مجلة الفنون المسرحية
دنيس كيلي يواجه العنف والعنصرية المتجددة بنص مسرحي مرعب
أبو بكر العيادي
دنيس كيلي يواجه العنف والعنصرية المتجددة بنص مسرحي مرعب
أبو بكر العيادي
عن نص مرعب للإنكليزي دنيس كيلي يعالج قضية العنصرية “العادية” والعنف اليومي الذي يمكن أن يعتري شرائح شبابية، متفتحة في الظاهر وهادئة الطباع وذات سلوك طبيعي، تقدم فرقة “هيرو ليميت” مسرحية “أيتام” على خشبة مسرح “رون بوان” بباريس في إخراج للفرنسية كلووي دابير.
تدور مسرحية “أيتام” عن نص للإنكليزي دنيس كيلي وإخراج للفرنسية كلووي دابير في فضاء عائلي مغلق، يسوده جوّ مرح قبل أن يتحول إلى مناخ قابض تحتدّ فيه المواقف وتتصارع لتكشف عمّا تنطوي عليه النفس الإنسانية من ضيق بالوافد الغريب، وكره للآخر المجهول، فتفسّر ما لا يقبل التفسير وتجد له الأعذار.
وتبدأ بسهرة عائلية بين هيلين وزوجها داني المجتمعين إلى مائدة العشاء، حين يُقبل ليام، أخو هيلين وقميصه ملوث بالدماء، دون أن يبدو عليه أثر الانفعال، إذ اكتفى بالاعتذار على القدوم دون استئذان، ودعوة الزوجين إلى مواصلة تناول عشائهما، وتهوين ما يبدو على هندامه بالزعم أنه حاول إغاثة شاب باكستاني عثر عليه طريح الأرض مضرّجا بدمائه.
ومع ذلك يشي اضطرابه وتشوش أجوبته ووفرة الدم على ثوبه بأنه عائد من مجزرة، وسرعان ما يعمّ الضيق، وتتغيّر نبرة الكلام، ويتحول الحديث إلى استنطاق لمعرفة ما جرى بالضبط، والشابّ يتهرب، ويجيب أجوبة مفككة متقطعة مبتورة شبيهة بأبطال مسرحيات بيكيت، توحي بالشيء دون أن تسميه.
لا يلبث المتفرج على مسرحية “أيتام”، التي تعرض حاليا على خشبة مسرح “رون بوان” الباريسي، أن يدرك أن هيلين وداني يعيشان في حيّ متواضع يزداد الإحساس بالخطر داخله يوما بعد يوم، والأخ، ليام، لا ينفك يدعوهما إلى تركه في أول فرصة، والنقلة إلى حي آخر أكثر أمانا، بعد وفود جاليات مهاجرة ذات تقاليد ولباس ومعتقدات مغايرة، وأن حبّها لأخيها يفوق حبّها لأبي أطفالها، وهي مستعدة لأن تدافع عنه بالمخلب والناب حتى ولو ثبت أنه أذنب.
فليام لم يكن مجرما بطبعه وإنما انساق إلى الجريمة بتأثير الظروف المهيئة، وهيلين، حينما تتأكد من ضلوع أخيها -وكذلك زوجها- في تلك الجريمة الفظيعة، لا تلبث أن تنحاز إليه وتدافع عنه دفاعا أعمى لا يخضع لمنطق، أي أن الإنسان لا يولد شريرا، ولكنه يغدو كذلك، ويكفي أحيانا أن يحوز نوعا من التعاطف الأخوي أو التضامن العائلي اللذين يوضعان في غير محلهما كي ينساق إلى الجريمة والفظاعة.
تلك الشخصيات التي لم تعد تعرف في ما تفكر، ولا من تدين، تغلف عجزها ذاك بحوار يبلغ أقصى حدود العبثية، ويغتلي في ذلك الفضاء المغلق مثل قِدر محكمة السدّ توشك على الانفجار، وقد اختارت المخرجة أن تكون الخشبة وسط الجمهور الجالس حولها في شكل حلقة، خشبة تحدّها حواجز من خشب، للإمعان في خلق جوّ يفيض عليه التوتر والانغلاق.
مؤلف المسرحية لا يدين ولا يبرئ، بل يقدم صورة عن المشهد الاجتماعي والسياسي الراهن، الذي ينطبق أيضا على ما تعيشه فرنسا
كيف تكون الحياة بِحارة يحس فيها المرء بأنه مهدد جسديا في أي لحظة؟ وكيف تتحول القيم السامية، كالتسامح مثلا، إذا مُسّت العشيرة أو الشّلة بسوء؟ هل ليام مجرد فتى مريض نفساني ارتكب جريمة عنصرية، أم هو، كما تقول أخته هيلين، ضحية جانبية لتصدع اجتماعي بالغ العنف يكشط ذلك الحي المتعدد الإثنيات في إحدى ضواحي لندن؟ أليس ذلك العنف وليد تعفن الوضع الاقتصادي والاجتماعي؟ بعبارة أخرى: هل نبرر إذ نفسّر؟
المؤلف لا يدين ولا يبرئ، بل يقدم صورة عن المشهد الاجتماعي والسياسي الراهن، الذي ينطبق أيضا على ما تعيشه فرنسا، حيث تصاعد الشعور بالانتماء إلى جالية محددة، والضغينة الطبقية، وحصر الأفراد داخل هوية، وإنكار الآخر، وتردي الطبقات الوسطى، أي أنه، خلال هذا العرض الذي يستغرق ساعة وثلاثين دقيقة، يلخص الإشكاليات الكبرى التي يتنازع حولها المفكرون والمثقفون على مدار العام في وسائل الإعلام، دون البحث عن أجوبة أو الانحياز إلى شق دون آخر.
كل حقيقة تُطرح سرعان ما تتحطم إثر بضع كلمات، بل هو يقترح تأملا جماعيا وتجربة مشتركة عبر ثيمات تهز إنسانيتنا وتوقظ غرائزنا الأكثر بدائية، في نص شبيه بسيناريو فيلم بوليسي، ذي حبكة متينة، تزخر بالتشويق والتصعيد والتقلبات، ويطرح قرينة أخلاقية قديمة يرجع عهدها إلى أنتيغونة، بأسلوب مثير، يحذقه كيلي، وهو المتمرس أيضا بكتابة سيناريوهات مسلسلات تلفزيونية ناجحة مثل “بولينغ” و”يوتوبيا”.
هي مسرحية تصور كيف يمكن أن يقتحم العنف الأشد دموية أكثر العائلات استقرارا، فداني، رمز الاستقامة والنجاح داخل الطبقة الوسطى، سوف يتخلى عن اعتداله ليساهم هو أيضا في تعذيب شاب مسلم بريء داخل مستودع، وإذا كان هذا الهبوط إلى الجحيم -على طريقة سكورسيزي- ناجحا فنيا، فبفضل أسلوب الحوار الذي يجعل المتفرج منشدا إلى أحداث تجمع بين “الثريلر” السيكولوجي والكوميديا السوداء، بحثا عن التبليغ أو عدم التبليغ كما في مسرحيات هارولد بنتر.
وقوة النص تكمن في حبكته المضغوطة وعمقه السيكولوجي، ودراسته الدقيقة للسلوك البشري، وتحليله لتغير التفكير الذي يذكر بتجربة ميلغرام، باسم عالم النفس الأميركي ستانلي ميلغرام، الذي أثبت بالدليل العلمي مدى ما يمكن أن يقترفه الفرد من فظائع حين يكون خاضعا لسلطة ما، ينفذ أوامرها دون نقاش، رغم قناعاته الشخصية.
--------------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق