مجلة الفنون المسرحية
فرحان عمران موسى
فرحان عمران موسى
منذ اكثـر من اربعمئة عام يعاد تقديم نصوص شكسبير في كافة مسارح العالم ، أما بالمكون النصي الشكسبيري نفسه ، أو بإسقاط فرضيات الواقع العصري او انه يقدم بطريقة التناص ، مرة تناص اقتباسي ، ومرة تناص موازٍ ، وتعدد الرؤى الاخراجية على مر القرون ... ما سر خلود مسرحيات شكسبير لهذه القرون الأربعة .؟
يُرجِع البعض أسباب خلود مدونات شكسبير كونها امتازت بشكل درامي عالي المستوى ، مقابل مضامين بسيطة وسهلة ومطواعة للتأويل في كل العصور، فالشكل والمضمون في المكون النصي الشكسبيري لا يتوازيان ، علما ان معظم مسرحيات شكسبير مستلة من حوادث تاريخية ، فالثيمة الدرامية مرتبطة بحادثة تاريخية ، وبما ان الوجود مرتبط بقوة التاريخ فأرخنة الحوادث ومسرحتها عند شكسبير تمتا بالشكل الدرامي الأسطوري المُتقن والرصين وبالمضمون السهل اليسير ، وليس السهل الممتنع الذي لا يمكن تقليده او مضاهاته ، مثل مضمون مسرحية ( دكتور فاوست) لمعاصره (كرستوفر مارلو) التي امتاز مضمونها بالسهل الممتنع .. ولذلك أضحت مدونات شكسبير ضمن السرديات الكبرى في العالم وقدمت وطرحت بمضامين كثيرة ومتعددة ، فتقانة الشكل وطرازيته وانقياد المضمون وخضوعه لقراءات متعددة جعل من سرديات شكسبير الأكثر تقديما في المسرح العراقي . والمضمون عند شكسبير يمتلك دلالات عائمة تلك التي تسعى الى التثبت وتفكيك النص وتغييب المعنى الحقيقي حسب ( جاك ديريدا) ، بينما الشكل هو البنية العضوية للنص الدرامي ، وفي العرض المسرحي تُختزل الى مدرك بصري يتشكل من علامات وايقونات فائقة التحول، والشكل حسب ( باسم الأعسم ) يمتلك طاقة تأثيرية لا يستهان بها في التعبير عن المحمولات الفلسفية والجمالية والفكرية ، وهذا ما جعل اغلب - ان لم يكن كل المخرجين - يسعون الى تقديم مدونات شكسبير ... فيما يجد البعض ان أسباب خلود مدونات شكسبير يعود الى اللغة الشعرية والفخامة اللغوية المتعالية بالإضافة لما تحمله من مكنونات نفسية عبر المنلوجات الشخصية التي ظهرت قبل أوان الدراسات النفسية وكتابات ( ديستوفسكي ) بمئات السنين .
يسعى الخطاب الجمالي في مسرحية ( خيانة ) وفقاً لمفاهيم ما بعد الحداثة الى تقويض وتحطيم المقولات المركزية الكبرى في المتناول الذهني للمتلقي والمتمثلة بسرديات شكسبير ، أي بمعنى تعرية الخطابات القديمة السائدة ، وذلك باستخدام الاختلاف والتضاد والتناقض، وبهدف توحيد الخطابات والنصوص أحيانا ، اذا ما نظرنا لفلسفة ما بعد الحداثة فإنها تتجه ضد النظام والانسجام ، كما أنها تعارض فكرة ( الكلية ) وتدعو الى التعددية واللانظام وتفكيك ما هو منظم ومتعارف عليه ، فهي بذلك اتخذت موقف مشكك من السرديات الكبرى حسب قول ( دافيد كارتر ) في كتابه ( النظرية الأدبية ) ، أذ يرى ان ما بعد الحداثة تأخذ موقفا متشككا بشكل جوهري لجميع معارف البشرية ، وخصوصا تلك التي تنتج الحقائق من سرديات لغوية واستند بذلك على ( جان بودريار ) الذي يجد ان الحقائق الكامنة في السرديات الكبرى لا يمكن تمييزها لأنها مرتبطة بأخطاء اللغة وأوهامها وأنها تمارس الخداع والتضليل وتشهد غياب المعنى ، كونها وثيقة الصلة بالخطأ والظن والمبالغة المجازية ، فالصورة اللغوية عائمة بشكل حر ضمن دلالاتها ، وبالرجوع لسرديات شكسبير التي اعتمدها عرض ( خيانة ) ، فإن (مكبث) إنسان بكل ما تحمله الإنسانية ، ولكن زُجَ مرغما نحو الخيانة والجريمة .. ( إن نفسي مليئة بالعقارب ... ) و ( ليس العبرة ان تكون ملكاً بل العبرة ان تكون آمناً .. ) و(ريتشارد الثالث) صاغ هدفه نحو العرش لامتلاكه الذهنية الفذة مقابل خذلان الطبيعة الجسدية المسخ التي قادته نحو الشر ، ( أنا الذي خُلقَ على عجل .. ولم يؤتِ من جمال المحبين .. أنا الذي زيفت الطبيعة الخادعة بُنيتهُ .. أنا المشوهُ المنقوصُ الذي أُرسِلَ قبل الأوان الى هذا العالم النابض بالحياة .. أنا الذي تنبحه الكلاب اذا وقف عليها .. فلأكن شريراً ما دمت لا أصلحُ للحبِ .. )، وإن ( هاملت ) نفذ إرادة الانتقام وفق شكوك وهلوسات نفسية دون الإمساك بأي دليل لخيانة عمه ، ( هوراشيو هل هذا وهم ام حقيقة ما أرى .. ) ، وإن ( يوليوس قيصر ) ما كان سوى دكتاتور منفرد بالسلطة وحسب الصياغة الشكسبيرية استحق القتل على يدِ رجل حكيم يحب روما من أمثال ( بروتس) ، وان (عطيل) ما كان ليستمر زواجهُ بأميرة تشع بياضا وعفة وايمانا ورجاحة عقلٍ مثل ( دزدمونة) وهو يتمتع بعقلية يشوبها المرض وقلة الدراية وليس سوى انه يتمتع بشجاعة متهورة ، ( ياغو : سأقتادهُ من أنفهِ كما يُقتاد الحمار .. ) ، وكذلك الملك (لير) ما كان ليهنأ بحياتهِ وهو لا يعرف مستوى تفكير بناتهِ الثلاث ، فكيف بمعرفته بمملكة مترامية الأطراف .. كان يجب إن تتملق السلطة عنه ويتحول من ملك الى شحاذ ، ( لير : أما من نجدةٍ .. إن إنا الا أضحوكة الدهر .. جيئوني بجراحين .. اني مُجرحٌ حتى الدماغ .. ) .
تحرك الخطاب المسرحي على مستويين ، المستوى الشكسبيري والمتمثل بعمالقة شكسبير ، ( هاملت ، مكبث ، عطيل ، لير ، ريتشارد الثالث ) كتوليفة مفترضة استدعاها المخرج ( جبار جودي ) بعد تهشيم مفهوم البنى المستقلة وكمسوغ ثيماتي من متون النصوص الشكسبيرية وهو بذلك يحذو باتجاه مريدات ما بعد الحداثة في تهشيم البنى المستقلة ، ليقابل بها المستوى الثاني المتمثل وبمجسدات إرسالية بصرية (الشاشة الخلفية ، العرض الفيديوي اعلى المسرح ، الفعل المسرحي من الواقع المحلي ) وقد احتوت تداعيات خيانة الوطن المعذب وكل جرائم القتل وتفجير الضحايا ، كل تلك الايقونات جسدت مراحل أوجاع الوطن واغترابه وصولا الى تفجيرات (الكرادة) ، وحاول المخرج ان يحايث بين مردودات الخيانة عند شكسبير الى الواقع المحلي العراقي ، مستعينا بذاكرة التاريخ وباستدعاء شخوص الخيانة ليعيد ترتيب خطابه من ضحايا شكسبير الى ضحايا الكرادة وهذا الاستدعاء تم بلوجستية ( الممثلين ذوي البدلات السود ) انها عملية إعادة ترتيب السلوك الإنساني من الناحية الفكرية ، اما من الناحية الفنية فان التحول من الشكسبيري الى المحلي جاءت متعجلة في المنحى الجمالي لخارطة العرض المسرحي ، اذ بدا الخطاب المسرحي مُتحاشيا إيجاد الرابط والتماثل الجمالي بين المستدعى الشكسبيري والواقع المحلي العراقي ، بمعنى ان المحتوى الجمالي تخلى في إنشائيته من خلق التناص الدرامي بين الواقعة الشكسبيرية وبين فضاء العرض المفترض ، وتركها بقصدية لأمرين الأول لمدركات وعي المتلقي في تأسيس تعددية القراءات والامر الثاني : ان تهشيم هيكلية النظام التناصي جاء كأحد الاستنادات التي ارتكزت عليها تيارات ما بعد الحداثة ، الا ان الطاقة الجمالية المُرسلة من الخطاب في استدعاء الثيمات الكبرى لشكسبير تعالت جماليا فيما اتجه الخط البياني للطاقة بالنزول بفقدان القرين الجمالي في افتراض الواقع العراقي ، والمقصود بالطاقة هنا تلك الطاقة الارتوية ( انتونان آرتو) التي تدب دبيب ( الطاعون ) لتسري وتنتقل كالوباء من الخشبة (الفعل المسرحي) الى الصالة (المتلقي ) ليتم كشف زيف الأقنعة وبؤس الرياء المجتمعي المراد ايصاله عبر فرضية الخطاب ، بيد ان الخطاب الجمالي عند ( جبار جودي ) تنفس روح العصر ومحلياته واكتفى بخلق جمالية الشكل الفني الجديد (خطاب العرض) ولم يقترح منحى فكريا جديدا للمكون الشكسبيري ، إذ لابد لكل شكل جديد يقابله مضمون جديد يلامس وجدانية المتلقي ويبرر الاستدعاء لمدونات شكسبير الكبرى ، وإن بدا هذا التحول المحلي يثير استئناس المتلقي العراقي ‘ الا إنه ظل في عوز جمالي درامي لتحول ( دزدمونة ، ليدي مكبث ، اوفيليا ) الى بائعات في الأسواق الشعبية.
يتبع
--------------------------------------
المصدر : المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق