مجلة الفنون المسرحية
--------------------------------------------------------
المصدر : صابر بن عامر - العرب
عروض أيام قرطاج المسرحية تثير قضية صراع الأنا والآخر
تتواصل بالعاصمة تونس عروض مهرجان أيام قرطاج المسرحية في دورته الثامنة عشرة، مقدمة لعشاق الفن الرابع بانوراما من الطروحات الفكرية والرؤى الإخراجية لثلة من المخرجين المسرحيين على المستويين العربي والأفريقي، حيث اتفق أغلبهم على الاشتغال على سؤال الهوية في صراع أزلي بين الأنا والآخر.
تتنوع الأعمال المسرحية المقدمة في الدورة الثامنة عشرة لأيام قرطاج المسرحية التي تتواصل إلى غاية السادس والعشرين من نوفمبر الجاري بالعاصمة تونس، بين المونودراما والكوريغرافيا والعروض الفرجوية والمسرحية، لتقدم تنويعات تعبيرية من أكثر من 25 دولة مشاركة في الأيام، يمكن اختزالها في ثيمة الأنا والآخر. وبعنوان “ليس لي اسم” قدمت جزر القمر ضمن مشاركتها في فعاليات أيام قرطاج المسرحية عرضا مونودراميا عن تصور وإخراج لأحمد سومات، والعمل مقتبس من نصوص الشاعر الفرنسي الراحل كريستوف تركوس. وينطلق أحمد سومات في عرضه المونودرامي “ليس لي اسم” من بين الجمهور، ثم يصعد على الخشبة وسط ديكور بسيط يتكوّن من كرسي وستار أبيض خلفه، ليتحوّل الستار في ما بعد إلى لوحة يدوّن عليها الممثل جملا ومقاطع شعرية وجودية.
وعلى امتداد 60 دقيقة من عمر العرض المسرحي يعرف الممثل نفسه بأنه رجل بلا اسم وبلا هوية، لكنه رغم ذلك يستطيع مواصلة العيش والتشبث بالحياة، داعيا الجميع، الجمهور وهو أيضا، إلى التحلي بالتحدي والحب والأمل، رغم الجنون العام الذي تعيشه الإنسانية. وبين هذيان الخيال وبيان الواقع الذي يعيشه أحمد سومات/ الممثل، يستعيض عن تيهه في بعض المفاصل من العرض بمقاطع شعرية وموسيقية مفعمة بالأحاسيس والمشاعر، محاولا التعبير بالجسد والكلمات عن شعر كريستوف تركوس مُلهم عمله.
بأضواء خافتة وديكور مختصر يغوص العرض التونسي "غفلة" في عالم متذبذب باستمرار بين الهشاشة والخطورة
مسرحية “ليس لي اسم” قدمت إيقاعا مُتسارع الكلمات والحركات، في مزج طريف بين الفنون والألعاب التقنية والمشهديّة التي تُعلي من ثيمة الجنون كحل أبدي لشفاء النفس البشرية من أوجاع العالم، وذلك من خلال بحث مُستجد للممثل/الشخصية عن ولادة جديدة وسط الضحك والحب والأمل. وغير بعيد عن تجربة الجنون التي استعرضها أحمد سومات في عرضه المونودرامي “ليس لي اسم”، قدم الثنائي التونسي مريم بوعجاجة ومحمد شنيتى عرضا مسرحيا راقصا حمل عنوان “غفلة”، وهو عرض رقص معاصر يحمل رؤية مختلفة لثنائية الروح والجسد.
ينطلق العرض الذي امتدّ لأكثر من نصف ساعة بظهور الراقصين وسط دائرة ضوء، يجسدان رقصة ثنائية ضمن تشكيلات حركية متناسقة ومتناغمة إلى حدّ التماهي بينهما. ورويدا رويدا يتصاعد النسق حينا ويتباطأ أحيانا في انسجام مع الموسيقى المرافقة، ليختلط الأمر أحيانا على المتلقي الذي يتابع العرض فيصبح غير قادر على تمثل حقيقة الدلالات التعبيرية لحركات جسد الراقصين ورمزيتها، فهما يتواجهان ويلتحمان ثم ينجذبان وينفصلان ويتدافعان.
بأضواء خافتة وأجواء هادئة وديكور مختصر تغوص مريم بوعجاجة في أول أعمالها الكوريغرافية في عالم متذبذب باستمرار بين الهشاشة والخطورة؛ راقصان يلبسان الأسود على الخشبة، تتناسق حركاتهما وجسداهما في انسجام مع الموسيقى، رغم تذبذب إيقاعاتها بين السرعة والبطء، لكنهما ينجحان في الحفاظ على تقنية التناظر المحوري التي انبنى عليها عرض “غفلة” حيث لم يغفل عن طرح إشكاليات: الأنا والآخر، الذكر والأنثى، القريب والبعيد، الحبيب والغريب، لتبقى الأسئلة الأهم؛ من نحن؟ من نكون؟ وإلى أين نمضي؟
يهتز جسدا الراقصين ويهدآن، ثم ينتفضان ويثوران في حركات متداخلة فوضوية تعبر عن اضطراب المشاعر وتقلبها بين المتناقضات، لينتهي العرض بإزالة الراقصة للحواجز الموجودة على الخشبة في حين يظل محمد الشنيتي وحيدا في دائرة ضوء بداية العرض، ربما كي ينطلق من جديد. وعن نص مقتبس للكاتب الألماني برتولد بريخت والذي يحمل عنوان “القاعدة والاستثناء” قدمت المسرحية المصرية “زي الناس” لمخرجها هاني عفيفي، فكرة الصراعات الطبقية من خلال فضح أبطال العمل (وهم هشام إسماعيل، أحمد السلكاوي، سارة هريدي، سارة عادل، ماهر محمود، شادي عبدالسلام وكريم يحيى) للسياسات الرجعية وعودة ظهور الفاشية من جديد، إضافة إلى نقد ظاهرة الرشوة وطريقة تعامل الطبقات الغنية مع الطبقات الكادحة لتتحول الرحمة إلى شذوذ.
وتدور أحداث المسرحية حول توجّس تاجر اسمه كارل لونجمان من مرافقيه (الدليل والحمال)، حيث يصطحبهما معه في رحلة تجارية من أجل الاستيلاء على بئر للنفط، والرحلة تكون هذه المرة في اتجاه الصحراء وفي بلد جديد. ويظل التاجر كارل لونجمان يحمل معه طوال الرحلة شعورا بالخوف والرعب من فكرة أن مرافقيه سيتآمران عليه، ويمكن أن يصل بهما الأمر إلى قتله والاستيلاء على ممتلكاته، وتسيطر فكرة التآمر على التاجر بعد أن يرصد نوعا من التقارب والعطف بين الحمال والدليل، مما يضطره إلى اتخاذ قرار بطرد الدليل من العمل ليواصل رحلته مع الحمال.
المسرحية المصرية "زي الناس" لمخرجها هاني عفيفي، قدمت فكرة الصراعات الطبقية من خلال فضح أبطال العمل للسياسات الرجعية وعودة ظهور الفاشية من جديد
ومع ذلك يظل الشك يرافقه إلى أن يصل به الأمر إلى قتل الحمال بعد أن ظن أنه سيقتله، في حين أنه كان سيقدم له الماء ليروي عطشه، وهو في قلب الصحراء، يتعلل التاجر الغني بأنه كان يدافع عن نفسه، ومن البديهي أن يقتل الحمال، لأنه كان ينوي الاعتداء عليه. وفي النهاية تترك المسرحيّة المشاهد حائرا بخصوص حكم القاضي ببراءة التاجر المتهم، فكيف يمكن للقاتل أن يتحصل على البراءة؟ وكيف يتحول القتيل إلى مذنب، لأنه خالف القاعدة وكان استثناء؟
وضمن أجواء انقلاب المعايير في زمن الكل ضد الكل يأتي العمل الكوريغرافي السوري “تخريب للمبتدئين 1ـ مكرر” عن فكرة لمي سعيفان وإخراج زياد عدوان، تشريحا ومحاكاة لحالة التخريب الحاصلة بسبب الحرب في سوريا، حيث بحثت الكوريغراف السورية مي سعيفان في العلاقة بين اللاوعي والوعي وتأثيرهما في حركة الجسد زمن الحرب.
وخلال تقديمه للعمل أشار مخرجه زياد عدوان أن الفكرة الأولى للعرض انطلقت من تجميع مقابلات مع سوريين في المخيمات والسجون والمعتقلات، حيث يروون عبر الرسائل الإلكترونية أو عبر الفيسبوك أو اللقاءات الشخصية تجربتهم مع الحرب في سوريا، فتشكلت بالتدريج ملامح مشروع “منامات سورية” الذي يندرج في إطاره عرض “التخريب للمبتدئيين 1- مكرر”، وهو من تجسيد كل من كريسكا فاغنر، مارتين نيكول روينا وفادي واكد. ومشروع “منامات سورية” يوثق منامات السوريين منذ بداية الاحتجاجات في سوريا سنة 2011 وحتى اليوم، وقد تم تقديم الجزء الأول من السلسلة عام 2013، وفي عام 2014 قدم الجزء الثاني “التخريب للمبتدئين 2”.
ليضيف الجزء الثالث من “التخريب للمبتدئين 1- مكرر” فصلا جديدا في البحث الكوريغرافي، وهو محاولة لتلمس ما الذي تبقى من عرض قدم قبل ثلاثة أعوام؟ وما الذي يحلم به السوريون اليوم؟ وكيف يجيبون على أسئلة طرحت عليهم قبل ثلاث سنوات؟ هي أعمال أربعة من بلدان مختلفة اتفقت وإن اختلفت في طريقة طرحها السينوغرافي بين مونودراما وكوريغرافيا وعروض مسرحية على إعلاء قيمة الحق في الاختلاف، وفي الحياة بعيدا عن ثنائية الهويات والأيديولوجيات.
المصدر : صابر بن عامر - العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق