مجلة الفنون المسرحية
مسرحية "رقص صوفي " تأليف: حسين عبد الخضر
مسرحية "رقص صوفي " تأليف: حسين عبد الخضر
"رقص صوفي"
نص مسرحي من فصل واحد
تأليف: حسين عبد الخضر
غرفة بيضاء، كأنها جزء مقتطع من
فراغ كوني أبيض. يتوسط البياض كرسي حديدي يُظهر شكله أنه ثابت جدا. يجلس على الكرسي
شيخ بلباس أبيض، رجل في الستين من عمره، وربما كان في الثلاثين أو السبعين. لا أحد
يستطيع الجزم بعدد السنوات التي عاشها هذا الشيخ بالوجه الطفولي. والذي تدور حوله إشاعة
تجعل منه رجلا أسطوريا. الناس في المدينة يعتقدون، رغم أن أحداً لم يسأله، أن عمره
الحقيقي يتجاوز آلاف الأعوام. يجثو عند قدمي الشيخ شاب بثوب أبيض من قطعة واحدة، كدليل
على أنه أقل مرتبة معرفية من الشيخ الذي تلتف ثيابه البيض على جسده بشكل معقد، وكأن
انحناءات البياض على جسده واحدة من إبداعات مايكل انجلو!
الشاب في غاية الحيرة، ينتظر جوابا
لسؤال طرحه قبل أن نتمكن من الدخول إلى المشهد.
الشيخ، يقول بنفاذ صبر: ألم أجبك على هذا السؤال لألف مرة؟!
الشاب، بلهفة المحتارين:ثمانيمئة وسبع وستون.
الشيخ: ولم تفهم؟!
الشاب: ولم أقتنع. ربما كنت لا أريد أن أقتنع، أو لا أستطيع. ربما، ربما عليَّ
أن أسمع الجواب لأكثر من ألف مرة كي أشعر بالطمأنينة. أنت تعرف. . أنت تعرف. يبدأ الشاب
بفقد توازنه ويتحرك مثل من يوشك على الجنون. أنت تعرف، أنت تعرف.
الشيخ، مهدئا الشاب: أعرف، أعرف. نعم، أنا أعرف، لا داعي لتكرار الحديث.
يستعيد الشاب هدوءه. ينهض الشيخ من على كرسيه ويدور في الغرفة، يكلم نفسه مثل
مجنون: نعم، أعرف، أعرف أن الحياة امتلأت حتى أنها تكاد تنفجر، وعندما تمتلئ الحياة
حد الإنفجار فلا يستطيع. . لا يستطيع الإنسان الصمود. هذا أمر خارج حدود طاقة الإنسان،
لا يمكن له، لا يمكن له أن يستطيع. الآخرون هم من يستطيعون.
الشاب: إذن أنت تعرف!
الشيخ: بالطبع أعرف. أنا أعرف كما أنك تعرف.
الشاب: الآخرون هم من لا يعرف؟
الشيخ: الآخرون يعرفون أيضا، يعرفون كما تعرف وكما أعرف أنا، لكنهم لا يقولون
أنهم يعرفون، لا يتصرفون كما لو أنهم يعرفون. هذا هو السر، هذه هي المعضلة.
الشاب: لكنك تعرف؟
الشيخ: هناك حدود تتوقف عندها المعرفة، تفقد قيمتها، تصبح خارج الصلاحية، تصبح.
. . . . . .
الشاب، يكمل: تصبح عبئاً يجب التخلص منه.
الشيخ: شيئاً يشبه شيئاً نتنا.
الشاب: وعندما يصبح للمعرفة هذه القيمة المقرفة.
الشيخ: نعم، أكمل.
الشاب: لا، أكمل أنت.
الشيخ: دورك هذه المرة. قل أنت.
الشاب: ولكني لست مقتنعا. قل أنت، قل كي أقتنع.
الشيخ: لا يكون الجنون حلاً. الحل هو أن. . . هل عليَّ أن أقول من جديد؟
الشاب: قل، قل لعلي أقتنع.
الشيخ: هو أن تنزوي في عزلة ما، تكرر على نفسك كل صباح ضرورة أن يحتفظ الإنسان
بعقله، مؤمنا بالحكمة القديمة " لا بد من شمس جديدة، تشرق صباح يوم آخر."
وتترك الحياة التي إمتلأت إلى هذا الحد للآخرين.
يدور الإثنان حول نفسيهما كمتصوفين،
ربما كانا متصوفين من البداية لكننا لم نك نعرف، لأننا لا نستطيع الوثوق بالمظهر، فكم
من مرة خدعتنا المظاهر؟ نعم، هما يدوران الآن، ويكرران الكلام نفسه بصوت واحد:
" الآخرون ليسوا شراً. الآخرون
خير في شرهم. الآخرون يجعلوننا نشعر بلذة الخير. الآخرون يُشعروننا بقيمة الخير. خذ
ثوباً أبيض، لن تعرف أنه أبيضاً، ضع إلى جانبه ثوباً أسوداً، ستعرف أنه أبيض. الآخرون
خير في شرهم. الآخرون خير، خير، خير".
يستمر الشيخ في إداء رقصته الدائرية.
الشاب يتوقف، يكلم نفسه، فيما تخترق حديثه كلمة( خير) التي يكررها الشيخ، كما لو أنها
إداة ربط بين فقرة وأخرى.
الشاب: تمد يدك إلى أحدهم، فتمسك بكماشة عقرب.
الشيخ: خير.
الشاب: تروي ضمأ عطشان، فتحصل على سائل أزرق في الآنية.
الشيخ: خير.
الشاب: العارية التي سترتها بثوبك، تُلبسك عري الفضيحة.
الشيخ: خير.
الشاب: ظهرك الذي أثقله نقل المقعدين، صار موطنا لجراح متشابهة.
الشيخ: خير.
الشاب: حتى ابتسامتك التي تلقيها في بؤس الآخرين. . . . .
الشيخ، وهو مستمر بالدوران: خير، خير، خير.
يجثو الشاب أمام الكرسي الفارغ. يتوقف الشيخ عن الدوران.
الشاب، محدثا الكرسي: فهمت الجواب مجددا.
الشيخ: والآن؟
الشاب: ربما كنت لا أريد أن أقتنع، أو لا أستطيع. ربما، ربما عليَّ أن أسمع
الجواب لأكثر من ألف مرة كي أشعر بالطمأنينة. أنت تعرف. . أنت تعرف. يبدأ الشاب بفقد
توازنه ويتحرك مثل من يوشك على الجنون. أنت تعرف، أنت تعرف.
الشيخ، مهدئا الشاب: أعرف، أعرف. نعم، أنا أعرف، لا داعي لتكرار الحديث. لكنني
أجبتك لألف مرة.
الشاب: ثمانيمئة وثمان وستون.
الشيخ: طريق الألف طويل، إن لم تبلغه من الخطوة الأولى، فلن تبلغه أبداً!
الشاب: أفهم، أفهم، لكنني أحتاج إلى أن أسمع أكثر. . أسمع، ربما أقتنع.
نستطيع أن نغادر الحوار المجنون
هنا، ويمكننا أن نواصل الجلوس في القاعة لمتابعة هذين الغريبين.
للذين غادروا القاعة:" فاتكم
أن تستمتعوا بالحيلة الذكية للمخرج، فقد أستبدل الحوار بالموسيقى. جلس الغريبان يهمسان
لبعض، همسا لم نسمع منه شيئا، ثم نهضا ليؤديا رقصتهما الدائرية بأذرع متشابكة لوقت
قصير قبل أن يبتعدا عن بعض في شبه كارثة كونية، وهذا ما لم نفهمه لولا أن الموسيقى
أخبرتنا به. توهمنا للحظة موت الموسيقى، لكنها عادت لترتفع تدريجيا مع اقتراب الأثنين
من بعضهما، حتى عادا لشبك أذرعهما من جديد قبل أن ينزلا إلى الأرض وكأنهما يختفيان.
وكانت هذه هي النهاية".
غادرنا القاعة وبعضنا يشعر بالمواساة
لكل الأذى الذي مر بحياته، لأنه فهم من المرة الأولى أن النهايات حليفة كل ما في الوجود،
فلا شيء سيدوم إلى الأبد في ظل هذا القانون، حتى أنني قلت لصديقي الذي كان يدخن طوال
فترة العرض، مخالفاً أصول اللياقة في المسرح: لا داعي للكثير من الحزن.
فأجاب: لم يكن هناك من داع للحزن يوما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق