مجلة الفنون المسرحية
«مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي» لرشيد بناني: رحلة إمتاع ومؤانسة تجمع بين المنهجين التاريخي والتجريبي
الطاهر الطويل
يأتي كتاب «مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي» استمرارا لمشروع نقدي كرسه الباحث المسرحي المغربي رشيد بناني للتأريخ لتجربة بعض أعلام المسرح المغربي، تجلّى في الكتب التالية: «حفريات في ذاكرة المسرح المغربي: محمد القري»، «تجارب وأعلام»، «المسرح المغربي قبل الاستقلال: دراسة دراماتورجية».
«مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي» لرشيد بناني: رحلة إمتاع ومؤانسة تجمع بين المنهجين التاريخي والتجريبي
الطاهر الطويل
يأتي كتاب «مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي» استمرارا لمشروع نقدي كرسه الباحث المسرحي المغربي رشيد بناني للتأريخ لتجربة بعض أعلام المسرح المغربي، تجلّى في الكتب التالية: «حفريات في ذاكرة المسرح المغربي: محمد القري»، «تجارب وأعلام»، «المسرح المغربي قبل الاستقلال: دراسة دراماتورجية».
في هذا الكتاب الجديد، الصادر ضمن منشورات «أمنية» في الدار البيضاء، يتناول بناني مسار الطيب الصديقي، عبر بابين، يحمل أولهما عنوان: «الطيب الصديقي حياة فنان»، ويضم فصولا متعاقبة للشخصية موضوع الدراسة من الميلاد والطفولة، مرورا بمرحلة التكوين، والبدايات أو البحث عن مسرح شعبي، وصولا إلى مرحلة النضج والإبداع الفني، سواء خلال إدارة المسرح البلدي في الدار البيضاء أو خارج هذه المؤسسة. أما الباب الثاني المخصص لتطور الكتابة المسرحية عند الطيب الصديقي فيتضمن مقاربات دراماتورجية للأعمال المبكرة المنجزة في إطار الاقتباس والترجمة وكذلك للنصوص المؤلفة.
ومثلما جاء في مقدمة الكتاب التي تحمل توقيع الباحث والناقد المسرحي عبد الرحمن بن زيدان، فإن رشيد بناني في هذه الدراسة النقدية يريد أن يوثق للتجربة بتتبع حياة الصديقي، من دون إغفال كل اللحظات المؤثرة في تكوينه، وفي تكوين التجربة الحياتية والفنية لهذا المبدع الذي أوصله إبداعه المسرحي إلى المديات المغربية والعربية والعالمية.
أول إجراء منهجي تبناه الباحث رشيد بناني للتأريخ لتجربة الصديقي، هو تحديد زمن البحث في الفترة الممتدة ما بين 1965 و1980، مبررا تبني هذا الإجراء بأنه اختيار دقيق ومقنع بالفترة الخصبة التي وسمت العطاء المسرحي عند الطيب الصديقي، الذي أثبت فيها قوة التجربة المسرحية الباحثة عن إرساء مسالك البحث عن مسرح عربي أساسه الأصالة في التجربة على مستوى الرؤية وعلى مستوى الإخراج وعلى مستوى الاختلاف، من دون التخلي عن ربط كل تجربة بمرجعياتها، حتى لو كانت خطاباتها تتناقض مع الدعوة إلى هذا التأصيل، لأن الأساس عنده هو تحريك الاهتمام بالجديد المسرحي لتحرير المسرح من كل كلام لا يصل إلى بناء الفرجة المسرحية الممتعة.
ويرى بن زيدان أنه مع كل تحول في تجارب الطيب الصديقي الكتابية، فإن موضوع قراءة العالم المسرحي لهذا الفنان يزيد استشكالاً، لأن هذا الموضوع لا يبقى محصورا في كتابة نص المؤلف وكتابة زمن الفرجة بهذا النص، لأن الصديقي معروف بتعدد المواهب والكفاءات والثقافات، بها يصرف وجوده في الميدان الفني ليبني نتاجه المسرحي، فهو أثناء تفكيره في منجزه المسرحي يفكر ككاتب ومخرج وممثل، وفنان تشكيلي وخطاط، ورئيس فرقة ومدير مسرح ومنظم جولات فنية وكاتب سيناريو الفيلم، وهذه المكونات هي التي وثقت صلات ذاكرته الثقافية بالممارسة المسرحية التي وسمت حضوره بالجرأة والإقدام على التجريب المسرحي، وهو ما جعل عنوان الدراسة التي يقدمها رشيد بناني موسومة بـ»مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي».
ومن هذه المغامرة في الاقتباس والتأليف المسرحي، والتوجه بها نحو تأصيل المسرح العربي، تحددت منهجية الكتاب باللجوء إلى تبني المنهج الكرونولوجي لكتابة حياة الصديقي، اعتمادا على اختيارين اثنين هما: تجميع كل المعلومات حول السيرة الخاصة للصديقي، وتحديد المتون المسرحية كنصوص أو كعروض كتبت خصوصيات التجربة المسرحية الصديقية بتناقض الزمن الذي عاش فيه، أو تأثر به أو تفاعل معه.
هذه المغامرة البحثية حول التجربة المسرحية للطيب الصديقي هي التي توخى بها الباحث رشيد بناني الإحاطة بمجمل تجربة الصديقي، والتعريف بتوجهاتها الفنية، والتعريف بالبنيات العميقة لدلالاتها إيديولوجيا ـ من جهة ـ والكشف عن خطاباتها التي كثيرا ما كان ينفي بعض النقاد أي دور لها في التواصل مع المتلقي المفترض ـ من جهة ثانية ـ لأن ما يهم الصديقي هو المتعة البصرية والإمتاع والمؤانسة، بعيدا عن السياسة والسياسيين؛ لكن وعلى الرغم من هذا الابتعاد ـ المُفترض ـ فإن الصديقي كان يوظف بلاغة السخرية في مسرحياته، منتقدا خلل المجتمع، وخلل العلاقات بين الطبقات الاجتماعية، وكان لا يتوانى في اختيار النصوص التي تصير عنده قناعا مجازيا لتمرير هذا النقد وهذه السخرية اللتين تبنيان لحظات الفرجة عنده، مرة بفن الارتجال، ومرة بالحوار المكتوب في النص الأصلي، ومرات بالذاكرة التراثية الشعبية والعالمية.
عندما أراد الباحث رشيد بناني أن يجعل من الطيب الصديقي موضوع اشتغال مصنفه النقدي ليقدمه في هذا الكتاب، فإنه وضع استراتيجية بها أراد أن يتتبع السيرة الغيرية للصديقي، ويعود إلى أقوال الصديقي نفسه، ويعتمدا على جل المتابعات النقدية التي واكبت التجربة، وهو ما كان قد دشن به أول بحث جامعي عن الطيب الصديقي. وهذا المنطلق الذي أسس به علاقته مع عالم الصديقي جعله مفتونا بهذه التجربة التي ترجمها ترجمة خاصة في هذا المصنف، وكأنه يعيد قراءة ما قدمه في جامعة «إكس مارسيليا» كي يضيف ما يراه مناسبا لتقديم التجربة بشكل متكامل يستوفي فيه شروط البحث في عمق مسرح الصديقي.
وفي هذا الكتاب «مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي» يضع الباحث رشيد بناني في سياق بحثه أهم ما يشغل فكره، ويأخذ باهتمامه وهو يروم مقاربة تجربة الطيب الصديقي والتأريخ لها. ومن بين هذه المواضيع ذات العلاقة بالتأريخ للسيرة الصديقية: البدايات أو البحث عن مسرح شعبي (1957 ـ 1965)، «مركز الفن المسرحي» بالمعمورة (1958 ـ 1960)، في المسرح البلدي في الدار البيضاء ( 1960 ـ 1962)، مرحلة النضج والإبداع الفني (1962 ـ 1965).
إن تناول مكونات تجربة الصديقي معناه في هذا الكتاب ذكر كل ما يتعلق بالسيرة الفنية للصديقي، واستحضار علاقاته مع أعلام التأسيس المسرحي المغربي اقتباسا وتأليفا فرديا، أو تأليفا جماعيا، أو إخراجا مسرحيا، أو تأسيسا للفرقة المسرحية. وهو في هذه العملية التأريخية كان وكأنه يكتب مدخلا عاما نظريا لما سيقدمه لاحقا في هذا المصنّف والمتعلق بموضوع له أهمية بالغة في الممارسة المسرحية عند الطيب الصديقي، وهو فعل الكتابة المسرحية وتطورها.
لقد اختار رشيد بناني، بعد المنهج التاريخي في الكتابة عن الصديقي، منهجا تجريبيا أراد به تفكيك وقراءة وتجميع، كل أشكال الكتابة المسرحية وصنّفها حسب تجربة الاقتباس والترجمة مع (المسرح العمالي ـ 1965 ـ 1959 ) ونموذجه مسرحية «المفتش» التي وصفها بالمغربة العصرية، ومسرحية «فولبون» أو الترجمة إلى الدارجة المغربية، أو العودة التدريجية إلى المغربة، ومسرحية «مومو بوخرصة».
وتتمظهر الدراسة التطبيقية في هذا الكتاب في مقاربة النصوص التي ألّفها الصديقي، حيث أبرز الباحث رشيد بناني أهمّ المحاور التي أثث بها عملية قراءة العديد من المسرحيات الصديقية، وقام بكشف التركيب التاريخي لهذه المسرحيات ليمزج ما بين التحليل الدراماتورجي والكشف عن البنيات العميلة للرؤية السياسية عند الصديقي، مؤكدا أن هذا المخرج وظف «المسرح في خدمة النظام السياسي». وأثناء الكشف عن الوظيفة السياسية التي كانت تحدد اختيارات الطيب الصديقي لبناء فرجاته المسرحية بالشكل الإخراجي الجديد المُبهر، كان الباحث رشيد بناني يتناول بُعدا آخر من بين الأبعاد الاجتماعية التي ابتعد بها الصديقي عن السياسي ليلامس قضايا اجتماعية تتناول موضوع البادية، وهو ما حققه في ورش تجريبي قدمته مسرحية «في الطريق».
وفي سياق التحليل الدراماتورجي الذي كان يستعين به الباحث في تحليل نصوص الطيب الصديقي ويستعين به في القراءة السياسية لمضامين بعض النصوص، فإنه كان لا ينسى أن استخلاص خصوصيات الكتابة عند الصديقي لا يمكن أن تتحقق إلا بالقراءات المتعددة التي تمتلك أدوات التحليل للوقوف على تداخل دلالات الخطابات المسرحية في النص المسرحي المكتوب بالمواقف المتناقضة، والسائرة نحو الغاية الأساس من الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي، وهي تأصيل المسرح فرجة وموضوعا وسخرية وإبهارا، وهو ما حققه الصديقي في المسرحية التي أثارت جدلا قويا بين المسرحيين العرب وهي مسرحية «مقامات بديع الزمان الهمذاني» القائمة على المونتاج الأدبي التراثي، والقائمة ـ أيضا ـ على تأثيث فنون الفرجة الشعبية بالحلقة والبساط، فجعلته يُخرج المسرحية إخراجا مُبهرا احتفاليا، فصيحا تداخلت فيه جمالية التمثيل، بجمالية الغناء الشعبي، أثناء توظيف التقنيات السينمائية في تحريك الكتل، وتوظيف الخط العربي لإنجاز الديكور الذي هو زمن الكتابة المكانية للعرض.
وفي مسرحية «ديوان سيدي عبد الرحمن المجدوب» يصف الباحث هذه التجربة بعد معاينة خصوصية كتابتها بـ:»التركيب الأدبي التراثي» لأنه عاين كيفية صياغتها الأدبية، ورصد كيف وظف الصديقي الحلقة لبعث الحيوية في حركية الفرجة، ومن هذا الوصف ركّز رشيد بناني قراءته على شكل الفرجة موظفا في ذلك كل أدوات التحليل، ويستعين بمناهج أخرى لفتح مجالات القراءة على ما هو موجود في كلامها.
وهكذا، يتبين من خلال كتاب «مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي» ـ كما يسجل عبد الرحمن بن زيدان ـ أن رشيد بناني، بكل ما قدمه من تناول عميق وهادئ ومتأمل للتجربة المسرحية للصديقي، يبرهن من جديد على كونه باحثا متمكنا من أدواته النقدية، وعارفا بموضوعه، وأنه قام بجهد كبير في تجميع المراجع، وترجمة العديد منها وجلها ينتمي إلى موضوع النقد الجديد، وأنّه استحضر المتون الصديقية المترجمة منها والمقتبسة والمؤلفة، وكلّ سعيه هو الوصول بقراءته إلى تحقيق قراءة عاشقة لمسرح مغربي، كان فيه الطيب الصديقي أحد الرواد الحقيقيين الذين رسخوا الفعل المسرحي في المغرب.
------------------------------------------
المصدر : القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق