تصنيفات مسرحية

الاثنين، 21 نوفمبر 2016

زنزانة تتحول إلى ورشة للفن الدرامي في مسرحية 'التمثيل'

مجلة الفنون المسرحية

زنزانة تتحول إلى ورشة للفن الدرامي في مسرحية 'التمثيل'
أبو بكر العيادي

كيف يمكن أن نجعل من سجين لم يمارس التمثيل قط ممثلا كفؤا؟ وكيف يمكن لممثل قاتل أن ينهض بالمهمة؟ وكيف يمكن أن يتم ذلك داخل زنزانة تضمّ ثلاثة مساجين يعانون ما يعاني أمثالهم في مثل تلك الظروف التي تفقد الإنسان إنسانيته، فضلا عن ولعه بالفنّ؟ إمكانات مثلت المحاور الرئيسية لعمل مسرحي خارج عن المألوف عنوانه “تمثيل”، يلقى الإقبال الواسع حاليا في مسرح “بوف باريزيان” بباريس.

“تمثيل” التي تعرض حاليا في مسرح “بوف باريزيان” الباريسي، هي مسرحية صاغها وأخرجها غزافييه دورانجيه، صاحب الإنتاج الغزير والمتنوع، إذ جمع بين التأليف (أكثر من عشرين مسرحية) والإخراج المسرحي (خمس مسرحيات) والإخراج السينمائي (أربعة أفلام طويلة) والتلفزيوني (ثمانية أشرطة ومسلسلان)، فضلا عن كتابة السيناريو والفيديو كليب (آخره لمطرب فرنسا الأول جوني هاليداي).

في زنزانة لا يؤثث فضاءها غير طاولة من الفورميكا وأسرّة حديدية منضّدة وركن لقضاء الحاجة، كانت الحياة مرتبة على نحو ما بين جيبيتو، محتسب متحيّل حكم عليه من أجل التدليس، وهوراس، وهو رجل أخرس لا ينطق بحرف ولا يجيد غير الطبخ، حين التحق بهما سجين ثالث يدعى روبير، استرابا منه أول الأمر، فالقادم إلى ذلك المكان المغلق، قد يكون دخيلا يستولي على الفضاء الخاص، ماديا وذهنيا، وقد يكون، بالعكس، ذلك الذي سوف نحيا من خلال نظرته بشكل أفضل.

اكتشفا أنه ممثل ومخرج حكم عليه بالسجن ثمانية عشر عاما لارتكابه جريمة قتل، ووجد جيبيتو في ذلك فرصة لتحقيق حلم طالما راوده: أن يصير ممثلا، فطلب من روبير أن يعلمه أسرار المهنة، وهو مقتنع بأنه قادر على بلوغ غايته. فكيف يمكن أن يتحقق ذلك والرجلان يختلفان في تحديد مهنة التمثيل، فجيبيتو لا يعرف سوى الثقافة الشعبية الرائجة، ولا يفكر إلاّ في منظومة النجومية وأبطال “لبلاكبوستر” الأميركية كآل باتشينو وجورج كلوني، فيما روبير ذو ثقافة راقية اعتاد معاشرة أعمال شكسبير وتشيخوف وستانيسليفسكي وأورسن ويلز.

وبعد أن استهان روبير بقدرات جيبيتو وحتى هيئته وطاقاته الجسدية، إذ قال له صراحة “ينقصك كل شيء، أنت لا تملك أي شيء”، فرد عليه جيبيتو “علمني إذن كيف أصبح ممثلا”، قبل الرهان، وقرّ منه العزم على أن يجعل من رفيق زنزانته أكبر ممثل في العالم.

وما أسرع ما تحولت الزنزانة إلى ورشة للفن الدرامي، بين رجل ميدان يلقي دروسا درامية، وتلميذ ليس له من مؤهلات الفن غير رغبة جامحة في التمرس بالتمثيل، وبينما كان جيبيتو يشرب كلام أستاذه شربا وينام وفي يده هاملت، ينبري روبير لتعداد مساوئ أهل الفن كالنرجسية وتضخم الذات، وضعف الذاكرة لدى عدد منهم، وغياب الموهبة، إضافة إلى قلة شجاعة المنتجين وضحالة ما يقدمه التلفزيون.

المسرحية نجحت في إقامة توازن بين عناصر جعلت للضحك وأخرى تؤكد عمق الرهانات الفنية دون أن يطغى أحدها على الآخر.
وبين لحظات يأس وأزمات من بكاء أو ضحك أو أرق، ينمو الحوار بين الرجلين في تناوب بين المفاهيم والتمارين الأساسية التي يقوم عليها التمثيل، وتحوم أغلبها حول الذاكرة الحسية ومخارج الحروف وقابلية تقمص عدة أدوار، قبل المرور إلى إحدى مسرحيات شكسبير، “هاملت”، والوصول إلى مشهدها المركزي “نكون أو لا نكون”، وهو سؤال جوهري يضع ضرورة التمثيل في صلب الحياة نفسها.

وتتوالى التدريبات لتثري معيش جيبيتو اليومي كسجين خلف قضبان، فيبحث في أعماق ذاته عن حقيقة نصّ ما، ويروّض ذاكرته، وذاكرته الحسية، إلى أن يصير قادرا على قراءة هاملت، عاريا تحت مشمل أحمر.

ومسار تحول جيبيتو، كما شاء له روبير، كان تصعيدا دراميا قويا، أمكن للممثل كاد مراد (واسمه الحقيقي قدور مراد وهو ممثل ومخرج سينمائي من أصل جزائري) عن طريقه أن يكشف عن روحه المرحة التي اشتهر بها في أفلامه، عبر مواقف مسلّية نستشف من خلالها إنسانية الشخصية التي يتقمصها، فيتحول المتفرج من الكوميديا إلى الضحك قبل أن يلج التراجيديا، وحول هذا المراس تنشأ العلاقة بين رجلين يختلفان في كل شيء: الأصول، ومسيرة الحياة، والثقافة، وتصورهما لمفهوم التمثيل.

نجحت المسرحية في إقامة توازن بين عناصر جعلت للضحك وأخرى تؤكد عمق الرهانات المطروحة فنيا، دون أن يطغى أحدها على الآخر، مثلما أبدع نيلس أريستروب في دور الممثل المولع بمهنة يعرف خباياها وسلبياتها، وكذلك كاد مراد في تقمص دور الرجل البسيط التائق إلى غاية لا يملك أسباب تحقيقها، فيما ظل باتريك بوسّو، نجم الـ”وان مان شو” في حياته الفنية ملغزا في صمته ليضفي على المسرحية جانبها القاتم، وبذلك وضع المتفرج أمام نبرتين مختلفتين: الكوميديا والتراجيديا، عبر شخصيتين لا يجمعهما أي شيء.

والمسرحية في النهاية هي دعوة إلى التفكّر في مفهوم المسرح ومهنة التمثيل، من جهة الأستاذ حينا، ومن جهة التلميذ حينا آخر، فكلاهما ينظر إلى المسألة من زاوية معينة.

وهذه الزنزانة التي تحولت إلى مسرح، هل هي كناية على أن المسرح فرصة أمام الإنسان كي يهرب من وضعه ليحلق في عوالم أخرى، أم هو في وجه من الوجوه زنزانة استعارية ينغلق الإنسان داخلها ليوهم نفسه، ولو لزمن محدود، بأنه تجاوز مشاكله الراهنة؟

-------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق