مجلة الفنون المسرحية
مسرح الشرق الأوسط في مهرجان أفينيون السبعين
د. صبري حافظ
مسرح الشرق الأوسط في مهرجان أفينيون السبعين
د. صبري حافظ
شكلت العروض المسرحية في مهرجان أفينيون نوعًا من إخراج أفضل ما في جعبة الفن المسرحي المعاصر من مفردات مشهدية وحركية ساهمت في إثراء لغة العرض المسرحي، وفي تعزيز الاتجاه المتنامي الذي يستوعب فيها الكثير من مفردات لغة السينما، وإمكانيات الكاميرا والفيديو، والتصوير اللحظي لما يدور على الخشبة وتكبيره على شاشات ضخمة في خلفية المسرح. وقد مكنت هذه اللغة المسرحية الجديدة المخرج من بلورة لغته الخاصة التي تساعده على طرح تأويلات متعددة للنص المسرحي الذي يعرضه على الجمهور من ناحية؛ كما ذللت الكثير من العقبات التي كانت تحول دون اشتغال المسرح على النصوص الروائية الكبيرة.
لذلك لاحظت أن عددًا من أعمال مهرجان هذا العام الكبيرة التي انشغل بها كبار المخرجين اعتمدت على روايات كبيرة، كان أبرزها بالقطع رائعة دوستويفسكي العملاقة (الاخوة كرامازوف Karamazov) التي أخرجها جان بيلوريني Jean Bellorini واستغرق عرضها خمس ساعات ونصف في محجر بولبون Carriere de Boulbon بفضائه المتميز، فقد نصب المخرج على الخشبة قضبان سكة حديدية تماثل تلك التي كانت تستخدم في المحجر لنقل الحجارة، ولكنها تُستخدم هنا في تحريك أجزاء المشهد، وعليها أدواته وممثلوه، لتجسد لنا جدلية البعد والقرب بين حيوات الإخوة الثلاثة (ديمتري وإيفان وإليكسي/ أليوشا) حيث أبقت الأخ الرابع غير الشرعي غائبًا عن المشهد، لأكثر من نصف زمن العرض. ورواية (2666) للكاتب التشيلي الذي رحل مبكرا روبرتو بولانو (Roberto Bolano (1953 – 2003 ويعده الكثيرون أهم كتاب جيله في أميركا اللاتينية، وهي روايته الأخيرة، ويزيد عدد صفحاتها في ترجمتها الإنكليزية عن ثمانمئة صفحة. وقد استغرق عرض المسرحية المأخوذة عن هذه الرواية الشهيرة 12 ساعة، وكأنها تعود بالمسرح إلى مهده الأول حينما كان يستغرق عرض ثلاثيات المسرح الأغريقي الكبيرة لأسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس يومًا بأكمله.
كما استمد عرض (من يخطئون لا يكونون على خطأ Ceux qui Errant Ne Se Trompent Pas) من رواية (وضوح Lucidite) لخوزيه ساراماغو. وعرض (ميدان الأبطال Place Des Heros) الذي استمر لأربع ساعات ونصف وأخرجه المخرج الشهير كريستيان لوبا Krystian Lupa فقد أُخذ عن رواية توماس برنار Thomas Bernhard المعروفة بهذا الاسم. لكن أحد أبرز عروض مهرجان هذا العام وأكثرها إثارة للدهشة والمتعة معا، والذي يعد إضافة إلى الإبداع المسرحي المعاصر، كان عرض (الملعونون Les Damnes) المأخوذ عن سنياريو فيلم لوتشيانو فيسكونتي Luchino Visconti، الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، وأخرجه المخرج الهولندي إيفو فان هوفاIvo Van Hove لفرقة "الكوميدي فرانسيز" الكبيرة في باريس، ولكنه إخراج مصمم خصيصًا للعرض في أكبر فضاءات المهرجان وأشدها مهابة، ألا وهو فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي Cour D’Honneur du Palais des Papes ومسرحها الضخم الذي يمتد طوله لأربعين مترًا، ويزيد عمقه عن العشرين. وقد استخدم العرض بمهارة إبداعية ملحوظة رحابة تلك الخشبة، ومهابة المبنى الذي يشكل ظهارا لها لإضفاء أبعاد جديدة على تأويله المعاصر لنص فيسكونتي، ودخل بعرضه في نوع من الحوار، أو المباراة البصرية مع هذا الفيلم المتميز ومع لغة فيسكونتي البصرية المتقدمة.
الشرق الأوسط في أفينيون
حظي الشرق الأوسط بمحور النظرة الخاصة، أو المحور الجغرافي، لمهرجان هذا العام فاستضاف المهرجان مجموعة من العروض تحت هذا العنوان، كان أولها المسرحية السورية (بينما كنت أنتظر Alors Que J’Attandais ) لمحمد العطار التي عرضت ست مرات، ثم العرض القادم من دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين بعنوان (إسحق رابين: وقائع اغتيالYitzhak Rabib: Chronique d’un Assassinat) لعاموس غيتاي، الذي عرض لليلة واحدة، ولكن في أكبر فضاءات المهرجان، وهي قاعة الشرف بالقصر البابوي. ثم العرض الراقص (فاطمة Fatmah) لعلي شحروري من لبنان وعرض لثلاث ليالٍ في فضاء دير السليستين الجميل، ثم العرض الإيراني (شنيدن أو بالسمع Hearing) الذي عرض لخمس مرات في مسرح بنوا الثاني عشر، ثم عرض راقص آخر لعلي شحرور بعنوان (موت ليلى Laila Se Meurt) وعرض لأربع ليالٍ في نفس الدير، وأخيرًا عرض بعنوان (99) لمارك نمور Marc Nammour عُرض لليلة واحدة ويوصف بأنه عرض من باريس والقاهرة ونيويورك وبيروت.
تجيء المسرحية الإيرانية "شنيدن" في رتبة متقدمة من حيث قوة الموضوع وجماليات العرض المسرحي معًا. وإن كنا هنا بإزاء مسرحية من نوع النص الذي يتبلور على الركح – كما يقول التوانسة – لأن مخرج العرض أمير رضا كوهستاني Amir Reza Koohestani هو كاتبه أيضًا، وقد طور صيغته النهائية مع الممثلات على الخشبة. فهو مخرج مهتم بالجانب الوثائقي في المسرح . وكان قد قدم عددًا من المسرحيات التي تهتم بتوثيق جوانب بسيطة من الحياة اليومية في إيران، كما يفعل كثير من مخرجي السينما الإيرانية الجديدة التي تميزت بجماليات البساطة والتقشف والقدرة على خلق عوالم استعارية شفيفة تواجه بها سطوة الموانع والمحرمات.
ويوشك العنوان الفارسي "شنيدن" الذي ترجمه المخرج إلى العنوان الإنكليزي سمع أو بالسماع، أن يثير مجموعة من أطياف السمع؛ من الهمسات والإشاعات والأقاويل والتكهنات وغيرها مما ينجم عن خبرة سماعية غير واضحة وغير نزيهة في الآن نفسه، ولكنها قادرة على اقتناص الشخصيات في شبكتها المدوّخة والمتشابكة بكل ما يدور في الواقع المحيط. ومع أن المسرحية ليست بأي حال من الأحوال مسرحية سياسية، فإنها تعكس ثقل المناخ السياسي المغلق في إيران، ومدى قدرته على تسميم العلاقات الإنسانية، وتدمير الكائنات الهشة التي لا تبغي غير الاستمتاع بالحياة البسيطة. وقد كانت البساطة والتقشف الجمالي هي العلامة المميزة لهذا العرض، فقد جرى على خشبة فارغة كلية من أي أثاث أو إكسسوارات، ليس عليها أي شيء سوى الممثلات الثلاث اللواتي يتوافدن إليها واحدة بعد الأخرى، ونادرا ما تجتمع عليها أكثر من واحدة. وكان في خلفية تلك الخشبة الفارغة شاشة عريضة تنعكس عليها بعض الصور التي تلتقطها في بعض المشاهد كاميرا مثبتة على رأس إحدى الممثلات.
الواقع الإيراني ملهِمًا
ويخبرنا المخرج أنه استمد إلهامه في عمله على هذه المسرحية من الحياة اليومية، وخاصة مما روته له خطيبته عن حياتها في المدرسة الداخلية، ومن فيلم وثائقي معروف للمخرج الإيراني الأشهر عباس كياروستامي، هو (الواجب المدرسي Homework: مشق شب) عام 1989عن اتجاه التلاميذ إزاء الواجب المدرسي، وكيف كان كثير من التلاميذ يشعرون بالخوف من مجرد سؤالهم عن حياتهم المدرسية الصارمة، وعن رعب بعضهم من مجرد السؤال عن واجباتهم المدرسية، وتحديق بعضهم في الكاميرا أو في سقف الغرفة، وكيف أن مراهقي هذه الفترة ملأهم الرعب من أسئلة المخرج الوثائقي البسيطة. وقد أخبرته خطيبته أن المدرسة الداخلية مثل السجن في مدى تأثيرها على حياة المقيمات بها. لأننا هنا بإزاء ثلاث بنات في مدرسة ثانوية داخلية سممت الهمسات والأقاويل حياتهن، حتى دفعت إحداهن إلى الهرب من البلاد إلى السويد ثم الانتحار حينما لم يُقبل طلبها للجوء السياسي.
وتوشك المسرحية أن تكون استعادة لما جرى في إحدى مدارس البنات الداخلية في إيران بعد عدة سنوات من وقوعه، وبعد أن تفاقمت نتائج ما جرى واتضحت هشاشة القواعد التي ينهض عليها اتهام شخص ما وتدمير حياته. فبرهافة مشهدية محسوبة تكشف الأصوات عن نفسها من خلال استجواب بنتين، في لحظة يعود فيها الحاضر إلى الماضي. حين بقيت حفنة صغيرة من التلميذات في المدرسة الداخلية التي تقيم بها عادة ستون طالبة، بعدما غادرتها معظم التلميذات لقضاء عيد السنة الجديدة مع أسرهن. ومن بين البنات اللواتي بقين صديقتين حميمتين هما ندى وسامينة، وقد شاءت سامينة في ليلة رأس السنة أن تذهب إلى غرفة صديقتها كي لا تتركها وحيدة، أو كي تهرب هي نفسها من ثقل وحدتها؛ ولكنها حينما اقتربت من الغرفة سمعت صوتا رجاليا فيها، وسمعت ضحكات ندى مع من اعتقدت أنه رجل في غرفتها، وكانت تعرف أن لندى صديقاً ملتحياً. فتراجعت ولم تدق باب الغرفة، وكُتب بعدها تقريراً عما جرى، يتهم ندى بأنها أدخلت رجلا إلى المدرسة الداخلية، وقد تخفى داخل "شادور" أي العباءة النسوية الإيرانية حتى يمر على الغرف الستين دون أن يكتشفه أحد. وبدأ التحقيق مع البنتين. خاصة أننا سرعان ما نعرف أن أمر المدرسة الداخلية قد أوكل أثناء تلك العطلة، لواحدة من أكبر التلميذات سنا وأكثرهن تقدما في مرحلتها الدراسية. وأن هذه الطالبة نفسها قد تركت المدرسة في الليلة المقصودة، وباتت خارجها خلافا لما تتطلبه قواعد المدرسة من ناحية، وما تمليه عليها واجباتها تجاه الأخريات من ناحية أخرى.
وتأخذ المسرحية بجمالياتها البسيطة التي توشك أن تكون مستقاة من جماليات السينما الإيرانية الجديدة، شكل التحقيق البسيط أو النيء في تصور كلود ليفي ستراوس لجدل النيء والمطبوخ. ولكنه تحقيق تأتي فيه الأسئلة من مصدر غير معروف أولا، ولكننا ومع النصف الثاني من المسرحية نكتشف أنه يأتي من ممثلة تجلس في الصف الأول للجمهور، حيث جلست المستجوبة التي لا نكتشفها إلا بعد ما يقرب من نصف زمن المسرحية، بيننا. وكأنها تقوم بهذا الاستجواب نيابة عن الجمهور أو باعتبارها ممثلة له. بصورة تريد المسرحية توريط الجمهور في المسؤولية عما يدور أمامه، وهذا من أهم أبعاد المستوى السياسي فيها. حيث يشارك الجمهور في تلك الطبخة المسمومة التي تتخلق أمامه أثناء المشاهدة.
وينهض التحقيق على أن ندى استطاعت تمكين صديقها من الدخول بطريقة ما إلى غرفتها واستمتعا بالضحك، بينما كانا يشاهدان فيلمًا ما. في حين أن بناية البنات الداخلية بغرفها الستين توشك أن تكون قلعة لا يمكن اختراقها. وحينما جاءت سامينه لتكون مع صديقتها في ليلة رأس السنة، سمعت صوت رجل في غرفتها، وغبطتها على نجاحها في ذلك، ولم تدق على الباب، ومع ذلك فقد كُتب تقرير، وكانت مشرفة المدرسة الداخلية في هذه الليلة غائبة، وهي من معها المفتاح. فكيف دخل هذا الرجل؟ وكيف استطاع المرور في الممشى الطويل المفضي إلى غرفة ندى دون أن يلحظه أحد؟ وبدأت عملية استجواب كل من ندى، وسامينة. فأنكرت ندى أنها أدخلت رجلًا لغرفتها، وأنها كانت تشاهد فيلمًا وتضحك استجابة لمواقفه المرحة. وهو ما يلقي الشك على أقوال من كتب التقرير بناء على سماع صوت، قد يكون صادرًا عن الفيلم الذي كانت تشاهده. وعلى شهادة سامينه التي تشعر بالندم لما تصورته أو قالته. كما أن سامينه تعرف أن صديق ندى ملتحٍ فكيف أمكن إدخاله للمدرسة متنكرًا في "شادور"؟ لا نعرف حقًا ما جرى ولكن هذا الأمر غيّر حياة البنتين جوهريًا وإلى غير رجعة. فقد نُفيت ندى إلى السويد أو هاجرت إليها، وتعلمت ركوب الدراجة هناك بما ينطوي عليه الأمر من استعارة لحرية الحركة. أما سامينه فقد تزوجت الشخص نفسه الذي كان صديقا لندى، الذي اتُهمت بتهريبه إلى غرفتها في المدرسة الداخلية، وأنجبت منه طفلاً، والثاني على الطريق.
وما يعزز الدلالات المتعددة لعملية التحقيق الذي يدور أمامنا مع ندى وسامينه، وأحيانًا مع الطالبة التي كان عليها تولى الإشراف على المدرسة في العطلة، ولكنها خرجت هي الأخرى وباتت في الخارج في خرق واضح لكل القواعد؛ وهي تخفي هذا الأمر وتحذفه من التحقيق والوقائع معًا، لأنها تستخدم السلطة التي أوكلت لها. أقول إن ما يعزز قدرة هذا التحقيق الدرامي البسيط على بلورة تلك الطبخة المسمومة والإيحاء بالدلالات المتعددة لما جرى، هو استخدام الكاميرا التي تمكننا من مراقبة تعبيرات الوجوه على الشاشة في لقطات وجهية قريبة من ناحية، واستدارتها وتوجيهها للجمهور الذي تنعكس صورته على الشاشة أيضًا من ناحية أخرى في نوع من جدل المسؤولية والحقيقة معًا. لأن المسرحية تدور في مستوى من مستوياتها حول معرفة من الذي يقول الحقيقة، فخلال هذا الاستجواب نكتشف مدى تعددية الحقيقة. فقد سمعت سامينه صوتًا، ولكنها ربما قد تكون سمعت وهمًا. وربما يكون الصوت صادرًا عن الفيلم الذي كانت تشاهده ندى.
ثمة التساؤل الذي تطرحه المسرحية حول وضعية هذا الصوت، وحول حقيقة ما نسمع، ودور الخيال أو تعليقه. فقد طوعت سامينه خيالها لما سمعته أو استخدمته في تطويره، وتحويله إلى قصة كاملة أو مخالفة فاضحة للتعليمات. لأن المحرك الأساس للمسرحية هو إحساس سامينه بالذنب الذي استحال كابوسًا، خاصة بعدما دمرت حياة صديقتها.
إننا في واقع الأمر بإزاء مسرح سياسي بالغ الذكاء وله جمالياته الممتعة؛ مسرح قوي قادر على طرح أسئلته حيث كل شيء محسوب؛ مسرح يستخدم جماليات التقشف، ولكنه مترع بالنقد الاجتماعي والسياسي الذي لا يخضع للكليشيهات. يجعلنا مشاركين في شعور الطالبتين بالرعب طوال عملية الاستجواب. ومن علامات الرعب عملية تعديل حجابهن باستمرار، وبطريقة شبه عفوية؛ لكنها كاشفة عن الرعب الداخلي. إن القوة الدرامية للمسرحية ليست فقط فيما هو غائب أو محذوف، وإنما في قدرة الصوت الواحد على أن يخبرنا بقصص متعددة. وما يمكن أن يحدث إذا ما سمعت طالبة صوت رجل في غرفة فتاة أخرى في هذا المناخ الصارم، مع أن المخرج يقدم عمله تحت عيون الرقابة الإيرانية، ولذلك فإن ما يقوله عن المجتمع الإيراني المعاصر يستحق منا التأمل والتفكير.
-----------------------------------------------
المصدر : العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق