مجلة الفنون المسرحية
--------------------------------------
المصدر : إسلام السقّا - السفير
«سيداتي آنساتي سادتي، لضمان استمتاعكم بهذا العرض المش ممول والمش مدعوم نرجو الالتزام بالتعليمات التالية»، تفتتح هذه الجملة مسرحية «وجهة سفر»، غير الكوميدية، والتي عرضت في رام الله للمرة الأولى منتصف الشهر الحالي.
يظهر إطار صورة كبير وفارغ معلّق في منتصف الحائط من وراء الممثلين. إلى جواره إطار صغير وبه صورة شاب نعرف بعد قليل أن اسمه وليد. حذاء عسكري كبير مسلّط عليه الضوء تحت الإطار الكبير. عدد من الصناديق التي تلعب دور أثاث المنزل ومكتبته وخزائنه المتواضعة..
جاء التأكيد في السطر الأول من هذا المقال على «دراميّة» مسرحية «وجهة سفر» كمديح مبكّر ومبطّن لعمل حملته المثابرة والجدية من صانعيه ليكون على قدر توقعات جمهوره. ليس من السهل أن يلقى عملاً لا يعتمد على الكوميديا قبولاً خصوصاً إن كان عملاً بِكراً. بتمويل ذاتي، وفي قاعة صغيرة ومزدحمة تحقّق حلم ثلاثة فنانين فلسطينيين شباب بخطو خطوتهم الأولى نحو مسرح واقعي يحمل شغفهم وحبّهم للفن في 45 دقيقة فقط.
إن النقد المسرحي عمليّة صعبة. فهو نقد مركّب يجبرك بأن تركّز على «النص» المكتوب، الذي لا يمكن فصله عن الجانب السيميائي أو الصوتي بالمناسبة. في ضوء ذلك أجدني أتحدث في هذا المقال عن مسرحية «وجهة سفر» (كتابة غسان نداف، والذي شارك في التمثيل مع إبراهيم زهد ورنا برقان) عبر تناول أحد ثيماتها، معتمداً على ما قرأته وما شاهدته منها.
ثقل الغياب
في المسرحية ثلاث شخصيات فقط تعيش جميعها في ظلّ شخصية رابعة لا نراها، ولا نرى صورة لها حتّى. شخصية غائبة لا يعبّر عنها سوى الإطار الفارغ. كأنّ الإطار هنا هو الطوق الذي يسيطر على حياة الشخصيات الثلاث. توفيق أخو الشهيد، وليلى زوجة الشهيد، ووالدة وليد التي تعيش حالة من الوفاء لزوجها وديع، وهو شهيد محبوب ومعروف على مستوى شعبي. في المقابل، يعيش وليد حالة هروب من ذكرى والده، يقول: «أنا ما بعرف منه غير اسمه وصورته». حالة من الثقل يُضفيها غياب وديع، يحاول أن يعوّض عنها العم توفيق بخفّة مصطنعة ودخيلة سرعان ما يستسلم لها وليد. يصبح وليد بين إغراء عمّه (المناضل السابق) بتسهيل سفره وبيع منزل العائلة، وبين أمّه التي تطلب منه بكل وضوح أن يسلك طريق والده الشهيد.
تتكرّر المواجهة الحواريّة بين الأم وابنها وليد، فتصبح العناصر المادية على خشبة المسرح جزءاً من هذا الصراع. الصور على الحائط تتحرّك من مكانها. تختفي وثيقة السفر، ويُنقل الحذاء العسكري للشهيد من مكانه. هذه حركة قد تؤخذ إلى ما هو أبعد من حركتها، لتكون دلالة على فقدان تراتبية الحياة في ظل ذلك الغياب، بل وهشاشتها. تلك الهشاشة التي مثّلها اختراق العم، المادي والطامع، لحياة تلك الأسرة بسهولة. وإن كان تزويج أرملة الشهيد من أخ الشهيد صار متعارفاً عليه منذ مدّة زمنية معقولة في تاريخ الشعب الفلسطيني، لكنّه لم يكن في إطار ممارسة للسلطة كما رأينا في المسرحية. على الرغم من المبالغة في تصوير العلاقة بين زوجة الشهيد وشقيقه إلّا أنّها جاءت متناسقة مع بقية عناصر المسرحية التي تميّزت بقلّة عدد شخصياتها. البُعد التاريخي للعلاقة بين الشخصيات كان حاضراً طوال فترة العرض، وهي مهمة صعبة برع كاتب المسرحية «غسّان ندّاف» في ثنيها طوعاً لرؤيته الفريدة لها. يتحوّل الصراع الداخلي لدى وليد إلى صراع خارجي متفجّر تشترك فيه شخوص المسرحية كافة. رغبة وليد الجامحة بأن يكون «وليد وبس» متجاوزاً لقب «وليد ابن البطل»، قلبت كافة المعايير التي لطالما حكمت شخصيات العمل في ما سبق. استغلال العم أتاح لنا أن نشاهد الصراع مكشوفاً وواضحاً، لكنّه لم يترك لنا المجال لنحكم بسرعة على أي من الشخصيات. ولعل هذا كان أهم ما قدّمته مسرحية «وجهة سفر».
الموقف ضبابي في بدايته، ويحتاج لمزيد من المتابعة كي تستطيع الحكم جيداً. هل يُلام وليد على موقفه من ترك البلاد والهجرة؟ وهل يمكن وصف العم بأنه نذل بهذه السهولة وهو العاشق القديم لليلى؟ هل على ابن الشهيد أن يعيش في ظل أبيه أبد الدهر؟ إن العمل الذي يتركنا بأسئلة من هذا النوع يكون قد حقق رسالته كعمل فني.
جاءت نهاية المسرحية غير متوقعة، وعاطفية ربمّا، إلّا أنها راقت للجمهور الذي انفجر تصفيقاً، وكأنه قد أصبح هو أيضاً جزءاً من المسرحية بأن قام بإعلان موقفه من الطريقة التي يجب على وليد أن يسلكها في نهاية المطاف.
يخطّط أعضاء الفريق الآن لتكرار عرض هذه المسرحية، محققين بذلك قرارهم الشخصي هم أيضاً بين الاستسلام لإغراء النمطية أو الدفع باتجاه حريتهم الفنية المطلقة. من هنا يأتي هذا النص كجزء من مشاركة «الجمهور» للحث على الخيار الثاني.
المصدر : إسلام السقّا - السفير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق