مجلة الفنون المسرحية
الكوميديا أو رغبة الإنسان الضاحك في التغيير
الكوميديا أو رغبة الإنسان الضاحك في التغيير
د. نرمين الحوطي
ان الكوميديا حينما تعرف عليها الفنان في الدراما القديمة الاغريقية لم تكن تعني فناً بعينه،.. بل كانت عبارة عن حركات متنوعة متباينة ومتغايرة أتى بها أفراد في احتفالات تسلية وطقوسية وكانت خليطاً عجيباً ولم يكن لها صورة محددة بل تمازجت فيها الحركات غير المنتظمة والتي أتت بأشكال تبعث على الضحك.
وقد عرفت هذه الحركات قديماً باسم كوموس Comos أتكا.. وهو طقس شعبي كان فيه مجموعة من المهرجين العابثين ينتظمون في مواكب ويرددون الأغاني التي كانت منتشرة ولكن لم نعرف اسم مؤلفها وهي تتعلق بالاشارة للإله دبونسوس وقد عدلت تلك الكلمة في اللغات الأوروبية باسم Comedy وقد لبست فيها الجوقة ملابس حيوانات وطيور.
على أن تلك العروض العشوائية ما لبثت أن قننت على شكل مسرحية لها حدودها وعرفت باسم المسرحية «الساتيرية» والتي كانت تقدم مع الثلاثيات التراجيدية كنوع من التسلية بعد عرض مأسوي. ثم تستقل عن التراجيديا أو العروض الثلاثية ويصبح لها كاتب محترف متخصص وكان أرستوفانيس والذي استقل بالكوميديا كفن له أصوله وله مميزاته وله أهدافه وله أشكاله.
وقد اعتمدت الكوميديا عن ارستوفانيس على خطوط خالف فيها قواعد المسرح الكلاسيكي القديم وذلك حينما لجأ الى اغفال الوحدات الثلاث في المسرحية الكوميدية.. كذلك نزل بالشخصيات من مكان العظمة الى أدنى مرتبة الى الحضيض حتى أن الكوميديا عنده جعلت خادم الإله باخوس في مسرحية «الضفادع» من أهم شخصياتها.. كذلك النزول باللغة الشعرية الشاعرية الى الاسفاف وهي ظاهرة عامة لكل ملاهي هذه الفترة عند ارستوفانيس، كذلك فقد أهملت مسألة القدرية تماماً واستعاضت عنها بسلطان المنطق والعقل.. وقد تطرق تلك الكوميديا في موضوعاتها الى نقد الحياة عن طريق التصوير الكاريكاتيري(...).
(...) وقد أعقب بعض الكتاب الكوميديين بعد أرستوفانيس منهم فيلمون، ديفيلوس، بوسيديبوس... وغيرهم، وعلى رأسهم ميناندر الذي ارتقى بفن الكوميديا عما كان عليه سابقاً وغير مفهومه ومدلوله وحلّت الابتسامة محل الضحك الصاخب وشطحات الخيال.. وأدخل موضوعات جديدة على فن الكوميديا مثل موضوع الحب والميل بالهزل الى نوع جديد سميت بالملاهي المحزنة وذلك لأنه تأثر بالكاتب التراجيدي يوربيدز والذي لم يؤمن به اطلاقاً أرستوفانيس بل كان يهاجمه على طول الخط الكوميدي حتى انه ينشأ له محاكمة علنية في مسرحية الضفادع.
لقد انتقلت الكوميديا في عهد ميناندر من مرحلة البطولة الى المرحلة الواقعية من المثالية الى العادية من المرحلة المتزمتة الى العاطفة والمأساة وقد كانت مسرحية «هيلين» نموذجاً لكل هذه السمات.
بلوش
ثم ننتقل الى عصر آخر وكاتب ترك بصماته في تاريخ الكوميديا وهو «بلوتس» الذي كتب للمسرح الروماني كوميديات جمعت بين أسلوب ميناندر وبعض عادات أرستوفانيس فجاء أسلوبه مشوشاً للحوار العادي وشخصياته نماذج بشرية مرسومة بصورة تقريبية وأهمها «الرقيق المضحك» وهو شخص متآمر نشيط الحركة ووقح.. يتدخل دائماً فيما لا يعنيه مما يجلب له الضرب بالسوط وكان هو الروح الكوميدية المحركة لكل ملاهي بلوتس العشرين..(..).
وإذا كانت الكنيسة قد حرمت فن المسرح بشقيه وبخاصة الكوميدي الذي وصف بالمجون والمسخرة لما أتى من أفعال خارجة لا يحث عليها الدين المسيحي آنذاك إلا أن المسرح هو المسرح.. وكما ولد من خلال العبادات للآلهة في القرن الخامس قبل الميلاد ومات من خلال الكنيسة.. يولد مرة أخرى في أحضان الدين ولكن بمسميات مختلفة منها مسرحيات الأخلاق والأسرار والخوارق... وغيرها والتي نبعت من الديانة المسيحية.. وكما بدأت التراجيديا الإغريقية تبعتها الكوميدية.. فإن المسرح هو المسرح أيضاً حيث يبدأ الشكل الجدي أولاً ثم يعقبه الشكل الكوميدي ولكن يختلف عند بدايته.. فتسمى بالروايات الهزلية.. الفواصل التي ظهرت في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصرالنهضة وقد ظهرت في المانيا ومن أشهر عروضها المسرحية «الطالب المتسلل من الفردوس».. ثم انتشر هذا الشكل في فرنسا وانجلترا ومن أشهر هذه المسرحيات في فرنسا «بيير باتيلان 1469» وفي انجلترا تمثيلية «قسيس وفتاة» ويعد الكاتب الانجليزي «جون هيود» هو أول كاتب ملهاة انجليزي كتب ما يقرب من عشر مسرحيات في أوائل القرن السادس عشر وأشهرها «البيهات الأربعة» بمعنى أربع شخصيات مسماة بأسماء مجرورة تبدأ بحرف الباء «المحبوب غير المحب.. المحب غير المحبوب.. غير المحب وغير المحبوب.. المحب المحبوب».
ايطاليا
ثم تأخذ الكوميديا ثوباً جديداً في ايطاليا وكانت المتغيرات في أوروبا قد أثمرت النهضة.. وقد تأثر المسرح الكوميدي بكوميديات بلوتس وتيرنس والتي احتفظت بحيوية الملهاة الرومانية في بادئ الأمر والتي أيضاً سرعان ما تختفي.
ومن كتاب الكوميديا في ايطاليا في ذلك الوقت نذكر «أريستو» ومسرحيته «العلبة 1508» وكانت نثراً.. ثم أعيد كتابتها شعراً عام 1529، ثم الكاتب ماكيافيللي ومن مسرحياته «ماندر اجولا 1506» حيث أن حيل وروح الملهاة أصبح ينمو ويتسع نطاقها بسرعة في ايطاليا وتعدد كتاب الكوميديا وتعددت المسرحيات الكوميدية وينطلق المسرح الكوميدي في بلدان أوروبا يقدم وجهات النظر ويعالج بعض السلبيات ويعمل غالباً على بث المرح والضحك.
كوميديا دي لارتي
وتنتقل الكوميديا الى شكل آخر في ايطاليا.. هذا الشكل هو كوميديا الفن أو «الكوميديا دي لارتي»، وفي بداية القرن السابع عشر ومن خلال مسرحية «أركاديا المسحورة» والعروض التي كانت تقام في بلاط الأمراء والحوارات المرتجلة البعيدة عن التسجيل والتي أعطت للممثل الحرية المطلقة في أن يأتي بألفاظ وليدة اللحظة ولكن في حدود سيناريو متفق عليه.. حتى انه لم يثبت ان تطابقت حفلتان من حيث الحوار ولكن من حيث السيناريو فهو ثابت.. وكانت الشخصية النمط من مميزات هذا الشكل من المسرح الكوميدي «بنطلون تاجر البندقية.. الدكتور عالم من بدوا.. الكابيانو وهو جندي فخور.. الزايد وهو الخادم أو المهرج» وهذه الأنماط كانت تعرف من أزيائهم المسرحية وكان على كل شخصية أو نمط أن يعد الكم الهائل من الألفاظ التي تناسبه.
وقد انتقلت هذه الكوميديا من خلال فرق متجولة ايطالية لبث هذا الشكل في فرنسا وبقية الدول الأوروبية الأخرى والتي لاقت فيها اقبالاً من الجماهير ونجاحاً في العروض التي قدمتها.. وكان لانتقال هذا الشكل الفني في بلدان أوروبا أن قام الفنان بتعديل أسماء الأنماط التي ولدت في ايطاليا كمناخ فني محلي.. حيث خلقت انماط بمسميات تناسب الدول الأخرى، فمثلاً في ألمانيا يبتكر نمط «هنفرست» ثم في فرنسا تجد النمط «بييرو» المسكين.. وفي انجلترا يتطور النمط «بونشينللا» الى «بنش».. وقد سيطر ذلك الشكل الكوميدي على المسرح قرابة مائتي عام وللأسف لم تسجل الأعداد الهائلة من المسرحيات التي عرضت سواء في ايطاليا أو بقية الدول الأوروبية، وقد تأثر المسرح بهذا الشكل الذي أنعش الحركة الفنية بصفة عامة، ورغم ذلك فإن هذا الشكل لم يستطع أن يمنح البشرية بمسرحية خالدة، ولكنه أنشأ صورة المسرح التي لم تزل باقية حتى اليوم وهذه بالطبع مفارقة عجيبة.
موليير
غير أن الكوميديا تتخذ شكلاً جديداً في النصف الثاني من القرن السابع عشر على يد «موليير» الذي تأثر جداً بالشكل الايطالي «كوميديا الفن» وأخذ منها الكثير وطوّر عليها وسجل كوميدياته وهذا هو الجديد في عالم الكوميديا، واتخذ من الواقع المعاش» مكاناً وزماناً» أي الدافع الفرنسي والزمن الحاضر آنذاك والقضية التي تهم وتمس جماهير الشعب.. اتخذ من كل هذه الأمور مسرحه ومسرحياته فهي كوميديا تصور الواقع الانساني بكل ما يتميز به من رذائل وعيوب.
وقد وصلت الكوميديا في عصر موليير الى أوج مجدها واستطاع الكاتب أن يوظف مفارقاته لأكثر من هدف «الانسجام والواقع» ولعب بهذا التعريف في أكثر من اتجاه تولد عنه كوميديا موقف ولفظ وحركة.
وكوميديا موليير في حد ذاتها مدرسة وغنية عن أن تعرف.. وقد لجأ الكاتب الى كل الوسائل المتاحة في عصره واستلهم كل ما في الواقع من مضحكات وطعم مسرحياته بها مع الاحتفاظ بالقضية الأساسية التي هي أصل المسرحية(..).
وقد كتب موليير حوالى ثلاثين مسرحية وعلى قمتها «البخيل» ونجح في تناول قضاياه بجرأة لم يسبقه أحد.. فالعيوب والرذائل التي تصدى لها كانت منتشرة في عصره.. ولكنه يحللها تحليلاً يجعل من شخصياته نماذج بشرية خالدة.. لقد تغلغل في النفس البشرية.. ووصل الى غور قلب الانسان في كل زمان وفي كل مكان حتى أن أحد النقاد يقول عن فنه: «ان وجه موليير وانتاجه يظهران في القرن السابع عشر ثم يخرجان منه.. وأن فكره يتخطى كل الحدود لأنه عالمي»..
بومارشيه
وإذا كانت الكوميديا قد سجلها التاريخ من خلال ذلك الكاتب العبقري الفرنسي فإن فرنسا أيضاً تحتفظ بهذا اللقب خلال القرن الذي يليه «القرن الثامن عشر» والكتاب كثيرون.. ولكن بومارشيه أحد فرسان الكوميديا في فرنسا والعالم يسجل لهذا الشكل نصراً كبيراً ليس في فرنسا فحسب.. ولكن في أوروبا قاطبة بل في العالم أجمع.. وقد اتخذت الكوميديا في القرن الثامن عشر لوناً مختلفاً عما سبقه ابان عصر موليير.. فقد سيطر التغير الاجتماعي في فرنسا على أن يتناول الكاتب قضية ساخنة «قضية الساعة» والتي أثارها بومارشيه من خلال شخصية نمطية وهي «فيجارو» وكانت مسرحية زواج فيجارو قمة الثورة من خلال كوميديا الموقف واللفظ والشكل حتى أنها كانت أحد أسباب قيام الثورة الفرنسية التي غيّرت وجه التاريخ في العالم كله.
(..) والكوميديا في هذا الموقف قد تجاوزت تلك الوظائف التي نشأت من أجلها وأصبحت سلاحاً في تغيير نظم الحكم.. وقد أصبحت الكوميديا تتصف بالجدية وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنقد الاجتماعي في الحياة الواقعية.. حتى ان كتاب التراجيديا يميلون الى اضافات كوميدية في مسرحياتهم لكي تشبع في المشاهد روح الاسترخاء من عناء هول المأساة.. وكان قد سبقهم بالطبع الى ذلك شكسبير نفسه في أعمال وصفت بأنها تراجيكوميدي.. ولكننا الآن نتعرض للشكل الكوميدي الخالص.
ان الكوميديا بعد القرن الثامن عشر أصبحت تحمل شكلاً هزلياً وداخله جزئية دامعة.. حتى ان بعض كتاب القرن التاسع عشر يلجأون الى ذلك الشكل بطريقة واضحة.. فنجد تشكيوف في روسيا وبرنارد شو في انجلترا يتخذون الشكل وهو «الكوميديا الدامعة» لكي يجسدوا من خلاله الواقع بأبعاده الثلاثة.. ومنم بعده برانديللو وأوسكار وايلد فأونيل وغيرهم حتى أصبحت تلك الكوميديا جامعة لشطر كامل من الحياة الواقعية دون فصل النوع.
ويشهد القرن العشرون كوميديات متولدة من روح العصر بكل ما يحوي من متناقضات ومآس ناتجة من صراع الانسان مع الآلة التي هددت كيانه في الوجود.. وأضيف الى مادة الكوميديا النظريات الحديثة التي استلهمها فلاسفة العصر سواء العبث أو الوجودية أو الصمت.. كل هذه الأشكال تخرجت من طياتها كوميديات تناسب الأحداث وتناسب البشر وتقدم لهم جرعات مسكنة وفي نفس الوقت مهدئة للنفس التي حملت هموم التقدم السريع.
وإذا كانت هذه احدى وظائف الكوميديا.. أو لنقل أهمها.. اذن فلنتطرق لمصدر هذه المادة سواء الموقف أو البشر أنفسهم.. وفي ذلك يقول برجسون «اننا لا نضحك على الشخص الذي نشعر نحوه بالعطف أو الشفقة».. ومن هنا فإن المادة الكوميدية لا بد أن تبحث عن الشخص الذي لا تتوافر فيه هذه الصفات لأنها بالأجدر صفات تتفق مع الشكل التراجيدي.. إذن فاختيار الشخصية يقع عليه عبء نجاحها.. ان الموقف الكوميدي يقتضي نوعاً من التخدير المؤقت للقلب.. فهو يهيب بالعقل لا أكثر ولا أقل.. وهذا منطلق الكوميديا الصحيحة حيث انها تعمل على التغيير.. وهو لا يتم من خلال العاطفة.. بل يتعامل مع العقل مباشرة وهذا عنصر هام من عناصر أو مقومات الكوميديا الجيدة.. والحكمة الدامية تقول «الحياة مأساة في نظر من يشعرون.. ومهزلة في نظر من يفكرون».. وهذا هو ملخص الدراما بشكليها.. وما يهمنا هنا هو الشكل الكوميدي وهذا الشكل له مقومات أيضاً.. فالسؤال هنا كيف تخلق الكوميديا؟ والرد ببساطة شديدة.. أن الكوميديا تتشكل بعدة مظاهر.. منها على سبيل المثال التكرار الذي غالباً ما يبني عليه الكاتب الأساس الكوميدي..»(...).
كذلك فإن من صفات الشخصية الكوميدية ابراز عيب أو نقص في تركيبها ولكنه نقص لا يشوه صورة الانسان.. بمعنى انسان يتصف بالأمانة التامة.. ومع ذلك فهو غير اجتماعي.. ومن هنا يمكن أن تتولد الكوميديا من ذلك العيب بالاضافة الى ذلك العمل على عدم اندماج المشاهد في المواقف.. لأن طبيعة الموقف الكوميدي تصرف المشاهد عن الاندماج فيه حيث انه بعيد الاحتمال تماماً اذا ما قيس بمعايير الحياة الواقعية لا سيما حين تتحول الى هزل مقصود لذاته وخيال غير واقعي.. حيث انها «أي الكوميديا» تزخر بالمصادفات المفرطة. فهي بعيدة كل البعد عن العالم الذي يأخذ فيه الأمور مأخذ الجد.. أيضاً فإن الكوميديا كشكل لا يعترف أبداً بالوحدة المحكمة للعقدة كما في التراجيديا.. فبناء المسرحية الكوميدية مفكك بمعنى أنه يقوم على مجموعة متعاقبة من المآزق لا يوجد بينها رابط داخلي محكم.. أيضاً فهي تفتقر الى التوتر البنائي بمعنى أن الصراع فيها غير واضح بل هو صراع يؤدي الى مزيد من الضحك والسخرية.
إذن فالكوميديا مصدرها الكلمة.. الموقف.. الحركة.. تؤدي الى شعور مصدره العقل.. يتولد منه ظاهرة الضحك.. مصدره الفم والأسنان «الانسان الضاحك» هدفه التغيير بواسطة رفض تام للشخصية الكوميدية التي وظفت لكي تجسد عيباً أو نقصاً ليس بالضرورة خُلقياً أو خَلقياً.. ولكنه يمكن أن يكون عيباً اجتماعياً.. على أنه لا مكان للتعاطف في تقدير الكوميديا(...).
التورية
ثم ان الكوميديا تشمل فيما تشتمل عليه من خلال التورية الدرامية والتي تتولد من المتناقضات «الظاهر والباطن.. المعلوم والمجهول» وهي هنا يمكن أن تقترب من المفارقة الدرامية.. أو التورية الدرامية الساخرة وهي تعتمد على عنصري المفارقة والتورية والسخرية الناشئة من القدر نفسه وهي هنا تولد المعرفة لشخص والجهل لنفس الشيء لشخص آخر.. والمشاهد يكشف الطرفين وهو هنا يولد توتراً يمكن أن يصل بالكوميديا الى أرقى أشكالها.. وقد وضحت هذه التورية الساخرة أيضاً في كوميديات موليير وشكسبير في مسرحية «حلم ليلة صيف«بالتورية بجانب أنها تلاعب بالألفاظ ولها في ذلك وظائف كثيرة.. الا ان المسرح قد استخدمها درامياً وقد ساعدت الكاتب كثيراً في اثراء مسرحياته.
ولأن الكوميديا أساساً لا بد أن تنبع من موقف يتولد عن نشأة صراع بين قوى.. بمعنى شخصيتين أو صراع بين شخصية واحدة في ما بينها.. فإنها بالتبعية لا بد أن تنتهي نهاية سعيدة.. فالكوميديا احتفال بالحياة.. بقدرة الانسان على الاستمرارية.. وهي هنا لا بد ان تصحح أوضاعاً مشوبة بالأخطاء عن طريق ابرازها والعمل على قهرها والتغلب عليها لكي يكون الاستمرار صحياً.
وعلى ذلك فالكوميديا.. وكوميديا الموقف على وجه الخصوص تذهب الى السخرية من المظاهر الخاطئة.. سواء في الطباع أو السلوك.. وهي هنا تتعرض لأنماط معروفة مسبقاً ولكنها تعري ما بداخلهم أمام المشاهد.. مثل البخيل الثري.. الابنة المخادعة.. المرابي المتظاهر بالتقوى... الخ، ومن خلال اثارة هذه العيوب فإن المشاهد يضحك ربما مرة واحدة.. وربما مرتين دون أن يدري.. فهو يضحك مرة اذا لم يكن تربطه علاقة بهذه الشخصية ومكوناتها، وهو هنا يستنكرها.. ومرتين اذا كان يتصف بجزئية من هذه الشخصية.. فهو يضحك على الشخصية وفي نفس الوقت يضحك على نفسه لأنه يراها أمامه.
ان الكوميديا بعكس التراجيديا من حيث اشكالها المتعددة.. فهي موضوع معقد اتخذت أشكالاً عديدة متباينة.. فمن كوميديا العادات.. الى الفارس.. فالتهكم والهجاء.. ثم الكوميديا المكتملة أو الرفيعة.. بالاضافة الى الكوميديا التراجيدية.. ومن خلال كل شكل ينقسم الى أشكالاً متفرعة كما ذكرنا.. الكاريكاتير.. والموقف.. والحب.. الخ.
التراجيكوميدية
على أن الكوميديا التراجيدية أو «التراجيكوميدية» فهي كوميديا راقية جمعت عنصري الحياة داخل اطار واحد لكي تجسد الطبيعة المعاشة دون زيادة او نقص أو دون ان تفصل مكوناتها التي قامت أساساً عليها منذ الأزل.. فهي هنا تعتمد في جوهرها على امكانية التفوق بين العناصر المتضاربة والمتناقضة لحياة البشر.. ولذلك فهي عادة ما تبقي على الأمل مهما حدث من تصارع وتنازع بين القوى المشتركة في الحدث.. فهي كما سبق أن ذكرنا احتفال بالحياة وبانتصار الانسان وقدرته على أن يستمر.. وعلى ذلك لجأت الكوميديا الى الارتكاز على اخطاء الآخرين التي يمكن تجاوزها واصلاحها حتى يكون الأمل موجوداً والاستمرارية ممكنة والنهاية سعيدة لا يشوبها سوء.
وهذا الشكل من الكوميديا، أو التراجيكوميدي يلجأ الى التصدي الى الأخطاء الظاهرية بهدف تعرية البواطن المكونة لهذه الأخطاء وكشف ما يكمن خلفه وما يؤدي إليه، والفرق هنا بين الدراما الجادة وهذا الشكل الكوميدي ان الحوار والحدث يصلان مباشرة الى الذهن بعيداً أيضاً عن القلب.. كذلك ابراز أو تكبير العيب أو الخطأ حتى يمكن خلق الموقف الضاحك من خلاله..(...).
وعلى ذلك فهذا الشكل يمتد تعريفه الى أنه يجمع بين شقين في قالب واحد غير منفصلين.. فالحدث يمتزج فيه الشكلان ليخرج منها شريحة لحياة واقعية تجمع داخلها عنصري البكاء والضحك معاً.. فهي محاولة من الانسان لرؤية حياته على مستويين.. مستوى الانفعال الجاد.. ومستوى الهزل الساخر.. وليست حياة البشر مهما تناقضت خالية من هذين العنصرين في كل أيام حياتهم.. اذن فهذا الشكل يبرز الازدواجية التي جبلت عليها الطبيعة نفسها في كل مكوناتها.
وان مسرحية «الخال فانيا.. أو شيطان الغابة لتشيكوف» لأكبر مثال على هذا الشكل.. ويقول الكاتب الكبير «بريان ركس» عن هذا الشكل: «ان روح الهزلية في رأيي هو التوتر الشديد الذي يشبه توتر التراجيديا المحكمة.. أي الحدث الذي نرى فيه الشخصيات على حافة الهاوية من لحظة لأخرى.. بل انهم أحياناً ما يتدلون في الهاوية.. ثم يعودون للحياة بأقوى مما كانوا» (بريان ركس صاحب مسرح الضحك بلندن)، وهذه خلاصة المفارقات الكوميدية التي يلجأ اليها الكاتب ويسخرها في كوميدياته ويلعب بها لكي يجعل الخيط بينه وبين المشاهد دائماً مشدوداً ومحسوباً بدقة حينما يصل بشخصية ما الى حافة هاوية من خلال قضية مثارة ثم فجأة تحل هذه القضية ليدخل في حلقة أخرى وهكذا.. مع التركيز في اللفظ والحركة التي يتولد منهما تجاوب المشاهد وضحكه.
وأخيراً فإننا نقول عن الكوميديا: انها الشكل الذي يعتمد على الطرب البريء والاستسلام للدعابة.. فكل ما فيها مضحك.. يبعث على لذة نابعاً من نقص في الشخصية ليس مؤلماً ولا هداماً.. له نتائج غير ضارة نسبياً تتصف عادة «بالفشر والكذب والتهريج والجبن».
( قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية ضمن مهرجان المسرح الاردني الـ 17 حول «الكوميديا»)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق