مجلة الفنون المسرحية
هذه المرة سيدوم “احتلال الباستيل” 68 يوما (من 11 أبريل الماضي حتى أواسط شهر يونيو الماضي)، والمحتلون ممثلون فرنسيون تحت إدارة المخرج البرتغالي تياغو رودريغيس، وجمهورٌ يتردد كل يوم على مسرح “الباستيل” بباريس، لحضور هذه التجربة المبتكرة، والمشاركة في عرض جريء لمحاكمة رائعة من روائع الأدب الفرنسي هي “مدام بوفاري”، تضع وجها لوجه عدالة لا تغفر خرق الناموس والقاموس وفنان لا يعترف بقيود.
مسرحية “مدام بوفاري” تجربة من التجارب التي عودنا عليها المخرج البرتغالي تياغو رودريغيس مدير المسرح الوطني البرتغالي “دونا ماريا الثانية” بلشبونة، حيث احتل وفريقه من الممثلين الفرنسيين مسرح “الباستيل” بباريس على امتداد شهرين تقريبا، احتلال كان مدفوعا بثلاث حاجات لا تقبل الإبطاء كما يقول مخرج العمل.
أولاها حاجة الفريق المسرحي إلى مساءلة علاقته بالفنانين وبالجمهور من خلال الاعتراض على النسق المستعجل للاستهلاك الثقافي، وثانيتها حاجة الفنانين إلى لقاء المسرح بشكل مغاير، على نحو يمكنهم من الإقامة فعلا في المدينة (بالمفهوم الأفلاطوني)، والثالثة حاجة الجمهور الذي يرغب في الإقامة داخل المسرح كمن يحاول فكّ لغز، وهو يمني النفس بألاّ يعلم ما سوف يكون.
لا شيء مقرر سلفا باستثناء “بوفاري” وعنوان عرض يتغير كل يوم “لن نتمرن هذا المساء” وعنوان البيان الختامي “رأيتك لأول مرة في مسرح الباستيل”، والغاية كما يقول رودريغيس هي “خلق جماعة” على طريقة المتظاهرين ليلا في الوقت الحالي في ساحة الجمهورية.
الرواية المسرحية
هذا النوع من العروض ليس جديدا على تياغو رودريغيس الذي يعتبر من مجددي الفن الرابع في أوروبا ولم يبلغ بعد الأربعين. فهو دائم البحث والتجريب، لا ينفك يقود فرقته نحو تحديات لا تنتهي، مثل “من القلب” التي بيّن فيها قدرة الكلمات على مقاومة التوتاليتارية، و”ثلاث أصابع تحت الركبة” التي انتقد فيها دكتاتورية سالازار من 1933 إلى 1974، وهي عبارة عن مونتاج لمقتطفات مما دونته الرقابة في تلك الفترة.
وهو إلى ذلك كاتب ومؤلف مسرحي وقارئ نهم، ومن قراءاته الأولى “مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير، التي اكتشفها في سن المراهقة، واستمدّ منها مسرحية بعنوان “بوفاري” عالجها من زاوية خاصة، هي القضية التي رفعت ضدّ فلوبير عام 1857 بتهمة الإساءة إلى الآداب العامة والتعاليم الدينية والأخلاق الحميدة.
ومزج في هذه المسرحية ثلاثة مستويات: المستوى القانوني من خلال لغة القاضي والمدعي العام ولسان الدفاع، والمستوى الفني من خلال الخطاب الروائي، والمستوى الحميمي انطلاقا من رسالة متخيلة أرسلها فلوبير إلى عشيقته إليزا شليسنغر، واستقاها من مراسلات الكاتب نفسه.
ويعترف رودريغيس بأنه استند في صياغة نصه إلى طبعة قديمة من الرواية مترجمة إلى البرتغالية، تضمنت مقدمة تروي تفاصيل تلك المحاكمة التي دخلت التاريخ، ووجد فيها ضالته، أي الكلمات التي أدانها المدعي العام، ورأى فيها آفة قد تمتد عدواها إلى القراء، ومن ثَمّ فهو يحتفي هنا، كما في مسرحياته السابقة، بقوة الكلمات وسلطتها وقدرتها على التغيير.
رغم ما شاب المسرحية من طول ، وبعض المؤثرات الموسيقية الزائدة، إلا أنها كانت عملا مقنعا، استطاع المخرج أن يمسك بكل الرهانات
ويهمنا هنا أن نتوقف عند العرض المسرحي الذي جاء هو أيضا على غير مثال، على الخشبة خمسة ممثلين يلقون أوراقا سوف تغطي الأرضية وتفيض عليها، قبل أن يجمعوها في نهاية عرض يدوم ساعتين، هو رحلة في صميم الكتابة أو قل هو غوص في أعماق أنماط الكتابة سالفة الذكر، أي القانونية والفنية والذاتية، ليستكشف أخطارها الممكنة على المجتمع.
وهو ما تنبه له فلوبير في حينه، حيث كلف كاتب اختزال بتدوين أطوار الجلسات ومرافعاتها قائلا “ينبغي أن تكون لهذا الجور ذاكرة”. وبذلك ثبّت غباء السلطة، وظلت القضية حاضرة في الأذهان على مر الأجيال، تذكرنا بأن السلطة الجاهلة تسعى دائما إلى تكميم أفواه المبدعين وكسر أقلامهم، لأنهم يهددون الأوضاع المكرسة.
محاكمة الرداءة
ينطلق رودريغيس إذن من تلك القضية ليركز على المدعي العام، السيد بينار، وهو محام نابه وقارئ فطن ينفذ إلى النص كنصل السكين ليستخرج ما بين سطوره ويدين مخاطر الرواية وسط تهليل القاعة، فيما يبدو المحامي لسان الدفاع دونه حجة وطاقة تعبيرية.
ومن براهين الإدانة إلى الدفاع المرتبك ندخل إلى جسد النص، فنغوص في الرواية بحضور البطلة إيمّا، التي أبدعت في تقمص دورها الممثلة ألما بالاسيوس، وعشاقها، الذين تناوب دفيد جيزلسون على أداء أدوارهم، وفلوبير نفسه.
ورغم ما شاب المسرحية من طول إلا أنها ورغم بعض المؤثرات الموسيقية الزائدة، كانت عملا مقنعا، فقد استطاع المخرج أن يمسك بكل الرهانات: جمال الرواية، الفتنة التي تمارسها بطلتها على الجميع، والمعاناة التي تسببها لرقابة الدولة ولمبدعها نفسه.
رودريغيس حوّل رواية فلوبير إلى نوع من الحمى لا تفتأ تشتد، فننتهي بدورنا إلى عشق إيمّا بوفاري التي مثّلت قلة إشباع نهمها للحياة وملذاتها سمة العصور التالية، ودلالة على عجز الفرد عن بلوغ مقاصده الدنيا، تلك المرأة التي كانت تحلم بأن تكون بطلة روايات لم تجد حولها سوى الرداءة والخيبات، التي نلمسها حتى اليوم في المجتمعات الغربية، وهو ما حرص المخرج على إبرازه.
يقول تياغو رودريغيس “ليست الأجوبة هي المهمة، بل الضرورة اليقظة لطرح الأسئلة الوجيهة”.
--------------------------------------------------
المصدر : أبو بكر العيادي - العرب العدد: 10291
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق