مجلة الفنون المسرحية
أنطونيو وكليوباترة يزوران شكسبير في ستراتفورد
أنطونيو وكليوباترة يزوران شكسبير في ستراتفورد
المخرج إقبال خان يعود بتراجيديا الحب والسلطة عبر مسرحيته 'أنطونيو وكليوباترة' التي تتسم بالروح العنيف والإبهار.
في مسقط رأس شكسبير، ببلدة ستراتفورد-ابون-آيفون وعلى خشبة فرقة شكسبير الملكية تم افتتاح تراجيديا شكسبير الخالدة “أنطونيو وكليوباترة”. سوف يتواصل عرض الدراما حتى السابع من سبتمبر القادم وستعرضها دور السينما البريطانية في عرض حي في الرابع والعشرين من شهر مايو القادم.
يلتقط مخرج المسرحية إقبال خان خيوط القصة بعد اغتيال يوليوس قيصر وتربُّع أنطونيو على السلطة. أنطونيو، المنتفخة أوداجه من فرط الزهو، يرمي حينذاك بخيوط الإمبراطورية في سبيل حياة من اللهو واللذة مع كليوباترة.
ولتمكُّن الحب من كل حواسه تنبذه ألمعيته العسكرية ويفضي الغرام إلى الخاتمة التراجيدية المحتومة. تلك القصة التي أهلكها الشعراء وكتاب المسرح على مدار عقود. ماذا في جعبة خان إذن ليعرضه في عام 2017؟ وكيف تتباين النسخة الشكسبيرية عن نسختنا هذه؟
لا نلمح أثراً عصرياً للعهد الحالي
نسخة عتيقة
اتسمت نسخة خان بالروع العنيف والإبهار، فقد أجاد استخدام أدواته من موسيقى مهيبة وإضاءة تطرح ظلالاً موحية وملابس فخيمة رغم تقشف ميزانية المسرح الملكي. كما جاء ديكور روبرت إنز هوبكنز خلاقاً، فقد أحسن استغلال المساحات مستغلاً خشبة المسرح كمنصة وميدان عمومي وحفرة عميقة بل وغرفة بخار تلمّ شمل القادة العظماء.
ومع أن خان أعاد سرد القصة سرداً اعتباطياً دون احترام كامل للترتيب الزمني تبدّت، بمعنى ما، كزاوية منمّقة ضاربة في العتق للمسرحية المكتوبة منذ مئات السنوات، وكأنما يعتبرها “وثيقة تاريخية” مثلما أشار الناقد المسرحي مايكل بيلنجتون، وكأن الاثنين، خان وشكسبير نهلا من المصدر نفسه في تأليف المسرحية، أي فصل “حياة مارك أنطونيو” من كتاب “حيوات أنبل اليونانيين والرومان” للمؤرخ اليوناني بلوتارخ.
رؤية تاريخية مهلهلة
المعيب أننا لا نلمح في المسرحية أثراً عصرياً للعهد الحالي، لا التكنيك ولا الحبكة، والأهم أنها لا تقدِّم لنا رؤية عميقة لمفهوم السلطة وقيمتها في القرن الحادي والعشرين.
كانت المسرحية حين كتبها شكسبير أطول من أن تحويها خشبة المسرح، ولم تزل مع خان واسعة القماشة منتزعة السياق. تُهنا في ثناياها ومتاهتها الدائرية فكان وكأننا نشهد فصلاً ونصفا من مسرحية لم نطالع منها إلا سطوراً معدودة رغم أننا قضينا نحو ساعتين ونصف داخل هذا المسرح.
ولكن ما أخذه خان وما تركه أمر ولا ريب مختلف عليه. فالعديد من كتّاب المسرح المعاصرين يختزلون شكسبير لحد الإخلال. إذ لا يثقون بما يمكن أن نُطلِق عليه النصوص “المُدمَجة”، وهي نصوص رقَّعها كتّابها ترقيعاً أخرق من نسخ أو مراجعات سابقة.
ومثله مثل شكسبير يظْهر خان مولعاً بالتناقص بين الفن الشعري والطبيعة في عهد جيمز الأول. ولعلّ الفرق بينه وبين شكسبير في التناول هو أن شكسبير وجد شكلاً جماليا يجمع بين فوضى الطبيعة في إطار التاريخ على حين كان خان معنياً بالامتداد المحض للتجربة ذاتها، فجاءت مسرحيته لتخفي في طياتها أشكالاً درامية تدعو إلى تهمة اللاشكل!
غالباً ما يستسهل إقبال التعامل مع كلاسيكيات شكسبير على مسرحه إلا أنه أحياناً ما يجد من مادته ما يستحق إلقاء ضوء جديد مثلما كان الحال مع مسرحيتيه “جعجعة بلا طحن” عام 2012 و”عطيل” عام 2015.
يتعاطى في مسرحيّتنا هذه مع حالة العشق بتعاطف مبالغ فيه. يناقش أعداء القائد الروماني ما شاء لهم النقاش سلوكَ أنطونيو “عديم الرجولة” في صحبة ملكة النيل، يتفجّع فيلو الجندي الروماني بدرعه الجلدي ونبراته المتكلّفة التي صبغت مونولوجات المسرحية بـأسرها، “وسوف تشهدون فيه عاموداً ثلاثياً يدْعم العالم، ولكنه يتحول إلى أحمق المومس”. والأحمق هو أنطونيو ولا شك الذي يقوم بدوره بافتعال خطابي الممثل البريطاني أنطوني بيرن.
خان يكاد يهمل الجانب السياسي من حياة كليوبترة. بل إنه يرسمها ذات مرة ساذجة سياسياً، "أواه يا عهد الغرارة حين كنت خرقاء في أحكامي، باردة الدماء"
ولكن كليوباترة ليست مومساً وإنما سياسية ترفض الانضواء تحت لواء الرجل، امرأة ذات “تنوع لا نهائي” مثلما ينعتها إنوباربص صديق أنطونيو الصدوق بحروف متقطعة.
يرى المجتمعُ البطريركي المرأةَ القوية شائنةً يرمقها بعين الشك ويرميها بالالتواء. فهي عشيقة تارة ومخادعة تارة أخرى، ومَن مثْلها لن تجمع ولا محالة بين الطهر الأخلاقي والصلابة. الحق أن كليوباترة اليوم تتقطع بين الفينة والأخرى بين الغيرة القاتلة والوسواس الأعمى. تتمحور حول ذاتها المجنونة وتقفز من العنف العشوائي إلى نبرات الحب الخفيضة في ثوان.
وربما كان السبيل الوحيد لرجُل الأمس ورجل اليوم إلى امتلاك السلطة هو أن يبصرها من زاوية الشبق والشهوانية. وقد جعل خان ساحلَ البحر معبّراً عن حياة بوهيمية أخذ بأسبابها القائد الروماني وملكة مصر، فكان الموقع الكائن على خلفية من السّماوات الزرقاء موقع شعَر فيه العشوائي بالحميمية والجامح بالفن.
تحكي جوزيت سايمون، الحاصلة على رتبة الإمبراطورية البريطانية من الملكة إليزابيث والتي لعبت دور كليوباترة باقتدار، أن أحد أساتذتها نصحها ألا تعلِّق آمالاً عالية على العمل في فرقة شكسبير الملكية، ثم أردف مفسراً “للونها الكاريبي”.
وقد كان من المفهوم وقتذاك حثّه لها على البراغماتية، إذ لم تقم ممثلة سمراء حتى ذلك الحين بلعب دور البطولة في أيّ مسرحية لشكسبير بالفرقة الملكية.
كليوباترة أفريقية
كليوباترة هنا سمراء البشرة لا قمحية فنتوه في أصلها وفصلها، وإنما سمراء بجدائل خشنة، سمرتها تلتمع بالتضاد مع رداء ملكي ذهبي اللون. الواقع أن ملكة مصر لم تجر في عروقها نقطة دم مصرية، وإنما كانت يونانية من مقدونيا.
ومنذ جسدت الإنكليزية البيضاء بيجي أشكروفت دور كليوباترة في نسخة المخرج الإنكليزي جلين بيام في الخمسينات من القرن العشرين، لم نر كليوباترة إجزوتيكية ببشرة سفعتها الشمس في عرض كبير مثل هذا العرض، وذلك بالرغم من قدرة العاطفة والبلاغة الدرامية على تحدي الحقيقة والتاريخ ذاته.
نسختنا هذه طالها “التصحيح السياسي” تتحدى عينيّ إليزابيث تيلور البنفسجية وتستدعي قصيدة الشاعر الأسترالي كلايف جيمز “حيث يلتقي البحر بالصحراء” الذي يقحم فيها عدة أبيات عن عبد كادح -ربما لم تعد منه جدوى- قذفته إحدى السفن والعشيقان يلهوان في ماء البحر:
“سبح أنطونيو وكليوباترة بمرسى مطروح في مياه ضحلة، زرقاء اللون صافيته/تخيَّل الرمال النظيفة، بلا مهملات، بلا زجاجات بلاستيك أو فضلات من العلب/لا شيء طرحته المراكب على الإطلاق/عدا جثة بين الفينة والأخرى/عدا جثة عَبْد مستعمَل مرمي من مطبخ سفينة”.
آثر خان في عمله تحاشي الجدل السياسي
روما تتهاوى
يكاد خان يهمل الجانب السياسي من حياة كليوبترة. بل إنه يرسمها ذات مرة ساذجة سياسياً، “أواه يا عهد الغرارة حين كنتُ خرقاء في أحكامي، باردة الدماء”. وكثيراً ما نصطدم بها مراهِقة تغلبها النزوة، شبقة في إيروتيكيتها، تحاول بلا كلل اغتصاب عيون الجميع نحوها.
الحق أنها كانت ماكرة مكر الرجال في ثكنات الحرب كما في المعترك السياسي. وقد فات خان أن يذكر أن رخاء عمّ على يديها، تلك المرأة التي يتلون صوتها بالسلطة الساحقة تارة وبهدهدة خفيضة تارة أخرى. وفي الأغلب أهمل أن ينتقد إضاعة الزوجين لمملكتيهما، بل وإضاعة فرصة أكيدة لإحلال السلام على شعبيهما. هل عدِما أيّ طموح أو حكمة؟ الثابت أن أنطونيو على الأقل تنازعته الحسرة والندم على إمبراطورية راحت منه وهو في سكرة الحب.
يتفجّع خان مرّ التفجع على عشيقين راحا ضحية للهوى. تنفض الأحداث وهما يخوضان علاقة جسدية أخيرة هرباً من الشيخوخة والموت. ينبس أنطونيو بلهجة المستبدّ العتيد وهو يتباهى بفحولته الجنسية في رداء روماني فضفاض أمام الدرجات الرخامية للمباني الرومانية العامة، “دع روما تذوب في نهر تايبر، وقنطرة الإمبراطورية مترامية الأطراف تتهاوى: هنا مكاني”.
تحاشي السياسي الملغوم
لعل خان آثر تحاشي الجدل السياسي الملغوم وتفاصيل التكتيكات الحربية، واختار أن يلقي أغلب شباكه -عدا حوار هنا أو هناك- على حبائل الغرام. انتهى بأن خاض الاثنان مصيراً أعمى من الانتحار. والقيصر يؤكد “سيدفنها أنطونيو حبيبها، فلا قبر على وجه الأرض يسعه أن يطوِّق زوجين في مثل هذه الشهرة”.
وبعدها، وبمنهج متثاقل مسلوب الإيقاع على اقتضابه، أطلعنا خان على التبعات المهلكة لإمبراطورية تتفسّخ أمام أعيننا في حال من الشغب والفتنة. ينتهج شيئاً من المثالية السياسية وهو يذكر كيف قضى الاثنان على مسيرتهما التي انتهت بزحف أوكتافيوس على مصر ليتلاشى عهد البطالمة ويحكم أوكتافيوس العالم الروماني بلا منافس.
وفيما بين صخب الجياد وأبّهة أروقة القصور، والشعارات السياسية تتساقط، ينكشف الوجه الحقيقي للمستبد، ونلفي في هذه المسرحية تذكرة كلاسيكية من جعبة شكسبير بأن ألاعيب مجلس الشيوخ ومكائده والتفات القائد عن كرسي الحكم وشواغله، ولو في سبيل الحب، قد يقضي على أمّة ويعرِّض أجيالاً متتابعة لا تسْلم من البراءة إلى حرب ضروس.
----------------------------------------------------
المصدر : هالة صلاح الدين - العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق