تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

أيوب العراقي.. رحلة الحلم نحو المنفى

مجلة الفنون المسرحية

أيوب العراقي.. رحلة الحلم نحو المنفى  

ناجح المعموري 

قدم الفنان ثائر هادي جبارة عرضاً مسرحياً من تأليف الفنان المعروف سعد هدابي واخراج الفنان جبارة وكان باسم (( ابصم باسم الله )) والعرض مونودراما تتمركز حول هجرة الشباب الى  الخارج وبحماس وراء حلم لايوفر وسيلة خلاص وانقاذ لكل شاب وعائلة باحثة عن المنتظر ، خلاصاً من ظلم اجتماعي – سياسي او هروب من حرب داخلية. 

ابتداء العرض تبنى القضية الكبرى التي لم تكن جديدة ، بل هي قديمة ، لكن حصلت عليها تحولات كبرى في الوطن العربي ،بعد الربيع الكاذب ، وهي العلاقة بين الأنا والآخر وتمظهرات الصراع متنوعاً ، وما يلفت الانتباه سيادة ايوب ، الشخصية العراقية في العرض التي جعل منها المخرج  ثائر هادي وكان يؤديها شخصياً بافكار وثقافة عراقية ، وتحول تدريجياً  لأن المخرج جعل منه شخصاً خاضعاً لسيرورة متحركة ، بحيث صار رمزاً كونياً ، تم من خلاله على كل الشباب والجماعات التي واجهت الموت بطرق عديدة حتى تمسك بلحظة خلاص هي حلمها التي تريد ، واستطاع العرض الذي صار فيه الفنان ثائر هادي جبارة مركزا وجوهراً ، تمكن وبنجاح مهم للغاية من انتاج شخصيات عديدة وحاز على تنوعات ، اغتنى بها العرض المسرحي ، وكان يطوف عبر زمان ومكان محليين ، لكن لا احد بامكانه تجاهل صفة العرض الكونية الانسانية مثلما تمكن سعد هدابي من خلال النص ، وضع مايجعل العرض كونياً وهذه ملاحظة جوهرية ، واتسع العرض معتمداً على الرؤية النصية منذ لحظة الاستهلال ، حيث الاشارة الدلالية لآدم وحواء ، والحقائق التي افضت لها اسطورة اللقاء والنجاح بتحقق لحظة كونية جديدة هي التصرف بين الاثنين ، آدم وحواء ، انه التصرف الثقافي والجسدي الذي افضى لتحولات كبرى حصلت في الحياة بعد الطرد من الفردوس ، وماحصل بين الاثنين لم يكن خطيئة ، بل هو اعظم تصرف قاد الحياة والعالم الى تحولات كثيرة وخطيرة ولعل حلم الهجرة وتفكك الهوية الوطنية احد التحولات التي اشار لها العرض وبامكانات تمثيلية كبرى ، نجح فيه الفنان جبارة من مسايرة لحظة الحلم واسباب الانشغال به وحركته ، بحيث وصل عرض المونودراما الى جوهر الصراع الانساني العميق الذي كان من استهلالاته المبكرة  هو العنف الانساني الاول ، الصراع بين هابيل وقابيل الذي ظل حاضرا ومستمرا وكأن الهبوط أعلن وجوب استمرار العنف الدموي وظلت خسارة الاخ باغتيال اخيه حاضرة ومستمرة حتى لحظة العرض التي سجلت تحقق ذلك ، لان حلم الهجرة والرضا بالمنفى احد دوافع التزاحم من اجل الموت غرقاً ، وكانت رؤية العرض ناجحة لتمثيل ذلك ، عبر رسم اجواء البحار والشواطئ من خلال علامات  الاطارات والطوافات وضجيج السواحل ، بحيث اتخذ الحلم نمط الاحلام الكبرى الضاجة بالجدل والصراع والعنف مع حضور قوي لجماعات امتلكت  خبرة الايقاع والإغواء . 
ومن العلامات الحيوية التي جعل منها المخرج سينوغرافيا ثابتة، فمنذ اول العرض حتى نهايته، وهو المثلث الكبير الذي جعل منه المخرج مدونة صورية مشاركة بتجوهرات العرض المسرحي ، وظل المثلث حاضرة للتدوين واحيانا كشافاً لما حصل ولم يعلن عنه العرض المسرحي ، بل قاله المثلث عبر تدويناته التي اختصرت تاريخاً طويلاً ، حافلاً بالفساد والتزوير والموت الجماعي ، وحفلت البصمات الثلاث بسرديات اكثر فجائعية ومرارة ، واحتوتها ذاكرة المرويات نوعا من المواجع والمراثي التي تمثل امتدادا وموروثا للمراثي السومرية . 
ازدحام العرض بالعلامات شتت معنى ماتومئ له ، وكان بالامكان اختصارها  الى علامة واحدة او اكثر ، واعني بها الطوافات المدورة لان التصور الاخراجي كاف لاخضاع العلامة لحركة وجدل الاستجابة للسيرورة وهنا تكمن اهمية العلامة عبر ليونتها ومرونتها في التحول ، حاملة دلالة جديدة ، كما وجدت عدم ضرورة ان تكون المدورة السوداء رمزاً معبراً على الوالد ، مختصرا بالعقال ، وكان بالامكان تحريك اللون الاسود  ليتسع لاستيعاب التراجيديا الكافية على خشبة المسرح . والتي عبر عنها الفنان ثائر هادي جبارة جسديا بنجاح ملفت للانظار واخضع التفاصيل الجسدية للتناظر  الحيوي مع العلامات ولعب الصوت وايقاعه موجهاً للدنو من الاشارة او العلامة المتحركة. كان حضور المثلث رمزا عانيا دالا على الذكورة ، بحيث صعد الرأس نحو الاعلى واتسع بقاعدته وافضت هذه السيرورة الاستهلالية لكشف مدونة البصمات الثلاث المعبرة رمزيا عن سيادة العنف والاستبداد والتلاعب بمشاعر الجماعات وتوظيف المقدس بالاتجاه غير الصحيح . 
كانت اولا البصمة السوداء والثانية الحمراء والخضراء هي الاخيرة ومالفت الانتباه ومنح العرض تحفيزاً الحمراء والخضراء وقد تحولتا الى مدونتين على الوجه الابيض للمثلث وكان اللون المتنوع مثيرا لانه امتلك طاقة التحول الدلالي ، وهي طاقة متحركة لها معنى اثناء العرض وقدرة الفنان ثائر هادي جبارة على اشغال فضاء المسرح بجسد متحرك لين مرن وظل موفقا في الاشارة الى المأساة الشخصية لايوب العراقي ، وبالتالي هو ايوب كوني ، وكان اختيار سعد هدابي لكنية الممثل الوحيد في المونودراما ذكيا لانه يعرف قاعدية المعذب البابلي في الملحمة البابلية والتي اطلع عليها العبران عندما كانوا في بابل واعادوا انتاجها وصارت نصا توارديا ومثلما قال بورخس بانحياز بان التوراة هي الموروث الحقيقي للشعوب الاوروبية ، بمعنى قصة ايوب معروفة ، واتسعت جغرافية الاسم الذي دائما مايكون شكله مستقيما مثلما قال إزرا باوند . 
والحركة التي جعلها متنامية ، متسامية ، خلقها ايوب الكوني ، وهنا تعمق الفعل ، لينتقل من الخصائص المحلية الى الكونية  لان ملاحقة الكائن وقهره واضطهاده ملمح للعالم كله ، لان التباين والاختلاف قائم وحتما يستدعي هذا كله المراقبة والمعاقبة. 
واستمر ايوب العراقي غني الدلالة حتى اللحظة التي شعت دلالة البياض الواضح في الزي كله وحقيبة السفر والتجوال ظلت محتفظة ببياضها ولذلك معنى واضح مضافاً لذلك بياض شعر راسه كله وعلى الرغم من فضاء البياض ، ظل ايوب ملاحقا مطرودا في كل مكان من العالم وهو الشاهد العراقي على الموت الجماعي الذي تعرف عليه لكنه انتهى لمحطة العودة سالما الى وطنه الذي غادره بعد لحظة البصم بالدم ، وكان من الممكن توظيف هذه العلامة تماهيا مع الاب الاول آدم ، ليردد ايوب صرخته بالقول: آ........ دم  ليقدم شحنة من التوتر الذي يغذيه الاسم اما البصمة الاخيرة الخضراء في الرمز الدال بطاقة متحركة ومتجددة على العودة للام الاولى الرمزية وهي الارض وبصم بالاخضر المعبر على الخصوبة والانبعاث واستمرار التجدد ، كل هذا حصل مع تفاصيل خاصة بالتنوع الثقافي الخاص بايوب الليبرالي/ العلماني مصحوبا باطوار من الغناء الذي صاغته مراثي الجنوب زمن سومر والتي برع بها الكهنة (( كالوا)) والذين رددوا اغاني الحزن ، الايسمالا والتي ورثناها حتى هذه اللحظة. 
ظلت العروض تنوعات صورية في الذاكرة وليس سهلا نسيان الشحن التراجيدي الذي بثته تفاصيل الجسد الطيع للفنان الكبير ثائر هادي جبارة وكان بحق فناناً لامعاً ، حزيناً في عرضه وكثيرا مابكى وهو يؤدي حركاته  ، سعداء لان المحافظات قادرة على العطاء باستمرار ولكن المركز لايرى جيداً . 

------------------------------------
المصدر : المدى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق