( الياس ،ماري- و-قصاب حسن، حنان- المعجم المسرحي، ص123   )، وذلك للتفريق بينهما، هذا التفسير الخاطئ، او الفهم الخاطئ ساهم أيضا بعدم تطور المسرح العربي،  لأنهم أهملوا الجانب الدرامي في مفهوم أرسطو للحوارية الشعرية ،وهذا عكس ما حصل في الغرب الأوروبي الذي اخذ تعاليم أرسطو وانطلق منها ليؤسس لمسرح غربي حقيقي .
للأسف منذ بدا المسرح العربي بدأ بقطيعة تامة مع إرثه الثقافي والأدبي، حيث قام النقاش بترجمة نص من الفرنسية، او اقتبسه كما تحلو للبعض هذه التسمية، ولم يستثمر النقاش أيا من المظاهر الفرجوية الشعبية العربية في عمله ، بل بدا من حيث ما شاهده بالغرب، ومن ثم همش كل ما قبل ذلك، كل تلك المظاهر الدرامية الموجودة بكثرة في المنطقة العربية، هذه المظاهر التي كان من الممكن ان تشكل العناصر المسرحية ، ذات البعد التأصيلي لشكل المسرح العربي، وهذا عكس ما جاء في خطبته، ومفادها بأننا نحن الأصل وهم الفروع وهم السواقي ونحن الينبوع. ان المسرح العربي بدأ بقطيعة تامة مع كل إرثه الفرجوي الموجود في المظاهر الدرامية، واخذ بتقليد العرض المسرحي الأوروبي بما وصل إليه في المدة التي شاهده فيها، بعد مخاضات كثيرة وكبيرة، وبعد مذاهب مسرحية  اخذت تاكل بعضها بعضا، وبروز تيارات جديدة، لم يتم الالتفات إلى- ما قبل- ما شاهده في اوروبا. لهذا نجد حضورا كبيرا لموليير-آنذاك- في المنطقة العربية، بل أصبح لكل بلد مولييره الخاص، أخذت المنطقة العربية برمتها تردد خطوات النقاش، من دون الحفر في أسس هذه التجربة، وفي ضوء ذلك ارتكبوا الخطأ نفسه الذي ارتكبه النقاش، وساهموا معه بترسيخ مفهوم القطيعة مع المظاهر الفرجوية.

-----------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق