مجلة الفنون المسرحية
المسرح الوثائقي في أوربا فضاء لعلاقة جديدة بين السياسي والفني
نورا أمين
المسرح الوثائقي في أوربا فضاء لعلاقة جديدة بين السياسي والفني
نورا أمين
عندما قدم المخرج المسرحي السويسري ميلو راو عمله الأشهر «محاكمات موسكو» في عام 2013م، كان يفتتح بذلك موجة جديدة من الشهية الأوربية للمسرح التوثيقي. فعلى الرغم من امتداد نزعة المسرح التوثيقي بمختلف أساليبه في أوربا منذ قرابة منتصف القرن العشرين حتى الآن، فإن تلك الشهية الجديدة قد وضعت هذا التيار في قلب الاهتمام المسرحي، وربطته بدينامية جديدة في العلاقة بين ما هو سياسي وما هو فني.
«محاكمات موسكو» هي تجربة فريدة في مسرحة حدث كان قد وقع بالفعل في موسكو، وإعادة تجسيده مسرحيًّا، مع الاحتفاظ بمساحات كبيرة من حرية الحدث الفوري، ومن استجابات المشاركين وتفاعلاتهم. أما الحدث الأصلي الذي كان قد وقع بالفعل فقد كان في عام 2003م، عندما تعرض المعرض الفني Caution! Religion إلى المنع، حوكم فنانوه، وما لبث أن حل عام 2006م، حتى تعرض معرض فني آخر بعنوان Forbidden Art إلى مصير مماثل لسابقه، وفي الحالتين صادرت الدولة محتويات المعرض، أو دُمِّرت، ثم أخلي سبيل الفنانين بكفالة بعدها. أما الحدث الأقرب زمنيًّا فهو الدقيقة التي قضتها ثلاث فتيات من النشء في الغناء وعزف الموسيقا داخل كاتدرائية المسيح المخلص بموسكو، وهو ما أدى إلى القبض عليهن ومحاكمتهن وترحيل اثنتين منهن إلى معسكر تأديبي، وأُخلي سبيل واحدة فقط، وذلك في عام 2012م.
وأما تجربة المسرحة فهي مغامرة ميلو راو التي خاضها على مدار ثلاثة أيام متتالية في متحف ساخاروف بموسكو في عام 2013م بعقد محاكمة افتراضية لمصير تلك الأعمال الفنية، وضمت تلك المحاكمة الافتراضية كل أعضاء الهيئة الطبيعية للمحكمة من قاضٍ ومحامٍ ومدعي الحق العام وهيئة المحلفين، وكانوا كلهم يؤدون أدوارهم الحقيقية، فهم ليسوا ممثلين، بل هم فعلًا من أصحاب تلك المهن القانونية والقضائية في الواقع. كذلك اختيرت هيئة المحلفين بدقة بالغة، وبتنوع لا يقل عما يجري في المحاكمات الحقيقية. كان هناك شهود استُدعوا للشهادة، وكان هناك فنانون وشخصيات عامة من اليمين ومن اليسار. قام ميلو راو بتجميع تلك الشخصيات وبوضع المبادئ العامة للحدث المسرحي على مدار ثلاثة الأيام، فكان ذلك هو بمنزلة إخراجه للحدث، أو وضعه لدراماتورجيته.
حالة وثائقية بامتياز
لقد قدم ميلو راو أسلوبًا جديدًا للمسرح التوثيقي يتعدى المفهوم التقليدي للوثيقة المسرحية، أو لإعادة تجسيد الحدث ومسرحته، أو عرض لقطات أرشيفية وشهادات من الحدث نفسه، فقد أسس لحالة وثائقية بامتياز بمجرد اختياره مشاركة أشخاص بصفتهم المهنية الحقيقية، أو بهوياتهم الأصلية، فهذا المبدأ في حد ذاته هو بوابة خاصة جدًّا لطابع وثائقي جديد. وإلى جانب هذا المبدأ الأساس نجد الاختيار الثاني الشائك أكثر، ألا وهو ترك الحرية لهؤلاء كي يقولوا ما يريدونه، ويتفاعلوا معًا دون سيناريو سابق، ولهذا الاختيار مترتبات في غاية الثراء تقوم في معظمها على فكرة الأصالة في الفعل وفورية الحدث.
ومع ذلك كله كان الجميع يسير وفقًا لمبادئ وضعها أيضًا ميلو راو، سواء من ناحية ترتيب المداخلات، أو مدة كل مداخلة، أو البنية العامة للحدث التي تحاكي البنية الحقيقية للمحاكمة. وقد قدم ميلو راو أعمالًا تالية في هذا الأسلوب نفسه، وبما يثبت أنه قد أصبح صاحب أسلوب خاص في المسرح التوثيقي الأوربي، إنه الأسلوب الذي يعيد المسرح إلى وضعه كفضاء مواجهة وتفاوض وتفويض، من داخل البنية الدرامية الطبيعية للمحاكمة، أما فورية الحدث وراهنيته وتفاعليته فتضفي على ذلك الفضاء طابع الوثيقة الحية المتولدة من جميع المشاركين، التي يؤدي فيها المخرج دور القابلة.
على الجانب الآخر من أسلوب ميلو راو في المسرح التوثيقي، ظهرت مبادرات مؤخرًا تقوم على دمج الثقافات ومقارباتها المختلفة لما هو توثيقي أو سيري. من تلك المبادرات مشروع المسرح الألماني Ballhaus Naunystrasse في برلين عام 2016م للتعاون مع المخرج النيجيري ومصمم الرقص عبدالقدوس أونيكوكو، لتقديم عرضه عن الإبادة الجماعية كجريمة متعددة الوجوه، وليست خاصة بثقافة بعينها. واللافت للنظر هنا أن المؤسسات المسرحية الأوربية تتمكن من الاحتفاء بالتجارب الأوربية الطليعية الخالصة، مثل تجربة السويسري ميلو راو، لكنها لا تجعل الاحتفاء حكرًا على فنان أو حتى على ثقافة، حيث يتسع أفق الإنتاج والعرض الأوربي لتقدير المبادرات الأخرى، حتى إن كانت على طرف النقيض فنيًّا من التجربة الأوربية.
كي لا ننسى
هذا السياق يبدو العرض الراقص لعبدالقدوس «كي لا ننسى» كوثيقة حية من نوع خاص جدًّا، فهي من ناحية وثيقة جسدية لأن عرضه راقص، ومن ناحية أخرى هي وثيقة مصممة بالكامل لا تدع أي مجال للارتجال أو التفاعل الحي، أو تدخل المتفرجين. إنها إذن وثيقة جسدية راقصة، يقدمها الراقصون في حالة مسرحية مكتملة بمصاحبة شهادات حقيقية تُسَرد من جانب ممثلة تقوم أحيانًا بالغناء وبالصوتيات. تصاحبنا تلك الشهادات لضحايا الإبادات الجماعية كصوت شاهد حي، شاهد عيان هو ضحية وبطل، أما أجساد الراقصين فتنتفض لتقبض على الألم والعذاب والتعذيب، فنرى أمامنا شهادة الأجساد التي تصدم وعينا بقسوة نادرة، فتقدم جوهر تلك الوثيقة، أي العذاب والفجيعة والهول، وهو الجوهر الذي لا يمكن أن تنقله اللغة الكلامية فحسب، ولا تكتمل الوثيقة بدونه.
المقارنة السريعة بين «محاكمات موسكو» و«كي لا ننسى» تفيد بعدة ملحوظات حيوية، أولها هو غياب جانب العاطفة أو التأثير الشعوري أو الوثاق -الذي عادة ما يحدث بين المتفرج والعرض أو الحدث المسرحي- في تجربة ميلو راو، فالتجربة تركيبة ذهنية بالدرجة الأولى، أما عرض عبدالقدوس فيثمن التأثير العاطفي، بل يسعى بأدواته لإحداث ذلك الوثاق الذي يشعر المتفرج من خلاله بأن الواقعة الأصلية تمر من خلال حواسه، ويتوحد مع أبطالها ولو كانوا مجهولين له. أما الملحوظة الثانية فتكمن في الهوة الكبيرة بين الموضوعين؛ موضوع حرية التعبير ومحاكمته قانونيًّا، وموضوع الإبادة الجماعية التي تهدد الإنسانية، وتتأسس على محو لقيمة الإنسان، وعلى هيمنة الوحش البشري.
في ظني أن كلًّا من الموضوعين في غاية الأهمية لصانعه، لكن الصانع الأوربي يجد همه الفني السياسي في الدفاع عن حرية التعبير، أما الصانع الإفريقي فيجده في الدفاع عن الحق في الحياة. ثم يوضع العملان في السوق المسرحي الأوربي، ويخلفان تساؤلًا جوهريًّا حول التصنيف الذي يناله كل من العملين، فهل تتبع أوربا التصنيف السياسي فتعد عمل عبدالقدوس صرخة ضد أنظمة القهر في العالم؟ أم تصنفه في خانة كفاح إفريقيا العجوز من أجل مداواة مصائبها التي لا تمت بصلة لأوربا، وليس للغرب أي يد فيها؟ وهل تصنف عرض ميلو راو بوصفه نقدًا للمجتمع الروسي وحسب، أم بوصفه نقدًا لليمين الأوربي الصاعد؟ تلك تساؤلات تؤكد الدينامية الجديدة بين ما هو سياسي وما هو مسرحي، وهي الدينامية التي يحتل محورها المسرح الوثائقي الآن.
----------------------------------------
المصدر : الفيصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق