مجلة الفنون المسرحية
هل يحق للكاتب أن يتناول عوالم الآخرين؟
جنى الحسن
تخيّل لو أنّك جلست يوماً مقابل خشبة مسرح، وبدأت بمشاهدة عرض تبيّن أنّه يحمل الكثير من تفاصيل حياتك. تخيّل لو أنّك تحولت فجأة من إنسانٍ عادي مستغرق في همومه وحياته الخاصة إلى شخصية في كتاب أو فيلم أو مسرحية. هذا الكائن الذي يتحرّك أمامك على المسرح ويتكلّم ويمشي هو أنت، وحتّى ليس أنت كما ترى نفسك، بل أنت كما يراك الكاتب. هل كنت لتشعر بالامتعاض لانتقالك إلى العلن من دون استئذان أم أنك ستعتبر الأمر فرصة وتجربة مغايرة للتعرف على وجه آخر من وجوهك؟ هل ستنظر إلى الجمهور وكيفية تفاعله مع شخصيتك وتنتظر ردود الفعل وتعليقات الناس على مجريات حياتك أم أنك ستنسحب بهدوء وتسجل اعتراضك لاحقاً لدى الكاتب؟
هذا ما فعله الكاتب المسرحي الأميركي والروائي السينمائي نيل سايمون بذويه حين كتب مسرحية "موعود ببرودواي" عام 1986 مثيراً حفيظتهما وغضبها. وأُعيد عرض المسرحية مؤخراً في مسرح "فيرست ستيج" في ولاية فيرجينيا الأميركية من إخراج شيرلي سيروتسكي. استمر العرض على مدى أكثر من ساعتين تخللته استراحة واحدة. اشتهرت أعمال نيل سايمون بالسخرية والكوميديا السوداء وكذلك المسرحيات الموسيقية التي أكسبته شعبية كبيرة وجعلت أعماله من الأكثر جماهيرية في تاريخ المسرح الأميركي.
في هذا العمل الذي يعتبر جزئياً نوعاً من السيرة الذاتية، نتعرف على شخصيتي يوجين جيروم وشقيقه ستانلي اللذين يحاولان أن يشقا طريقهما ككاتبي كوميديا للراديو وللتلفزيون في وقت تمرّ خلاله علاقة والديهما بأزمة. تفتتح العرض المسرحي والدتهما كايت وهي التي تختتمه أيضاً بنفس اللقطة، وهي ترتب طاولة العشاء لتجمع العائلة. في العقد الخامس من عمرها وبشعرها الرمادي، تعطي كايت انطباع المرأة التقليدية، تكاد لا تقوم بأي أمر مثير للاهتمام في حياتها سوى أنها رقصت مع أحد المشاهير في شبابها، وقضت ما تبقى من العمر في التضحية للآخرين من دون أن تتذمر. كانت تفعل ذلك طوعاً، أن تكرس حياتها فقط للاهتمام بأبنائها وزوجها ووالدها، مترفعة عن الاعتناء بذاتها. تحاول المرأة أن تحضر الطعام بإتقان وأن تضع الأطباق والملاعق على المائدة بترتيب كامل، لإخفاء كل ما يدور من فوضى في داخلها وداخل جدران منزلها.
لكن يوجين ابنها الذي يروي الحكاية للجمهور يصر على التذكير بأن والدته رقصت يوماً مع أحد المشاهير وكانت خلابة، مفعمة بالحماسة والشغف، كأنه نوعاً ما يشعر بالذنب لانطفاء بريق والدته ولاحقاً خيانة والده لها. فبعد أكثر من ثلاثين عاما من الحياة الزوجية، تكتشف كايت أن زوجها يقيم علاقة غرامية مع امرأة أخرى. هذه المرأة تحتضر لكن على الرغم من ذلك، العلاقة الزوجية مهددة والوالدان يفكران بالانفصال. تتعامل كايت مع علاقة زوجها بالمرأة الأخرى بهدوء أيضاً، لكن بحزن وألم وشعور بالشفقة تجاه الذات. زوجها، من الجهة الأخرى، لا يبادلها الشفقة ولا يبدو عليه الشعور بالذنب. بل يبدو منجذباً إلى حياته كرجل عاشق، حزين على المرأة التي يحبها، واضعاً خيانته كما لو أنها مساحة شخصية افتقدها في منزله.
تبرز مسألة الأبوة أكثر تحرراً من الأمومة هنا. فالرجل يعتقد بأنّه لم يقصر في واجباته تجاه العائلة ولا حتى تجاه الزوجة، ويرافق ذلك شعور عميق بفقد العشيقة. فتبدو المأساة كما لو أن هذه الأطباق التي وضعت في مكانها على مائدة العشاء كل مساء بترتيب، لم تكن في مكانها فعلاً. وكان هناك الكثير الذي يجري خلف تلك الصورة الكاملة عن حياة الزوجين.
حين يتوجّه يوجين إلى الجمهور، لا ينطلق في حديثه من مأساة والديه، لكن من طموحه وطموح شقيقه بأن يصبحا كاتبين لامعين ولو تطلّب الأمر أن يستثمرا حكاية والديهما وحتى بنية عائلتهما اليهودية وما تمثله. الجد الذي يتقدم في العمر، والأب الذي يحب امرأة تحتضر، ورغبة الولدين بترك المنزل أو حتى استعدادهما لترك المنزل وما يحمله ذلك من تبعات على الوالدين، تحديداً الأم التي ليس لها شأن آخر في الحياة لتملأ وقتها به.
يبدو ستانلي في سعيه إلى النجاح والوصول إلى الجماهيرية أكثر شراسة من شقيقه المنهمك أكثر بالكتابة من التخطيط. لكن الاثنين يخذلان والدتهما المنهمكة بالتحضير للعشاء لتجربة أداء حول النص الذي يكتبانه.
في ديكور المسرح ينقسم المكان أيضاً إلى طابقين، السفلي والعلوي، كأنّ في ذلك دلالة على الجيلين، جيل الآباء وجيل الأبناء. لكن المسرحية لا تبدو وكأنّها تعالج صراع الجيلين، بل التقدّم في العمر خاصة للنساء وحين يحين الوقت للأبناء بأن ينطلقوا إلى الحياة. وصف كايت لنفسها على أنّها أم وزوجة من دون أي صفة أخرى يتركها في مواجهة الفراغ، كأن كل ما بنته وهم.
تحاول ترتيب غرفة الطعام وانتظار الجميع على الرغم من أن أحداً لا يأتي والكل مشغول ببنائه الخاص. هذه المأساة ينقلها سايمون بطريقة مضحكة لكنها أيضاً مشحونة بالعاطفة. فهو يبدو محباً لعائلته ولوالدته تحديداً، لكنه لا يريد أن يكون فقط جزءاً من تآكل علاقة الوالدين، بل أن ينتقل ويصبح مستقلاً، أن يحقق أحلامه.
وقد سبق لسايمون أن كتب "مذكرات شاطئ برايتون" و"أحزان بيلوكسي" قبل أن يكتب هذا العمل الذي أتى بمثابة الجزء الأخير والأكثر نجاحاً من هذه الثلاثية. وما ميّز هذا العمل هو كونه مشحوناً أكثر بالعواطف وإمكانية نقلها إلى المشاهد بسلاسة. فعندما تفرح إحدى الشخصيات أو تحزن أو تفشل، يساور المشاهد هذا الشعور كذلك كأنه في العمل من الداخل. حتى إنه يشعر بالفخر أحياناً لنجاح يوجين. وتمكّن العمل من أن يبقى حيّاً لزمننا الحالي، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على كتابته، كونه يطرح مسألة الروابط العائلية ومدى كونها عبئاً أحياناً على الفرد.
الصراع بين الوجود العائلي والاستقلال الذاتي مسألة موجودة في كل المجتمعات، بأشكال ودرجات متفاوتة. فعلى الرغم من التعلق بالعائلة والشعور بأهمية القيم العائلية، يشعر المرء أحياناً بالانفصال عن هذا المحيط.
لكن المسألة الأخرى التي تحضر بقوة هي حول حق الكاتب بأن يتناول حياة الآخرين حتى إن كانوا من أفراد عائلته، خصوصاً إن كان الأمر بالوضوح الذي اعتمده سايمون، أي بإسقاط الأحداث العائلية تقريباً كما هي على شخصيات المسرحية.
فهل يمكن تناول الأحداث الشخصية كمادة مسرحية أو روائية أو قصصية لخدمة الأدب أو لإنتاج عمل أدبي؟ وهل يتطلب ذلك موافقة الأشخاص المعنيين؟
ربما تكون الكتابة هي الهدف الأسمى، وربما تكون هنا القيود التي تنتصر. لكن الأدب أيضاً هو شعورنا بفداحة الحياة وهو رغبة بنقل واقعها إلى متخيلها أو إحضار هذا المتخيل إلى الواقع. ويتطلب الأمر الكثير من الشجاعة لنقل هذا الخاص إلى العام، كونه سيكون معرضاً للأحكام المسبقة أو الأحكام فحسب. وما فعله سايمون، رغم أنّه حوّل حياة والديه إلى مادة للكتابة، هو أيضاً نوع من التخليد لهذه الحكاية، ربما كان فيه نوع من التعويض لوالدته، وتحويلها من أم وامرأة فرغ منزلها من كل شيء فجأة إلى سيدة مثيرة للاهتمام تقف على المسرح وتشبه الفتاة التي رقصت في شبابها مع أحد المشاهير.
------------------------------------------
المصدر : الضفة الثالثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق