مجلة الفنون المسرحية
نظرة آرثر ميلر من فوق جسر بروكلين
--------------------------------------------------
المصدر : جنى الحسن - العربي الجديد
نظرة آرثر ميلر من فوق جسر بروكلين
"تذكري أيّتها الفتاة، يمكنك أن تسترجعي مبلغ مليون دولار سُرق منك أسرع ممّا يمكنك أن تسترجعي كلمة تراجعتِ عنها".
هذه الجملة في مسرحية "منظر من فوق الجسر" للكاتب آرثر ميلر يقولها إدي كاربوني، أبرز الشخصيات الرئيسية، لابنة أخت زوجته، وهو يحاضرها عند العشاء حول أهمية النزاهة وحفظ الأسرار، مشددا على السرية كون العائلة تستعد لاستقبال مهاجرين غير شرعيين من إيطاليا هما ماركو ورودولفو في منزلهما، وبالتالي يؤكد لقريبة زوجته أنّ لا أحد يجب أن يعرف بوضعيتهما غير القانونية. لكن إدي نفسه في نهاية المطاف هو من يكشف أمرهما للسلطات، مدفوعاً بالغيرة وربما بالشغف أيضاً. وهذه الخيانة هي ما تصنع التراجيديا في المسرحية وتظهر التغير الجذري في شخصية إدي وتناقضاته. وانطلاقاً من هذه العبارة، نرى كيف أن الإنسان أحياناً لا يمكنه الحفاظ على كل ما يؤمن به، خاصّةً إن باتت رغباته الشخصية في خطر.
على مسرح أيزنهاور في مركز كينيدي الثقافي في العاصمة الأميركية واشنطن، استمر العرض على مدى ساعتين من دون استراحة، هذه المرّة من إخراج البلجيكي إيفو فانهوف الذي حصد جائزتين عن عمله هذا الذي قدّمه. وقد جرّد فانهوف العرض الذي يجدّد المسرحية التي عرضت للمرة الأولى عام 1955 من الإكسسوارات، مستغنياً عن أيّ ديكورات ضخمة. فبدا الممثلون، الذين كانوا حفاة خلال العرض (باستثناء حذاء كاثرين بالكعب العالي)، والمسرح المجرّد من الزينة، أشبه بالكائنات العالقة فيما يشبه حديقة الحيوانات، مع كائن شديد البدائية والخطورة هو إدي الذي أجاد لعب دوره الممثل فريدريك ويلر، وجسّده ككائن سيطرت عليه رغباته لتحوّله إلى رجل شرس ومخيف وخطير حتى على نفسه.
تاريخ المسرحية
كان ميلر قد سمع عام 1947 قصة مشابهة لتلك التي كتبها في المسرحية، لكن بعد أن أنجز الكتابة وعرضها للمرة الأولى في فصل واحد على خشبة مسرح برودواي في نيويورك، لم يتلقاها النقاد بشكل جيّد واستمرت المسرحية على مدى 158 عرضاً فحسب. وقد أزعج الأمر الكاتب الأميركي الذي كان يظنّ أنّ عمله مكتمل وصادم، ولم يرد أن يغير وقائع القصة التي اعتمدت على أحداث حقيقية وأن يعطيها بعداً فيه نوع من المغالاة. لكن هذه الواقعية هي ما اعتبرها النقاد جافة وغير مشجعة. ميلر كان يحاول أثناءها أن يعيد المسرح إلى ما كان عليه في إنتاج التراجيديات الإغريقية في مسرحيات من فصل واحد وحتى فيما كان الممثلون يتعلمون القيام به من الابتعاد عن الاستعراض والتخفيف من إظهار عواطفهم الشخصية في العمل لكي يتمكنوا من كشف أفكار وتصورات خفية عن الحالة البشرية.
لكن بعد سنتين، راجع ميلر المسرحية. وتزامن ذلك مع الفترة التي استدعي فيها الكاتب الأميركي في العهد المكارثي للإدلاء بشهادته في التحقيق حول المثقفين المتعاطفين مع الحزب الأميركي الشيوعي آنذاك. فقد واجه أمراً مشابهاً لما واجهه كابوني، لكن ميلر لم يتكلّم وفاءً منه لزملائه في الكتابة وأصدقائه.
في تعديله للمسرحية، ضخّم ميلر من شخصية كاثرين وشخصية زوجة إدي بياتريس، وأضفى مكاناً أكثر واقعية، هو أحد أحياء بروكلين. واستغنى عن استخدام الشعر في النص وكذلك غيّر النهاية ليكون موت إدي بين ذراعي زوجته وليس على قدميّ كاثرين. عرضت المسرحية بعدها في لندن ولقيت قبولاً واسعاً. لكن في عرض باريس لاحقاً، أعاد ميلر مرة أخرى كتابة المشهد الأخير في المسرحية، وبات إدي يقدم على الانتحار. في جميع الأحوال، ورغم كون الانتحار النهاية التي لاقت القبول الأوسع، عاد ميلر إلى ما اعتمده في عرض لندن كنهاية حين نشر المسرحية في مجموعة أعماله.
آرثر ميلر
وُلد ميلر عام 1915 في نيويورك وامتلك آنذاك والده عملاً جيداً في صناعة الملابس، وكانت العائلة تعيش في حي هارلم، إلى أن بدأ العمل يتدهور عام 1929 نتيجة الإحباط الذي عرفته أميركا وانتقلت العائلة إلى بروكلين. كطفل، كان ميلر نشيطاً ولم يمض أي وقت تقريباً في القراءة وكذلك لم يأخذ الدراسة على محمل الجدية حتى السنة الدراسية الأخيرة ولم تخوّله علاماته أن يدخل إلى الجامعة. وعمل بعد تخرجه في عدة مهن من ضمنها في المبيعات وهو ما أوحى له لاحقاً بمسرحيته الشهيرة "موت بائع متجول". عاد ميلر بعدها ولقي قبولا في جامعة بولاية ميشيغان حيث درس الصحافة عام 1934. دخل عالم الكتابة من خلال كتابة السيناريوهات وكان يجني المال من مهنته، وعرضت أول أعماله المسرحية عام 1944 "الرجل الذي كان ينعم بكل الحظ". لكنه ظهر ككاتب مسرحي وسطع نجمه عام 1947 حين كتب "كلهم أبنائي" والتي تتمحور أحداثها حول صاحب مصنع باع قطع غيار محركات طائرات معطوبة للجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية.
الهجرة غير الشرعية
كالفترة التي كتبت خلالها، تدور أحداث "منظر من فوق الجسر" في منتصف خمسينيات القرن الماضي وتحديدا خلال الفترة التي هرب فيها الكثير من الإيطاليين من بلادهم هرباً من الفاشية، وبحثاً عن مستقبل أفضل في "الحلم الأميركي". يبدأ العرض بالمحامي الإيطالي-الأميركي ألفيري الذي يتحدّث عن حي "ريد هوك" في بروكلين وحيث الأغلبية من المهاجرين الإيطاليين وتحديداً المهاجرين من صقلية. ويتحدّث المحامي مباشرة إلى الجمهور كونه هو أيضاً راوي القصة ويوضح السياق الاجتماعي لأحداثها. لكنّه أيضاً شخصية في القصة حيث هو من يلجأ إليه إدي لكي ينصحه حول ما إذا كان زواج أحد المهاجرين الشرعيين اللذين في منزله بقريبته كاثرين يعتبر شرعياً. وترمز شخصية ألفيري إلى الجسر بين القانون الأميركي والقوانين العشائرية أو بالأحرى الأعراف التي أتى بها المهاجرون الإيطاليون معهم إلى أميركا. فهو يبقى وفياً لجذوره وللتقاليد الإيطالية، رغم دراسته للقانون في أميركا. وبالتالي القصة يرويها من وجهة نظره ليبدو هو أشبه بجسر بروكلين المطل على حي "ريد هوك" المليء بالمهاجرين والعمال ومن جهة أخرى المطل على منهاتن حيث الثروات والنخبوية الثقافية. هذان العالمان يلتقيان في شخصية ألفيري.
العجز والتراجيديا
ألفيري هو من يعرفنا على شخصية إدي، المهاجر الذي يعمل في تفريغ وشحن البضائع على رصيف ميناء بروكلين، والذي يعيش مع زوجته وابنة شقيقتها كاثرين. تنشأ داخل إدي وهو يراقب كاثرين وهي تكبر عاطفة تجاهها، رغم أنّها فقط في السابعة عشرة من عمرها. وحين تلبس الحذاء بالكعب العالي، يبدأ برؤيتها كامرأة. وحتى حين يحتضنها ويقبلها من باب أبوي كحاضنٍ لها لأنّه رباها منذ الصغر، يشعر بالحب تجاهها. وهذا الحب غير المنطقي والأقرب إلى سفاح القربى يتملّكه كما يتملّك الإنسان شيطان غريب عنه ويحرّكه من دون إرادة. وهذا عنصر آخر من عناصر التراجيديا، تصوير الإنسان على أنّه كائن عاجز أمام قوى أخرى. هذا العجز ينسحب على شخصية ألفيري الذي لا يتمكّن من تغيير مسار إدي أو منع المأساة، بل يصبح راويها فحسب.
حين يخبر ألفيري عن لجوء إدي إليه لاستشارته، يصف عينيه بأنّهما كانتا أشبه بنفق، ويقول إنّ الفكرة الأولى التي راودته حين رآه كانت أنّه ارتكب جريمة ما، ويتابع "لكن سرعان ما رأيت أن الشغف فقط انتقل إلى جسده، كغريبٍ ما". وهنا أيضاً نرى حتمية الأقدار كأنّ هذا الشغف، كما يصوّره الراوي، ليس عاملاً داخلياً وجزءاً من شخصية إدي بلا عامل خارجي دخيل عليه.
وقد يكون تصوير الشغف كعامل خارجي هو أنّه أتى نتيجة وصول ماركو ورودولفو إلى حياة الأسرة التي كانت سعيدة وهانئة قبل أن يعي إدي مشاعره تجاه كاثرين. وإذ يمثل ماركو الشاب الذي يسعى إلى جمع بعض المال في أميركا والعودة لمساعدة أسرته الفقيرة، يمثل رودولفو الرغبة بالاستقرار في أميركا وبناء حياته هناك. دخول الشابين إلى حياة العائلة ليس بحدّ ذاته الحدث الأبرز، بل نشوء علاقة عاطفية بين رودولفو وكاثرين، وهذا ما يهزّ كيان إدي جذرياً ويفقده صوابه.
يبدأ الصراع في داخله بين تقبل هذه العلاقة وإخراج فكرة كاثرين كامرأة من ذهنه وبين الوشاية بالشقيقين إلى مكتب الهجرة، هو الذي يحاضر عن أهمية عدم تراجع الإنسان عن كلمته. يتغلب الشغف، أو ذاك الكائن الغريب الذي امتلك إدي، فهو لا يشي فقط بالشابين لمكتب الهجرة، بل يتهم رودولفو أيضاً بالمثلية الجنسية ويحاول بشتى الطرق عرقلة علاقته بالفتاة.
بياتريس زوجة إدي تبدو كشخصية امرأة تقليدية، لكن حنونة وعاطفية، وكذلك منطقية وغير انفعالية. ولكن ككاثرين، تبدو شخصية بياتريس، وبالتالي الشخصيتان النسائيتان الرئيسيتان غير مكتملتي الملامح وليس هناك إضاءة كافية على شخصيتيهما.
مشهد مؤسف
وإن كان ألفيري يمثل الجسر بما يربط الجاليتين الأميركية والإيطالية، فإنّ إدي يمثّل التمزّق وانتصار الانتماء الذاتي أو الدوافع الشخصية على الانتماء القومي بمعناه الأكبر، أي الانتماء إلى المجموعة. فهو يدمّر سمعته كرجل إيطالي وسط الجالية التي يعيش معها في بلد غريب عنه. ولا يريد أن يكون جسراً لابن بلده إن كان الأخير سيسلب شيئاً ما منه. يصبح أشبه بكائن غريزي وحيواني وإن كان يلقى حتفاً مؤسفاً في النهاية. الأمر المفروغ منه هو أن المنظر من فوق الجسر ليس ممتعاً للنظر كما يبدو فعلياً حين يراقب الناظر فقط أضواء مدينة نيويورك. إنّه مشهد متعب ومشحون بالمشاكل، ويصبح أكثر إزعاجاً حين يقترب مستوى النظر إلى الداخل، داخل الأحياء وداخل المنزل. إنّه مشهد مؤسف.
المصدر : جنى الحسن - العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق