مجلة الفنون المسرحية
----------------------------------------------
المصدر : محمّد محمّد خطّابي - القدس العربي
بعد حلول الذكرى الثمانين لرحيل رائد المسرح الاسباني المعاصر الكاتب فايّي إنكلان (1936ـ1866) مافتئت «مؤسّسة فاييّي إنكلان» الاسبانية الثقافية التي تُعنى بآثاره وأعماله تحتفي بسنة احتفالية كاملة في اسبانيا وفي العالم الناطق باللغة الاسبانية على أوسع نطاق بهذا الكاتب المسرحي خلال العام الجاري، حيث تحلّ الذكرى 150 لميلاده. وتتوفّر هذه المؤسّسة في الوقت الرّاهن على مسرح يُعنى بالأعمال الإبداعية، والمسرحية، والدرامية لهذا الكاتب، كما تعتزم هذه المؤسّسة التي تحمل اسمَه إصدارَ مجلة أدبية دورية تحمل اسمَ أحد أعماله المسرحية وهي مسرحيته الشهيرة «برادومين» التي كانت حققت نجاحاً كبيراً في حياته وبعد مماته، كما تزمع المؤسّسة نشر أعماله الكاملة في مجلّدين كبيرين، سيضمّ الاوّل إبداعاته النثرية، ويتضمّن المجلد الثاني أعماله المسرحية والشعرية والقصص. وأشارت المسؤولة عن هذا المشروع مارغاريتا سانشيس إلى أن المجلدّين سينشران في غضون 2017. كما عملت هذه المؤسّسة على إحياء احتفاليات وتظاهرات وملتقيات ثقافية وأدبية، وتنظيم عروض مسرحية وسينمائية وموسيقية، وإقامة معارض وندوات، فضلاً عن إقامة مسابقات أدبية في القصّة، والمسرح، وإنشاء كراسي أستاذية جامعية تحمل اسمَه، في مدينة «سانتياغو دي كومبوستيلا» وفي بعض المدن والمناطق الاسبانية التي عاش فيها الكاتب، وفي العالم الناطق
بلغة سيرفانتيس على أوسع نطاق، تكريماً لهذا الكاتب المسرحي المميّز. إذ في 26 من شهر تشرين الأوّل/أكتوبر/المقبل من العام الحالي 2016 ستحلّ الذكرى 150 لميلاده. وفي الخامس من شهر كانون الثاني/يناير 2016 كانت قد حلّت الذكرى الثمانون لرحيل هذا الكاتب الاسباني الغنائيّ والمسرحيّ الذي يُعتبر من كبار المبدعين المسرحيّين في تاريخ الأدب الاسباني المعاصر.
بين سيرفانتيس ورامُون فايِّي إنكلان
مثلما بُترت الذراع اليُسرى للكاتب الاسباني العالمي ميغيل دي سيرفانتيس صاحب «دون كيشوت» في معركة خليج «ليبانتو» الشهيرة ضدّ الأتراك في اليونان في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1571، فقد بُترت الذراع اليُسرى كذلك للكاتب رامون فاييّي إنكلان على إثر مشاجرة عنيفة مع أحد معاصريه من الكتّاب الاسبان كذلك وهو مانويل بوينو، وبعد أن تماثل فاييّي إنكلان للشّفاء، أقام بعض أصدقائه الكتّاب والنقّاد والشّعراء ومعهم مانويل بوينو الجاني حفلاً كبيراً له بتقديم إحدى مسرحياته التي كانت تحت عنوان «رماد» في قاعة مسرح «لارا» المرموق في مدريد وكانت المسرحية من إخراج رامون فاييّي إنكلان نفسه، وبعد هذا العرض المسرحي، الذي كان قد حقق نجاحاً منقطع النظير، جمع له أصدقاؤه مبلغاً من المال، واشتروا لصديقهم ذراعاً صناعيةً حتى يعوّض بها الذراع التي فقدها بعد ذلك الشّجار اللعين، وأصبح إنكلان معروفاً لدى الجميع منذ ذلك الإبّان بالكاتب الذي لم تعد له سوى ذراع واحدة، مثل بلديّه، وابن جلدته، وطينته الكاتب الاسباني الذائع الصّيت ميغيل دي سيرفانتيس، ولحق به اللّقب نفسه الذي لزم صاحبَ «دون كيشوتّ» طوَالَ حياته وهو (المَانْكُو) الذي يعني في اللغة الاسبانية ذا الذراع الواحدة أو الأكتع.
ونشر خواكين حفيد الكاتب رامون فاييّي إنكلان مؤخراً العديد من نصوص مخطوطات جدّه المؤرّخة في الفترة المتراوحة بين 1895 و1935 التي لم تكن قد نُشرت من قبل مثل «إشبيلية»، و«الموت راقصاً»، و«الماركيزة كارولينا» و«برادومين» و«الملك الأعمى» و«طرق وقدر» و«الزلزال» و«جندي من أفريقيا» وبعض الرسائل المخطوطة الشخصيّة الأخرى التي ترى النور لأوّل مرّة، وتلقي هذه المخطوطات أضواءَ جديدة كاشفة على حياة هذا الكاتب، خاصّة في الحقبة التي زُجّ به في السّجن من طرف الديكتاتور الاسباني بريمو دي ريفيرا، كما أعدّ حفيد رامون فايّي إنكلان بهذه المناسبة كذلك سيرة ذاتية مستحثة شاملة حول جدّه الكاتب المُحتفىَ به خلال العام الجاري.
النصّ الدّرامي عند إنكلان
تُعتبر التيّارات الجديدة التي عرفها المسرح الغربي بشكل عام انطلاقاً من عام 1887 في كلّ من باريس وبرلين وموسكو ولندن، انعطافا، أو إزوراراً في تطوير هذا المسرح، حيث عرفت المواضيع الأساسية المتعلقة بالعروض المسرحيّة تطوّراً هائلاً مهّدت السّبيل بعد ذلك إلى ظهور المسرح الأوروبي الحديث الذي سيصبح من أبرز، وأشهر رجالاته في ما بعد برتولت بريخت، وأرثور أداموف وجان جنيه، وغروتوسكي، وبيتر بروك، وسواهم الذين يعتبرون برمّتهم من الوجوه المشعّة في تاريخ تطوّر المسرح في القارة العجوز.
لا يعتمد هذا التيّار المسرحي على الصّورة المسرحية، بقدر ما يُعنىَ في الأساس بجوهر النصوص ومضمونها، هذه النقلة، أو الطفرة التي توسم كذلك بـ«الثورة» التي عرفها عالم المسرح في اسبانيا قام بها الكاتب الاسباني رامون فاييّى إنكلان انطلاقاً من سنة 1906 حيث بدأ يتجلّى الإبداع المسرحي في الورق، والكتابة قبل أن يظهر على الخشبة بواسطة الإخراج المسرحي.
وهناك نصّان مسرحيّان بارزان لهذا المبدع هما «نسر المجد» (1907) و«غنائية الذّئاب» (1908) حيث بدأ بهما رامون فاييّي إنكلان مرحلة جديدة في الفنّ الدرامي في اسبانيا، وتغلف هذه النصوص أجواء من الظلام والطلاسم والسّديم والموت، والدم، والعنف، والقساوة، وعناصر أخرى ظلّت بمنأى عن النصوص المسرحية الأوروبية، وعن خشبات المسارح الغربية بشكل عام . لا تحتاج نصوص إنكلان سوى إلى حيّز زمني رمزي لإبلاغها للجمهور، وتغدو كلمات شخصياته حليفة الضوء واللّون والصّوت، ولصيقة بأجسام الممثلين وحركاتهم، ومواقعهم، ذلك أن هذه النصوص تتوفّر على قوّة سحرية ليس انطلاقاً من ثراء مضامينها وحسب، بل وبشكلها وإطارها ووقعها وتنغيماتها، هذه النصوص المسرحية هي ذات طابع اجتماعي ونفسي في آن، إذ لا يقوم العالم الدّرامي لدى الكاتب سوى على النطق، والقراءة كما كان الشأن في النصوص الواقعية، بل إنّه لصيق بالجّو الرّمزي الجديد، أيّ طغيان الكلمة باعتبارها الخاتم الجديد، أو الطابع المميّز لمسرح القرن العشرين.
عودة إلى ينابيع الدّراما
لم يكن رامون فايّى إنكلان بهذا الاتجاه الجديد كاتبَ نصوص وحسب، بل كان ممثّلاً، ومخرجاً مسرحياً في آن داخل نصوصه نفسها. وهذا المنحى المسرحي لديه ليس هروباً من الأعراف، أو القواعد المسرحية التقليدية المألوفة أو نكراناً أو جحوداً لها بقدر ما هو عودة إلى ينابيع الدّراما الأولى، وانغماس في معايشة الفنّ المسرحي في أجلى معانيه، وأبهى صوره. إنّه بهذا الاتّجاه مثلما هو عليه الأمر في التراجيديا الكلاسيكية يمثّل رجوع الإنسان إلى رؤاه، وأحلامه الأولى المبكّرة للعالم الحافل بالأسرار والخبايا والخفايا والغوامض، هذا العالم المغلّف بلغز التساؤل الأبدي المحيّر، وما يتراءى له في نصوصه من شخصيات غريبة تتعانق فيها الخيالات وأضغاث الأحلام باللاّوعى والهذيان. إنّ رامون فاييّى إنكلان باتجاهه هذا قد أعاد الاعتبار لبعض الأبطال الكلاسيكييّن الذين نعرفهم، فالأشكال المسرحية المبتكرة في نصوصه الدرامية هي الحلقة الواصلة التي كانت مفقودة بين جيري وبريخت، أو أرتود وأونيسكو، أيّ بين المسرح الملحمي أو الحماسي ومسرح العبث أو اللامعقول.
رُوبِينْ دَارِييُّو وإنكلان
يَعتبر نقّاد الأدب الاسباني ودارسوه رامون فاييّي إنكلان من الكتّاب المجدّدين في اسبانيا، ولقد اقتفى في هذا القبيل آثارَ صديقه، ومعاصره شّاعر نيكاراغوا الكبير المجدّد رُوبينْ دَارِييّو الذي تعرّف عليه، وأقام معه صداقة متينة عندما قدِم إلى العاصمة الاسبانية مدريد عام 1899حيث كان يشارك إلى جانب كبار الأدباء والكتّاب والشعراء الاسبان في الموائد الثقافية المستديرة، والمناقشات الأدبية الرّفيعة التي كانت تنظّم في «مقهى مدريد» (كانت بمثابة مقهى الفيشاوي في مصر) وكان يشرف على هذه التجمّعات فاييّي إنكلان نفسه، والأديب الاسباني المعروف خاثينتو بينابينتي، وكان معظم هؤلاء الكتّاب الاسبان ينتمون إلى الجيل الأدبي الشهير (1898) الذي كان من أبرز أعضائه، ومكوّنيه كذلك إلى جانب فاييّي إنكلان أدباء، وشعراء اسبان آخرون من العيار الثقيل أمثال ميغيل دي أونامونو وأنطونيو ماتشادو وأثورين وسواهم.
من أعمال فاييّي إنكلان الأخرى القصصية منها، والنثرية، والمسرحية: «بابل»(1888)، و«الشحّاذ»(1891)، و«منتصف الليل» (1889)، و«رماد» (1899)، و«الخوف» و«مأساة حلم» و«ملك القناع» (1903)، و«بلاط الحبّ (1914)، و«المسحور» (1913)، و«المصباح السحري»(1916)، و«كلمات ربّانية» (1920)، و«وردة من ورق» (1924)، و«أضواء البوهيمية» (1924)، و«ثلاثاء الكارنفال»(1930) وسواها . كما نقلت العديد من أعماله الإبداعية إلى السينما في كلّ من بلده اسبانيا وفي المكسيك، وكوبا، منها «يوميات المركيز برادومين» (1959)، و«زهرة القداسة» (1972)، و«أختي أنطونيا» (1976)، و«كلمات ربّانية»(1978)، و«أضواء البوهيمية» (1985)، و«بانديراس المستبدّ» (1993).
فى خضمّ احتفالات اسبانيا بنهاية أعياد الميلاد عام 1936، وفي أتون اندلاع أهوال الحرب الأهلية الاسبانية 1936 فارق رامون فاييّي إنكلان الحياة في عاصمة غاليسيا (المعروفة في الرّوايات الأندلسية العربية بـ «جليقة») «سانتياغو دي كومبوستيلا»، مات في سريره وهو يكتب، مات فقيراً معدماً، ولكنّه كان فاحشَ الثراء خَلْقاً وإبدَاعاً وعَطاء وتأليفاً.
----------------------------------------------
المصدر : محمّد محمّد خطّابي - القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق