مجلة الفنون المسرحية
يوسف الحمدان
يوسف الحمدان
ليست العبرة في الغالب في كل العروض التي يستضيفها المهرجان، إنما العبرة قد تكون في عرض مسرحي واحد وحيد، يشكل اتجاها نوعيا واستثنائيا في المسرح، ويفتح أفقا يتجاوز في معطياته ودلالاته الفكرية والفنية، التوصيفات الإبداعية التي نلهج بها كلما شاهدنا عرضا مسرحيا لافتا وآسرا في مفرداته وعناصره الخلقية.
هكذا قرأت أفق (المجنون) لساحر وفيلسوف الصورة الحية الخلاقة والمتشظية والمتفلتة والمحيرة والمبهمة والمورطة في وطننا العربي المخرج التونسي توفيق الجبالي، حيث تتحول كل مفردات وعناصر الخلق المسرحي، من صوت ولون وتشكيل ونحت ورقص وسمهجات وهلوسات وحكايات وموسيقى وذبذبات ووشوشات وتجليات صوفية مهووسة بالذي لن يأتي ولن يستقر، تتحول إلى صورة حية تختزل كون جبران وتضعه في محور فلكي يشبه درب التبانة، حيث لا تميز الضوء عن السديم، ولا حركية الكون عن ثبات محورها وتفلته.
إن اشتغالات واشتعالات الجبالي المخبرية القلقة في المسرح، غالبا ما تقترح على مؤديها ومتلقيها لغة هي من (الجنون) الذي لا يأبه بالتوصيف أو التصنيف، ولا يأبه بالتوضيح أو الغامض والمبهم. هي لغة ليست في وارد التعاطي مع المسرح بوصفه فعل ممثل وفضاء للتمثيل أو التمسرح، إنما هي لغة اشتباكية مع الأحياء والأشياء، مع النقائض والمتضادات، مع المخفي بوصفه أكثر (جُنًا) من المخفي ذاته، مع الوهم بوصفه حلما، ومع العذابات بوصفها مسارات لا حدود لانتهائها ولا ملامح لأسرار منابعها.
إنه يلج بنا إلى ذرى أمواج يصعب علينا تخطف ُطشارها الزبدي، وإلى استقصاءات مخبرية تتجاوز حصرها في البحث الجسدي السائد، إذ كل الحالات في (مجنونة) الخلاق المتفلت، هي في كل حالة منها استقصاء مخبري، ففي الوقت الذي ترعف فيه أجساد ودواخل خيوله الحرة، بما يعتمل بها من قلق ومحاولة للهروب نحو الفضاء الأكثر تحررا، في الوقت ذاته يكشف لنا ليلها الخلاق عن مبهمات لكائنات يكتسيها ظلام مريب وملبس، وكما لو أن هذه الحيوات المبهمة ظلالات تحيا في جوانح كمائن هذه الأجساد (الخيول)، وهذا الظلام المتعدد الحيوات والمبهمات والأوهام والدروب الغرائبية المريبة.
إن الجبالي لا يعنيه أن يكون الممثل في (مجنونه) و(جنونه) محورًا كي يتحقق العرض، ولا تعنيه التماثلات المرتبة كي تتحقق النتائجية والتماثلية البصرية والصوتية في العرض، يعنيه أن يكون المسرح وإن لم يكن الفضاء، تعنيه الحالة التي من شأنها أن تنتج حياة في المسرح وإن لم تكن حية بالمعنى البيولوجي أو المادي، تعنيه اشتباكات الأزمنة النفسية والميتافيزيقية في حيزها الأكثر مواربة وقلقا وحيرة.
لذا حتى لو كانت الأصوات المسجلة والوشوشات والذبذبات وحدها تتملك فضاء العرض أو فضاء الجنون، فمن شأنها أن تنتج وتشكل عرضها وأفقها. كل الأجساد في هلوسات الشاعر المجنون (جبران والجبالي)، صورًا حية، تتآخى وتتقاطع مع كل الكائنات الأخرى في العرض، كما أنها صور تتمنتج في الآن ذاته ويخبو وهجها في الآن ذاته أيضا، ويظل بحثك عنها، هو بحثك عن الصور التي ضلت طريقها في مخيلتك البصرية.
وتظل تبحث وتبحث، تصعد وتهبط، وكما لو أنك سيزيف الجنون الكوني الذي أومضه الجبالي في لحظة صورية بصرية هائلة الضوء والعتمة والريبة، لتبدو أمامه متكأ الأثر الأول لقدم الصعود نحو سلم العذابات الكوني، ونحو أمل يأخذنا نحو الصعود إلى الهاوية.
يستحضر (جنون) الجبالي سيزيف كوننا المضني في لحظة برقية مؤثرة، ليظل في كل وهلة ماثلا بقوة في دواخلنا، ولتتشكل من بين محيط عتمته (التبانية)، أفضية صورية تتجلى في نثار ضوء هنا يخطف أعيننا نحوه للحظات ومن ثم يخبو، لتتشكل معه مواويل حزن تأتي من بعيد قاع ذاكرتنا ومخيلتنا، لتستقر في ذاكرة ومخيلة حضرت اللحظة وتجاوزتنا إلى لحظات غريبة ظلت تشاغب أوهامنا وستظل حتى قاع أخرى أشد شراسة وفتكا لتكهناتنا بمصيرها ومصيرنا.
هو الليل، هو الظلام، هو سحر اللون، هو منبلج الخلق والكون والصورة، هو الصوت المبتدى واللامنتهى، هو نحن والآخر وما بعد الآخر، هو شاشة المسرح والفيلم والوهم والحلم، هو ورطة لعبة ( البازل) التركيبية والمركبة التي اختزل فيها (جنون) الجبالي رؤية أخرى جديدة لبورتريه جبران خليل جبران، ليتماهى في حيزها غير المكتمل (المجنون) و(الجنون)، ولينتج من خلالها الجبالي أفقا جديدا وخلاقا وساحرا في عالمنا المسرحي بكونيته المنفتحة على رؤى نحلم يوما أن نحقق شظايا صورة منها.
-----------------------------------------
المصدر : الأيام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق