مجلة الفنون المسرحية
الممثل والعلامات
أحمد شرجي
تُحيط العلامات بالممثل من كل مفاصل العرض المسرحي، و"عندما يبدأ العرض... نرى الفضاء المكان... ونتعرف على الألوان والمسطحات والمستويات، إلا أن المحرك لكل تلك الموجودات هو ذلك الممثل الذي سيشي(الممثل لايشي، بل يقدم العرض) لنا بالعرض، حيث يبقى الممثل في نظر الناظر أو المتفرج صورة للغائب، صورة الهو، ومن ثم قدرة الممثل كجسم متحرك مرئي على تحويل صورة، الهو، إلى أنا"( مؤمن، محمد، التحليل العلاماتي لفن الممثل المسرحي، مجلة فضاءات مسرحية، تونس، العدد 3، عام 1985)، حيث يتطلب منه أن يلعب دور المحلل منذ قراءته الأولى للنص والشخصية، إذا ما أراد أن يكون فاعلا ومؤثرا داخل الشبكة العلاماتية التي يحملها.
ويكون في الآن ذاته، أحد عناصرها، لأنه يتقدم "إلينا بطريقة أداء على شاكلة نسق أي مجموعة علامات فهو داخل مجمل العملية المسرحية بناء مركب يستوجب تفكيك وحداته من الناحية النظرية، وكل وحدة بذاتها تمثل بدورها نسقاً صغيرا (الحركات والكلام)، إلا أن هذا النسق لا يمكن تجزئته أو وضعه بمعزل عن علاقة عضوية علاماتية أخرى (كالفضاء والملابس والضوء والماكياج والمنظر وملحقاته، فمن مهام المكون المرئي في العرض المسرحي إدماج الأداء في كل هذه الأبنية المساندة"( آن، أبرسفيلد، مدرسة المتفرج، ص 62).
والعلامة كما عرفها دانيال تشاندلر Daniel Chandler هي "أية وحدة ذات معنى، تم تفسيرها باعتبارها تحل محل، أو تنوب عن شيء آخر، غيرها، هي نفسها. وتوجد العلامات في شكل مادي (فيزيقي)، مثل الكلمات والصور، الأصوات والأفعال والأشياء (وأحياناً ما يعرف هذا الشكل المادي أو يوصف على أنه وعاء العلامة أو أداتها Sign vehicle الخاصة). وليس للعلامات معنى أصلي ملازم لها، أو كامن بداخلها، فالعلامات تصبح علامات، فقط، عندما يقوم مستخدموها بإكسابها معناها، من خلال إحالتها إلى شفرة معروفة"( تشاندلر، دانيال، معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات،ص 197).
يشكل النص الدرامي الأرض البكر لمختلف الأنساق العلاماتية، التي يتشكل عليها نص العرض، وأن يغلب عليه (النص) كثافة للعلامات اللسانية اللفظية، التي تكون على شكل أصوات فينولوجية، كما يقول ياكبسون، لكن يبقى المسرح على صلة وثيقة بعلمين هما الألسنية وعلم النفس.. من هذا المنطلق، تكون الدراسة والقراءة العميقة للنص الأدبي، "حيث إن النص المسرحي أداة لغوية، وحيث إن المسرح ليس فقط أداة فنية (أدبية) قابلة للقراءة التفسيرية وإنما أيضا نشاط نفسي (متخيل) شديد الخصوصية"( آن، أبرسفيلد، ، قراءة المسرح ، ص181). ويعمل المخرج على تفكيك شفرات المؤلف، ومن ثم إعادة عملية تشفيرها مجددا، لتولد علامات يحملها نص العرض. وهذه العلامات في حقيقتها تأويلات ضمنية لخطاب العرض، الذي أراده المخرج لنصه، وتنسيقه على شكل أنساق علاماتية متنوعة يروم بثها للمتلقي.
وهناك سنجد ضمنا أيضا تأويل الممثل، وهذا الأخير لا يظهر بالضرورة متقاطعا مع تأويل المخرج، أو تفسيره، لكنه بالمقابل، قد يختلف في تأويله للعلامات اللغوية بناء على قراءته الخاصة. ومن ثم تسير تلك التأويلات (المخرج + الممثل) داخل القنوات المختلفة التي يتشكل منها العرض. تشكل منظومة علامات، ولا تكون فيها الدلالة اعتباطية كما يقول دو سوسير. لأن مبدأ الاعتباطية ينطبق على الألنسية، لكنه في المسرح يكون مختلفا، إذ تكون العلامات قصدية في العلاقة بين (دالها ومدلولها)، وإن اختلف مستوى تأوليها من قبل المتفرج، لأن هذا يعتمد على المتفرج ذاته.
لماذا قصدية؟
لأن العملية المسرحية بمجملها، عملية اتفاقية، ولا يمكن أن يُصدّر العرض شيئاً بعيدا عن تلك الاتفاقية كما تقول آن اوبر سفيلد . لكن هذا لا يعني إلغاء الدور الاعتباطي للدلالة، إلغاء تاما، إذ تكمن الاعتباطية فيها، بموضع اشتغالها في ذهنية المتلقي ؛ بصبغة توضيحية أخرى، يكون الدور الاعتباطي للدلالة، مقتصرا على لحظة العرض، فمعها وفي أثنائها يتعامل الجمهور مع منظومة العلامات، وقدرة اشتغالها، داخل ذهنيته، حيث يركِّب الصورة الذهنية لحظة تلقي العرض من منظور اعتباطية العلاقة أو من دون التفكير في قصدية تربط الدال بمدلوله. لأنه بحاجة للوقت في متابعة النتيجة المستهدفة في متواليتها وإلا ضاع في متاهة البحث في قصدية العلاقة داخل كل علامة منفردة ويخسر متابعة سلسلة حلقات العرض.
وعليه فإنّ الدلالة تحتفظ بقصديتها عبر آليةُ الاتفاق بين صناع العرض المسرحي (المخرج، الممثل، مصمم السينوغرافيا). وفي كل الأحوال يبقى المسرح عملا منظما، اتفاقيا، محسوبا بدقة متناهية، بمجمل تشكيلات عناصره الأخرى، وإلا انتفت ضرورة البروفات اليومية (مع وجود فسحة الاعتباطية التي أشرنا إليها هنا).
---------------------------------------------------------------
جريدة المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق