مجلة الفنون المسرحية
جول رونار مسرحي حزين أراد أن يكون شجرة
من التجارب التي درج عليها المسرح الفرنسي صياغة عمل مسرحي انطلاقا من نص أو عدة نصوص لكاتب ما، يتولى تقديمه ممثل وحيد على لسان المتكلم، للكشف عن عوالمه وطقوسه وأفكاره، وإحياء ذكراه بطريقة فنية. وجول رونار الذي اختارته الممثلة والمخرجة الفرنسية كاترين سوفال، في عمل طريف بعنوان “الرجل الذي يريد أن يكون شجرة” يعرض حاليا على خشبة مسرح الجيب بباريس، لم يُنس تماما، ولكنه لم يعترف بمكانته بعد رحيله مثلما يستحق.
عرف الفرنسي جول رونار (1864-1910) بـ”شعيرة جزر” (التي ترجمت إلى العربية بعنوان “مغامرات الفتى الأصهب”) أكثر مما عرف بكتاباته الأخرى، سواء منها المسرحية مثل “خبز البيت” و”متعة القَطع” أو الروائية مثل “المتطفل” و”الكَرّام في مزرعة كرومه” التي كانت سبب شهرته في أواخر القرن التاسع عشر، وفتحت له صالونات النخبة، فصار يعدّ من بين أصدقائه أدباء كبار كألفونس ألّيه وريمون روستان والأخوين غونكور وأوكتاف ميربو، فضلا عن رجال المسرح البارزين أمثال تريستان برنار وكورتلين ولوسيان غيتري -والد ساشا غيتري- والنجمة سارة برنار.
والسبب أنه انقطع عن الكتابة عدا يومياته التي نشرت بعد وفاته، منقوصة، ليس لأن كل شيء قيل، وإنما لأن لا شيء يمكن أن يقال، بعد أن بات يعتقد أن الكتابة تنأى بالمرء عن الحقيقة، واختار العودة إلى حياة الريف، حيث الصمت والسكينة.
والطريف أنه لاذ بالكتابة هربا من السكون المميت خلال طفولته، إذ كان أفراد عائلته في الغالب يبسطون أردية الصمت كما يتجاذب الناس أطراف الحديث، ثم عاد إليه تضامنا مع الأرض وأشجارها ونبتها وأنعامها، وكذلك مع بسطاء الناس، أولئك الذين يفوقونه معرفة بالحياة وأسرارها، وإن لم يتعلموا مثله فنون الكتابة.
في العرض المسرحي “الرجل الذي يريد أن يكون شجرة” الذي استخلصته كاترين سوفال من كتبه “رعويات” و”يوميات قروية” و”حكايات طبيعية” إلى جانب يومياته التي تفوق ألفا ومائتي صفحة، يتبدى جول رونار شبيها إلى حدّ ما بفكتور هوغو، فقد خلق هو أيضا ليكتب، وإن بثقة في النفس أقل، وكلماته تنساب كماء النبع لتمسك بكل شيء، يقول “صار عقلي مثل شبكة عنكبوت، لا تكاد الحياة تمر به دون أن تقع في شراكها”.
وهو إلى ذلك من الكتاب القلائل الذين كانوا يعرفون حقّ قدرهم، إذ كان يواجه نفسه وأصداء عمله بالسخرية المرة، بدءا بالوصف الذي نعتته به أمه “متغوط حبر”، وردّ بائعة الصحف والكتب حين لفت انتباهها إلى أن أحد الكتب المعروضة على رفوفها من تأليفه “لم أبع منه نسخة واحدة”.
ورسالته التي وجهها إلى الناقد والممثل المعروف أندريه أنطوان (1858-1943) صاحب المسرح الذي لا يزال يحمل اسمه، وكتب فيها يقول “خُلقتُ لأتأمل الأشجار والماء.. ولأنْ أرسل إليك مرة في السنة سلةَ حَجل، خيرٌ من الاهتمام بتلك الوجوه التي تشكّل قاعة مسرحك، كنت مجتهدا، معتكفا، نزيها، وها أنذا اليوم كسول، متردد، كاذب كإخراج مسرحي، كيف يمكن أن تحب
المسرح يا أنطوان؟ والحياةُ بهذا الجمال! أنا لا أؤمن بالمسرح، ففيه دائما شيء متوقَّع بشكل آلي”.
في رأي رونار أن أي فكرة مكتوبة هي فكرة ميتة كانت تنبض بالحياة، فماتت، والسبب أن الكتابة جعلتها مصطنعة
كما كان له من الشجاعة ما جعله يبوح بكل ما شاب حياته، إذ قال عن خجله “ولدتُ معقودا ولا شيء يقطع تلك العقدة”، وعن مرض النوراستينيا (نَهكٌ عصبي) الذي أصابه “أتوقع جيدا أني سأواجه ساعات شيخوخة لن تقدر خلالها طلقة نارية في رأسي أن تؤلمني أدنى ألم”، وعن استعصاء الكتابة “أحسّ أني لن أبلغ شيئا”.
ففي رأيه أن أي فكرة مكتوبة هي فكرة ميتة، كانت تنبض بالحياة، فماتت، والسبب أن الكتابة جعلتها مصطنعة، بمعنى جامدة غير قابلة للتحول، ومن ثَمّ فالحكماء الحق في نظره هم أولئك الذين لا يتكلمون، ولا يكتبون شيئا، والأشجار هي خير مثال على تلك الحكمة.
يقول رونار في يومياته “أحس أن الأشجار ينبغي أن تكون عائلتي الحقّ، وسوف أنسى بسرعة عائلتي الأخرى، لو أستطيع التفاهم مع الرب، فسوف أطلب منه أن يحولني إلى شجرة، تطل من علوّ هضبة “كروازيت” على قريتي، وبما أن أشكال الأشجار السوداء تتحلل شيئا فشيئا تحت الثلوج، فإن الكلمة ستؤول هي أيضا إلى الصمت”.
ذلك أن رونار كان قرويا قبل كل شيء، خالط أهل المدينة فلم يجد فيهم ما يرجوه، فعاد إلى حياته الأولى، رغم طفولة بائسة تميزت بكره أمّه له، ما جعله يعيش حياته القصيرة (46 عاما) في حزن غامض، يميل إلى صداقة الأشجار والغيوم، ويعشق القمر وريش الطيور، ويرى أن للحيوانات أرواحا جديرة بأن تصان، ويبكيها إذ أُزهقت، كحاله عندما هلكت بقرته.
وبرغم تمزقه بين كبرياء تجمح به نحو “تجاوز قوس النصر” كما يقول، وخجله ومرضه، كان رونار نهبا للشكوك، لا ينفك يضع كل شيء موضع مساءلة، حتى الكتابة التي برع فيها وبوأته عضوية أكاديمية غونكور قبيل وفاته، فهي في رأيه المهنة الوحيدة التي لا تجلب السخرية لصاحبها إذا لم تعد عليه بمكسب مادي، كلّ ذلك استطاعت كاترين سوفال أن تنقله ببراعة في عرض لم يتجاوز الساعة وربع الساعة.
-------------------------------------------------
المصدر : أبو بكر العيادي - العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق