مجلة الفنون المسرحية
مرَّ المسرح العراقي بمراحل كثيرة، ابتداءً من المسرح الطقسي في الكنائس، وصولاً إلى المسرح التجريبي الذي ابتدأ مع ثمانينيات القرن الماضي، ومن ثمَّ مسرح الضوء الذي قدّمه الفنان صلاح القصب.. ومع كل مرحلة من مراحله هذه يطرح طرائق عرض جديدة ومغايرة عن المراحل السابقة، تبعاً للفنانين الذي يقدمونه، وتابعاً للمرحلة السياسية التي تؤثر فيه تأثيراً مباشراً.
مسرح ما بعد عام 2003 كانت له طرائقه الجديدة أيضاً، فطوَّر فنانون امتدادهم في العروض ورؤاهم، وظهر فنانون شباب كانت لهم طرائقهم في هذه العروض، وربما كان لاختلاف الكتابة المسرحية في العراق تأثير مباشر على ذلك، فكانت لنصوص علي عبد النبي الزيدي ومثال غازي وغيرهما تأثير واضح على تغير طرائق العرض أيضاً.. فضلاً عن إدخال تقنيات جديدة اهتمت بالجسد والسينوغرافيا والإضاءة، فكانت أعمال مثل «ساعات الصفر» لحازم كمال الدين التي عرضها عام 2003 التفاتة مهمة لتقنية الجسد ولأهميتها بالنسبة للفنان والمتلقي في الوقت نفسه، إضافة إلى أعمال أخرى قدمت مؤخراً مثل مسرحية «تحوير» للفنان مصطفى الركابي الذي أشرك العرض التلفزيوني والسينمائي في العرض المسرحي، ما أدى لتقسيم خشبة المسرح إلى أكثر من خمسة أقسام، كل قسمٍ يقدم وجهة نظر مغايرة للأقسام الأخرى. فما الجديد في طرائق العرض المسرحي العراقي؟ وما الذي اختلف في هذه الطرائق قبل عام 2003 وبعده؟
تحرر العرض
منذ تأسيسه قبل قرابة 140 عاماً لم يعمد المسرح العراقي إلى الانفتاح الكامل على المدارس والاتجاهات المسرحية وأساليب العرض، ما أوقعنا في أغلب الأحيان في ما يمكن تسميته بالتخندق أو التعصب الأسلوبي، في حين أن المسرح بطبيعته ميَّال إلى التنوع والتجديد في أساليب وطرائق عرضه.
الفنان المسرحي حسين علي هارف يشير إلى أن المسرح العراقي بدأ بالمسرحيات ذات الطابع الديني والتبشيري في الموصل، واعتمد المسرحيات التاريخية ذات المضمون الوطني والقومي الحماسي خلال العقود الأولى من القرن الماضي حتى منتصف الخمسينيات، ثم تحول إلى المسرحية الشعبية ذات الطابع الكوميدي الساخر ولمضامين سياسية نقدية. ويبين هارف أن المسرح العراقي استمر في تلقي أساليب العرض متأثراً بالاتجاهات والفلسفات الوافدة كالوجودية والعدمية واللامعقول، فظهرت مسرحيات العبث والوجودية ذات الطابع الفكري والفلسفي إبان عقد الستينيات، وربما يكون الانفتاح الأكبر نسبياً على أساليب العرض قد شهده عقد السبعينيات الذي شهد تنوعاً أسلوبيا فيه، إذ بدأت بوادر المسرح التجريبي والانفتاح على المسرحيات العالمية والعربية وظهرت العروض ذات الطابع الملحمي (البرشتي) والاجتماعي والتاريخي والسياسي مع ظهور تأسيسي للمسرح الكوميدي الشعبي الذي ازدهر كثيراً في عقد الثمانينيات إبان الحرب العراقية الإيرانية.
أما بعد عام 2003، فيرى هارف أن المسرح العراقي وجد نفسه أمام نقطة تحول ثقافي واجتماعي وفي فضاء واسع من الحرية، لكنه أيضاً وجد نفسه أمام رقيب اجتماعي وتحولات سياسية وثقافية كبيرة قرر مواجهتها والاصطدام بها، من خلال أساليب عرض أكثر إمتاعاً وجرأة ووضوحا، فما عاد التشفير والإسقاط والترميز مجدياً، وما عاد خطاب المسرح الجاد وحده كافياً، وما عاد الحوار والكلمة والثرثرة على خشبة المسرح مؤثرة ومقنعة وهذا ما شجع على الانفتاح على أساليب عرض جديدة ومتنوعة ابتعدت عن التشفير والإسقاط باتجاه المواجهة المباشرة في نقد وتعرية الظواهر الاجتماعية والسياسية بكثير من الجرأة. وحسب هارف، فإن أبرز ما لجأ إليه المسرح العراقي من جديد في أُسلوب عروضه بعد عام 2003 التركيز على الشكل الفني والسينوغرافيا والجسد من خلال عروض الجسد والدراما دانس، وبالتالي تحرر المسرحيون العراقيون من فكرة التمسك بأحادية الأسلوب ونبذ الأساليب الأخرى، فالمسرح مسارح واتجاهات، ولكل أُسلوب عرض أهدافه وجمهوره والحاجة قائمة ومستمرة للمزيد من التنوع في أساليب وطرائق العرض المسرحي.
كوميديا سوداء
فيما يرى الفنان والمخرج كاظم النصار، أن ما تغير في المسرح هو النظر إلى المعطى النصي… مبيناً أنه لم تكن هناك مراقبة أو منع للطريقة ولا للأسلوب سابقاً، بل كان المستهدف هو النص والمضمون، ومن خلال هذا استطاع المسرحيون تمرير شيفرات معينة، غير أن الطرائق هي ذاتها والأساليب هي نفسها. ويوضح النصار أن الذي تطور فعلياً هو النظر إلى المشكلات العراقية وتقديمها من دون خوف، والحديث عن الملفات السياسية والظواهر وما يتبعها من تأثيرات اجتماعية، غير أن الذي طغى أسلوبياً اليوم يكمن في تجليات المسرح السياسي المباشر وغير المباشر وتراجع الهوس البصري، إذ ثمة تبدلات سياسية حادة جرت بعد عام 2003، ومن ثمَّ ما سمي بالربيع العربي، وثمة خيبة وانتظار مجهول يطغى على العروض وثمة مزج لأساليب متنوعة وطرائق عرض شرط توفر نظام ونسق يحكم تلك العروض.
ويعترف النصار أنه ليس هناك تبدلات حادة في طرائق العرض، «شخصياً انتقلت من الانشغال الكلي بالبنية البصرية إلى المضامين، شرط توفر معطى عرضي متطور، وصار همي أن أقدم الأزمة العراقية عبر أسلوب الكابريه السياسي، الذي لم أجرؤ سابقاً على تقديمه لأنه يتعامل مع المحاذير السياسية، لكن عبر أسلوب الكوميديا السوداء، الذي يوفر لنا فضاءً واسعاً لنقد الأوضاع بطريقة أفضل، فضلاً عن أن له مقبولية في التلقي العربي».
مأزق معلوماتي
غير أن المجتمع العراقي يسبق العروض العراقية بخطوة دائماً، وهو ما يكشف عنه المخرج المسرحي مصطفى ستار الركابي، مبيناً ذلك أن المخرج العراقي دائماً يتعامل مع العرض نتيجة لتجربته كفرد منتمٍ لمجتمع، أي أن ما يصل إليه المجتمع اليوم نراه غداً في قاعات العرض.. عكس أغلب التجارب العالمية التي تأخذ على كاهلها الخوض في أمور يغفل عنها الأعم الأغلب من المجتمع، لذلك، فإن التركيز على اختلاف طرائق العرض المسرحي قبل عام 2003 وبعده هو تركيز بالضرورة على القفزة الاجتماعية العامة، فالثورة المعلوماتية جعلت العرض المسرحي العراقي أمام مأزق صوري ومعلوماتي رهيب وأمام منافسة لم يعهدها من قبل وبشكل سريع صار المتلقي المسرحي أمام كمٍّ كبير من العروض العالمية، فلطالما اعتمد المتلقي المهتم على مادة مكتوبة عن عروض المسرح العالمي وكل المواد المكتوبة تخضع للقراءة نفسها وفق التخيل العراقي.. لذلك فإن أهم الدوافع للاختلاف يمكن تلخيصها بـ»طموح جديد للعرض المسرحي» إذ أصبح العرض المسرحي في محاولات مستمرة ليدرج نفسه كمادة مصورة يمكن تسويقها للعالم بعدما كان ينظر للتصوير بوصفه عملية توثيق للأرشيف والدراسة لا أكثر.. وهنا يخطو العرض المسرحي خطوة كان قد سبقه فيها المجتمع الذي انفتح على العالم، وصار يبحث عن مكانته بالنسبة إليه، أي أننا أمام طموح جديد للعرض المسرحي العراقي بعيد عن الطموح المحدود قبل عام 2003، طموح الشاشة، طموح التسويق، ومن هذا المنطلق نرى المخرج المسرحي العراقي منفتحاً، يحاول أن يطلق عرضاً مناسباً للشاشة باختلاف أنواعها.. ومن خلال الشاشة نحكم على العرض ونطوره وننطلق به إلى زي جديد يبدو أجمل في الشاشة ويشبه أزياء ممثل الدراما وإضاءة جديدة تبدو أكثر وضوحاً، وموسيقى جديدة تبدو أكثر تأثيراً بسماعها بسماعة الأذن، وكل مكملات العرض تخضع لتأثير الشاشة، كي يجد العرض لنفسه شكلاً آمناً يسوّقه للعالم، و»هنا أعود للمجتمع مؤكداً أنه سبق العرض المسرحي بهذه الخطوة ويمكن أن نرى ذلك من خلال متابعة طموح العراقي لتسويق نفسه عبر شاشة الهاتف للعالم ككل، وإدارة نفسه وشكله وتصرفه وفق معايير تسهل عليه التسويق كفرد».
تقنيات الانفتاح
وبحسب الشاعر والمسرحي عمر السراي، فإن العلم قد دخل بصورة أكبر على مستوى التقنيات المسرحية والعراقية منها على وجه الخصوص، فالانفتاح الذي شهده الفنان المسرحي وهو يتواصل مع العالم ويسافر، ويطلع أفاده في نقل تجارب واعدة وحديثة، فضلاً عن قدوم عدة فرق لتقديم مسرحيات على أرض العراق، فصرنا نشاهد نصوصاً بصرية تنافس بالسينوغرافيا النص الأساس المكتوب ورقياً، ولعلَّ جانبي الإضاءة والصوت من أبرز ما تم تطوره، فدخول عناصر موسيقية تجيد التأليف والتوزيع مستعينةً بالتقنيات الحديثة أفاد المسرح، كذلك دخول خبراء إضاءة من أكاديميين وفنانين جدد بانت خطواتهم واضحة في مجال العرض المسرحي، وعلى الرغم من فقر بعض المسارح العراقية للوسائل الحديثة، غير أن عملية التداخل الإجناسي بين استخدام تقنيات السينما والمسرح مجتمعين ظلَّ حلماً للفنان المسرحي، إلى أن استطاعت بعض العروض تجسيده، خصوصاً في اقتناص مشاهد الفعل ورد الفعل، وفي الإعتام الجزئي والظهور والتلاشي المتدرج، وهو ما لم يكن سائداً سابقاً، فضلاً عن وجود مسرحيات استطاعت أن تكون عروضاً للأداء الموسيقي مع الكيروغراف وأداء الجسد، حيث الموسيقى هي التقنية الأبرز بعيداً عن عوامل النص اللغوي، كل ذلك صار متاحاً بسبب التطور والانفتاح والاطلاع على تجارب حديثة أوروبياً وعربياً.
قوانين العشيرة
من جانب آخر، يقول الباحث في المسرح؛ حيدر الأسدي، إن المسرح منظومة كاملة وليس عرضاً عيانياً وحسب، بل ثمة مؤلف للنص ومؤد (ممثل) وثمة مخرج وهناك السينوغرافية، ولأننا بعد التغيير 2003 منحنا فسحة من الحرية والديمقراطية أثرت بصورة كبيرة على المضامين التي تطرحها النصوص المسرحية، وتغيرت المواضيع المسرحية بصورة عامة وظهرت عروض تتحدث بحرية عن كسر التابو بفضل فسحة الحرية التي منحت للمؤلفين، وبالتالي في الوقت ذاته انسحب الأمر على الأداء التمثيلي وتأثيث فضاءات الخشبة والرؤية الإخراجية، كما أن العديد من المشتغلين في ميدان المسرح حاولوا أن يسحبوا المسرح لرؤاهم التجريبية وظهر ما يصطلح عليه بمسرح الجسد الدرامي بفضل انفتاح الشباب العراقي على الفن العالمي والاشتراك في ورش عمل عربية، دخل ميدان المسرح والمكتبة المسرحية ما يصطلح عليه بمسرح الجسد أو الكريوغراف، وبات الأمر يشكل حضوراً طاغياً في أغلب العروض حتى تلك العروض التجريبية التي تعتمد على الحوارات أو عروض المونودراما. مضيفاً: ولعل أبرز الأخطاء التي دخلت مسرحنا ما بعد التغيير هي ضعف النصوص المنتجة والعروض المنتجة بسبب غياب الرقابة، ففضلاً عن إتاحة الحرية في مجال التعبير للمؤلفين، غير أن غياب الرقابة أخرج عروضاً مسرحية ركيكة لا تليق بمستوى ما قدمه رواد المسرح العراقي أمثال حقي الشبلي وإبراهيم جلال وآخرين، كما أن ما بعد التغيير شهد فتح كليات متخصصة في المسرح، ما أفسح المجال لانتشار واسع لدراسة الفنون، لكن هذا لم يقدم شيئاً للمسرح العراقي، ما أدى إلى سيادة الكمي على أساس النوعي، خاصة غياب العنصر النسوي في المسرح ما بعد عام 2003 بفضل السلطة العشائرية التي تهيمن على العوائل في العراق والتي تعد الفن ترفاً ومضيعة للوقت في غالب الأحيان. ويشير الأسدي إلى أن ما تغير حتماً هو إتاحة الفرصة للعديد من الفرق الأهلية لتقدم عروضها المسرحية، غير أن هذا كان على حساب النوعية التي بقيت غائبة طوال السنوات السابقة، إلا ما ندر من عروض مسرحية، كما يمكن تسجيل كثرة المهرجانات في الفترة الحالية عكس السابق وكثرة صدور كتب تخص الواقع المسرحي على عكس السابق أيضاً.
-------------------------------------------
المصدر : صفاء ذياب - القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق