تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 26 أبريل 2017

مرجعيات الترميز لجسد الممثل في العرض المسرحي

مجلة الفنون المسرحية



مرجعيات الترميز لجسد الممثل في العرض المسرحي


د. راسل كاظم

   لكون جسد الممثل يدرك بوصفه ظاهرة بصرية لذا يمكن معرفة لغته كونها وسيطا للاتصال من خلال استخدام رموز ايحائية، تسعى الى بناء فهم مشترك خاضع لثقافة المتفرج وخبرته المكتسبة من الواقع لاجل اكتشاف المعنى ودلالته، فهيئة الممثل كمظهر مادي خارجي متمثلة بجسده هي شكل قائم بحد ذاته يرتبط بدلالة شخصيته، اما اذا اضفنا علاقة اخرى ضمن اشكال جديدة، فأنها تكون لنا دلالة اجتماعية او فكرية، فتتكون الدلالة "حالما كان هناك جزءان او اكثر مجتمعان مع بعضهما لكي يصنعا نسقاً مرئياً"(1)وهنا لا يمكن تجاوز مساحة اشتغال الممثل، كونه يشكل محصلة كل الفضاءات الاخرى للعرض المسرحي وبحسب فرضية (إلين ستون) فان الصورة ومن ضمنها جسد الممثل تعمل في اربعة مستويات "المستوى الوظيفي - السوسيومتري* - خلق الجو العام – الوظيفة الرمزية"(2). وفي حركة العرض تبدأ الاشكال بالتحول الى طاقة تعبيرية فتتنامى الاشكال المرئية وتصبح سلسلة من الرموز المتفاعلة مع دلالات العرض الاخرى، فالحركة تقوم بتفكيك ما هو مركب لاعادة تركيبه من جديد ولإنجاح عملية التواصل، لا بد أن تتوافق الدلالة التي يرسلها الجسد مع الرموز التي تصل إلى ذهن المتلقي، وكما يرى (باربا) ان هناك تقنيات مشتركة لتمظهرات الجسد. وكل ما نسميه بـ"التكنيك ما هو الا استخدام خاص لجسدنا"(3) وليس المقصود من التكنيك هو الجسد الخام المستخدم في الاشكال اليومية وانما المقصود هو الشكل المفعل للحركة ومعنى ذلك ان الجسد يمارس عصيانه ضد الشكل السائد، وفي تحرير طاقته يتحول الجسد من شكله الخامل الى شكله الجديد الناشط. والخطوة الاهم تكمن

في فهم تكنيك الجسد اليومي الذي من الممكن ان يستبدل بعد ذلك بتكنيك اضافي أي تكنيك لا يسير وفق الحالات المعتادة للجسم وهذا التكنيك الاخير هو ما يقوم الممثل باستخدامه في الالفية الثالثة الذي يسير على مبدا اقل المجهود . أي الحصول على افضل النتائج مع اقل مجهود لان المجتمعات الحديثة لا تريد تبديد طاقتها وتحاول ان تستخدم اقل طاقة لاكبر انتاج ، " ولغة جسد الممثل عندما يتم تنشيطها على مستوى ذي فاعلية فأنها تكون بالتالي كثيفة المعاني، وكون الجسد يتمتع بالحياة فأنه يعطي ديناميكية لكل عناصر العرض، ويمثل جسد الممثل ست علامات بصرية من مجموع العلامات البصرية التسع، التي تنتمي الى منظومة العلامات في المسرح المتكونة من ثلاث عشرة علامة، حسب تصنيفات (كوفزان)، لنظم علامات المسرح. وهذا ما يضع الجسد في مقام الصدارة بالنسبة للعلامات البصرية، من خلال تعبير الممثل الذي يتشكل بالجسد والمظهر الخارجي له، وتزداد اهمية جسد الممثل كلما تحررت خشبه المسرح من الاشكال المعمارية الثابتة والتقليدية، ويمكن للجسد ان يفوق في شعره شعر الكلمة المنطوقة، كما حلم (ارتو)، فجسد الممثل يمكن ان يصور افكارا ومواقف ذهنية ولمحات من الطبيعة، بطريقة ملموسة، ان يذكر الاشياء والتفاصيل الطبيعية. فضلاً عن الانماط الكامنة في الاساطير والطقوس والاحلام التي تفصح عن تجليات جدية في البحث عن انماط للتعبير الجسدي والتي تطلبت الانفتاح على الحضارات الشرقية، لهذا كانت رغبة بروك تتوجه الى الجسد لإيمانه الشخصي بان الجسم الانساني يمثل الوعاء الذي يحوي بقية العناصر ويرى (بارت) ان فن المسرح هو "فن ازدهار وتفتح الجسد"(4)، اما (ميرهولد) فانه يرى ان ابداع الممثل ينبثق من الجسد، وهو "ليس ابداع شخصيات، بقدر ما هو ابداع اشكال بلاستيكية جديدة في الفضاء الزماني المكاني للعرض"(5). وقد تطور مفهوم جسد الممثل لدى المسرحيين المعاصرين ومنهم الباحث والمسرحي (باربا)، من خلال ربط المسرح بالانثروبولوجيا، بهدف كشف وظائف غير مألوفة من خلال البحث باشكال الحركة الجسدية للمسرح الشرقي، ان المرسل في العرض هو جسد الممثل وهو يحقق التواصل مع المتلقي "فالتواصل يفترض مرسلا ومستقبلا وعمليتين متقدمتين لا متناظرتين هما عمليتا التشفير والترميز ، أي الشفرات وفك الرموز ، الترميز يمثل المتكلم وفك الرموز المؤول.

ووظيفة جسد الممثل في العرض ليست معنية بنقل المشاعر، بقدر عنايتها بما يرمز اليه هذا الجسد في تشكيلاته التشريحية، لان المشاعر يمكن ان تنقل عن الطريق اللفظي للممثل, لذا لا بد أن توضع قدراته بالحسبان ، بمعنى عدم إغلاق رسالة النتاج على ذاتها ، بل يفترض السعي الى الانفتاح على دور المتلقي وقراءته ، لذا يفترض التنسيق مع كفاءة مدركاته ومعجم شفراته وهذا ما مهدت له السيميائية التي تمحورت بحوثها حول العلامة ، وعنيت بها على مستويين:

المستوى الأول :الانطولوجي : ويعنى بماهية العلامة، أي بوجودها وطبيعتها وعلاقتها بالموجودات الأخرى التي تشبهها والتي تختلف عنها.

المستوى الثاني: البرجماتي : ويعنى بفاعلية العلامة وبتوظيفها في الحياة العملية ، ومن منطلق هذا التقسيم نجد ان السيميوطيقا اتجهت اتجاهين:

الاتجاه ألاول : يحاول تحديد ماهية العلامة ودرس مقوماتها

الاتجاة الثاني : يركز على دراسة توظيف العلامة في عمليات الاتصال ونقل المعلومات.

فاللغة والتفكير والعلم والفن والأدب والأشياء و القيم لابد لها من علامات تتكون بوساطتها او نتيجتها ، فالعلامات ودلالاتها هي عماد الوجود الإنساني وصوره التداولية والتواصلية ، فقد بلغ مجال السيميولوجيا الخاص الى أوسع دوائر المعرفة والى الممارسة الاجتماعية بكافة أبعادها ، تتوخى المعرفة العميقة بمختلف ظواهر الوجود والوعي الاجتماعيين بواسطة البحث عن مظهرها الدال ودلالاتها الممكنة في الماضي والحاضر والمستقبل. ويمكن ان نقسم مرجعيات الترميز لجسد الممثل في العرض المسرحي الى:

اولا/ مرجعيات ثقافية : أن الثقافة هي الحقل الأوسع في الدراسات السيميولوجيه لأنها تتضمن حقولاً عدة مثل الأدب والفن ، والتاريخ والتراث ، والسلوك والعادات وهذه الأنظمة العلاماتية تنتمي الى موضوع يتسم بالتعميم وبالضرورة تنتج بنيه ذاتية تجعل بعضها متمايزا عن البعض الأخر ذلك ان لكل نظام ثقافي/ علاماتي شفراته التي يأتلف منها. فشفرات الطقوس والشعائر لجسد الممثل تختلف عن شفرات العادات . والشعائر تختلف شفراتها من ديانة الى أخرى وهكذا الأمر مع جميع مظاهر الثقافة في عموم المجتمعات ، وهناك الكثير من الاراء التي طرحت بهذا الخصوص، منها الرأي القائل: ان الثقافة بوصفها آليات لتنظيم المعارف وحفظها في وعي الجماعة تثير المشكلة النوعية للتواصل او الاستمرار الثقافي ، وان لهذه الاستمرارية وجهين:(8)

1. استمرارية النصوص المعرفية للذاكرة الجمعية
 2. استمرارية القواعد الشفرية. او النظام الشفري للذاكرة الجمعية.

وفي حالات بعينها يحتمل الا يرتبط احد هذين الوجهين بالأخر ارتباطاً مباشراً وعلى سبيل المثال فقد ينظر الى بعض المعتقدات على أنها عناصر في نص من نصوص ثقافة قديمة في الوقت ذاته الذي فقد فيه النظام الشفري لتلك الثقافة. وتعني هذه الحالة ان النص الثقافي امتد بحياته وعاش بعد حياة النظام الشفري. وقد تحدث الحالة بالعكس فقد تبقى شفرات بعينها في حين تنمحي نصوصها من الذاكرة الجمعية او يبقى بعضها ، كما في حالة الأمثال الشعبية التي تكون شفرة متداولة في حين ان حكايات كثيرة من الأمثال تختفي من التداول او لا يعرفها المستشهد بالمثل، ولما كانت الثقافة تشمل جميع أشكال المعرفة بما فيها التاريخ والتراث ، والآداب والفنون ، وتضم العادات والتقاليد والأعراف ، وحتى تلك التي تبدو تارة وتبيد تارة أخرى ، فان من هذه الأشكال الثقافية/ المعرفية تظهر شفرات جديدة ، بعد ان استعانت هي بشفرات متداولة, من اكثر تلك الأشكال الثقافية هي النصوص الأدبية والفنية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها وذلك من خلال توظيف شفرات بعينها في سياقاتها سواء كانت عملية التوظيف هذه قصدية ، ومن اجل أحياء شفرات _تاريخية ، تراثية، او تلقائية حين تبتدىء الشفرات المحورية لنسق ثقافي معين، تفرض نفسها بعدها الخيار الامثل في تقديم مضمون ما. ولما كانت الثقافة في مجملها تتكون من نصوص ، رسائل يتولد بعضها من البعض الأخر ، وبما يكفل لها الديمومة والتواصل ، فان لغة الجسدهي شفرات ثقافية, وان القيام بصياغة رسالة تعني القيام بعملية تشفير الجسد على وفق سياق معين.

ثانيا/ مرجعيات جمالية : وتنتمي الى الاتجاه الفني ـ الفلسفي، فقد حاول المسرح عبر تاريخه الهرب من رتابة التقاليد وثقلها الصارم حيث يستدعي ذلك ظهور نوازع جمالية جديدة مرتبطة مع اذواق الناس وحاجاتهم الجمالية وهذه بطبيعة الحال سرعان ما تترك مواقعها لاخرى اكثر تقدماً، فلكل زمن جمالياته، ولكل مرحلة سماتها التي قد ترتبط بجماليات الفنون المجاورة او تشترك معها. مما يدفع الممثل للجوء نحو استخدام اسلوب تعبيري معين قد يسهم باضطرار الممثل عبر التأويل لمجاراة هذه النوازع الجمالية، فحركات وايماءات الممثل في العصر الحديث تختلف اختلافاً كبيراً عنه في عصر النهضة، والعلاقات الجمالية بالمقابل اختلفت وتباينت بشكل كبير، مما حتم على الممثل الاهتمام بنوع الاشارة التي يرسلها جسده لايصال البعد الجمالي للمسرحية، فطبيعة الفنان قادرة على التفاعل مع المحيط وبناء علاقات نابعة من اتصاله مع الاشياء، بحيث تكون هذه العلاقة التوليدية مبنية على استجابات الفنان عند تفاعله مع المحيط. إن العمل الفني يتطلب من حيث هو نتاج للروح نشاطية ذاتية خلاقة تجعل منه حينما تصوغه وتشكله موضوعا لحدس الآخرين وتخاطب حساسيتهم ومخيلة الفنان هي التي تمثل هذه النشاطية الذاتية الخلاقة"(9). ان عملية استحضار البنى و النظم والعلاقات التي اكتسبتها الذاكرة بواسطة فاعلية ذهنية (الخيال) و التي التقطها حسيا من العالم المحيط فقد تحدث بشكل عام عن طريق استحضار واع, ان الممثل باستخدامه المطلق لأسرار جسده التعبيرية وعلاقته بالفضاء المادي المحيط به يعد حالة مثيرة واستثنائية أثناء تحقيقه للفعل والرؤيا في العرض. ولهذا فهنالك علاقة بين الكتلة، والمادة ـ الجسد والشيء تنتج معنى دلالياً للتعبير عن الحدث والفكرة من خلال الرؤى والإيقاع الموسيقي المميز لحركة الجسد في علاقته بالمادة. ووفق التيارات المسرحية التي تعاقبت وشكلت بالمقابل مدارس جمالية تغيرت نظرة الفنان الى الجمال من عصر الى عصر، ومن مرحلة الى اخرى، ومن مكان الى اخر.

ثالثا/ مرجعيات ايديولوجية : تستخدم في التعبير عن أفكار تتجاوز على نحو واسع حدود الحكاية التي ترتبط بها، وهي تعكس موقف المخرج إزاء أهم المشاكل الفكرية والسياسية وهنا يكون الفنان حراً في اختياره للصراع الفكري الذي يصطف معه و يجعله مادة لفنه ، ويمكن ان يصبح وثيقة في امكان المتلقي التحاور معها عبر رؤية تاريخية جمالية و اعية . و العامل الفكري مجاور للتاريخي و يستمد منه التشكيلات و المحددات التي تفصل بين الطبقات و الفئات وحتى الاختصاصات في الثقافة و المعرفة و بناء القيم . و المجتمع هو الميدان الذي تجرب فيه كل المبادىء و النظريات ، عبر سلسلة من الثورات الاجتماعية و السياسية و العلمية التي غايتها في الاساس تطوير المجتمع ، و اكتشاف و زرع القيم الجديدة 
رابعا/ مرجعيات اجتماعية: يكتسب الفرد بوصفه (الاساس في تشكيل المجتمعات) خبراته عن طريق الممارسة العلمية والتفكير في المشكلات الحسية المرتبطة بواقع الحياة ، فالمعرفة التي تأتي عن طريق تراكم المعلومات وفهمها ، هي اساس الخبرة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة ، لذا فإن الخبرة تتسع وتتعمق لتوضح حقيقتها بكل جوانبها المختلفة الحسية والعقلية والروحية , الوجود الاجتماعي يرتكز على تشابك طقوس تكمن وظيفتها في ادارة العلاقات بين البشر والعالم، وبين الناس فيما بينهم، فكل انسان عبر مسيرته الخاصة، وباسلوبه الخاص يرمز لعدد كبير من الاوضاع التي يصادفها والحياة اليومية هي المكان المميز لهذه العلاقة، وهذه العلاقة تترك اثرها على الممثل، بطريق تكوين شبكة من المعلومات يستثمرها في سبيل اسقاطها على اداء جسده. ويمكن لهذه المرجعيات ان تختلف باختلاف المجتمعات فما يصح في مجتمع قد لا يصح في اخر كما تختلف زمانياً في المجتمع الواحد، فالقيم كغيرها من الانساق الاجتماعية معرضة للتغيير والتبديل خلال تاريخ المجتمع. ولا يعني هذا ان تغيرها مرهون بعامل التقادم الزمني نفسه، وانما بالاحداث والتقلبات واشكال الاحتكاك الحضاري والتثقيف التي يتعرض لها المجتمع. أن الرسالة المميزة للفن هو ان يرتفع ويحلق بمشاعرنا الى آفاق عالية ولابد أن يسمو الفن على الواقع حتى يحفزنا على إصلاحه أن يكون هذا الفن متصلا بقيم المجتمع الحاضر وأهدافه المستقبلية ، وفهم هذا الفن يعد فهما لهذه القيم والأهداف وذلك لبنائها وتطويرها ، مما يرتقي بالمجتمع الانساني المتحضر.على وفق القيم والأهداف الاجتماعية بل إنه يحرضه على

 قراءتها والحكم عليها ، ويشجعه على التفكير في أهداف الفنان المتجلية في عمله ورسالته وفي رؤيته ، ومعرفة علاقتها بالمجتمع وقيمه.

المراجع:
1. دني هو بسمان :علم الجمال ، ترجمة : ظافر الحسن (باريس : بيروت ، منشورات عويدات ، ط4 ،1983 ، ص106.
* القياس السيوسومتري هو القياس في المستوى الاجتماعي.
2. ألين ستون، جورج سافونا، المسرح والعلامات، تر، سباعي السيد، مهرجان القاهرة الدوري للمسرح التجريبي، وزارة الثقافة ، القاهرة، 1991، ص 203.
3.  باربا ، مسيرة المعاكسين ، انثروبولوجيا المسرح . ترجمة قاسم البياتي ، دار الكنوز الادبية ، الطبعة الاولى ، لبنان ، 1981 ، ص105.
4. رولان بارت، المسرح الاغريقي، ترجمة سهى يشور، (المعهد العالي للفنون المسرحية، 1987)، ص 25.
5. سعد صالح، الانا والاخر.. ازدواجية الفن التمثيلي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والاداب والفنون، 2001، ص174.
6. جوليا كريستيفا : علم النص ، ترجمة : فريد الزاهي ،ط1 ( الدار البيضاء ،دار توبقال للنشر )1991 ،ص18.
8.  ينظر : اوسينسكي بوريس وزميله : حول الالية السيميوطيقية للثقافة ،ترجمة عبدالمنعم تلميعه، في كتاب 9- مدخل الى السيميوطيقا_مقالات مترجمة ودراسات مصدر سابق ، ص301.
هيغل، فكرة الجمال، تر: جورج طرابيشي، (بيروت, دار الطليعة، )، ج2، ط1،1978, ص 291.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق