تصنيفات مسرحية

السبت، 6 مايو 2017

انظر إلى الوراء بغضب: كيف حرر جون أوزبورن اللغة المسرحية



مجلة الفنون المسرحية
جون أوزبورن (يمينا) وكينيث هايج أمام المسرح الملكي سنة 1956


جون أوزبورن 




انظر إلى الوراء بغضب: كيف حرر جون أوزبورن اللغة المسرحية

ترجمة :  فيصل كريم

  هذه مقدمة للطبعة الجديدة من مسرحية أوزبورن “انظر للوراء بغضب” والصادرة من الكلاسيكات الحديثة لدار نشر فابر في الثالث من أبريل/نيسان 2015. كتاب مايكل

بيلينجتون “أعظم مائة مسرحية ومسرحية: منذ القدم وحتى الزمن الراهن” وصدر في الثالث من سبتمبر 2015.


العرض الأصلي لمسرحية “انظر للوراء بغضب” في المسرح الملكي في لندن سنة 1956، ويبدو كينيث هايج (يمينا) بدور جيمي بورتر ثم هيلينا هيوز وآلان بيتس وأخيرا ماري أوري
نشرت شركة المسرح الإنجليزي إعلانا مبوبا في “جريدة المسرح” صيف سنة 1955 يعلن فيه عن فتح باب التقدم لعرض مسرحيات جديدة. وكان الإعلان يمهد الطريق لتدشين نشاط الشركة في خشبات المسرح الملكي، الذي لا يتصف بالفخامة، والواقع في ميدان سلون في لندن. فانصبّت العروض المسرحية كاستجابة للإعلان بأعداد هائلة، حيث انهمر ما لا يقل عن سبعمائة وخمسون نصا مسرحيا.

مايكل بيلنجتون 
غير أن المشكلة أن معظم تلك النصوص لم تكن سوى محض هراء: فكانت إما نصوصا مبتذلة من مؤلفين هواة، أو، حسب وصف طوني رتشارد، الذي شغل منصب المدير المساعد لشركة المسرح الإنجليزي، “مجرد نثر فارغ وتافه”.


لكن برز فقط نص على سطح تلك الكومة المتراكمة من النصوص، وهو العنوان الذي أثار كثيرا من الفضول: “انظر للوراء بغضب” لممثل شاب مغمور يدعى جون أوزبورن. قرأ جورج ديفاين، مؤسس الشركة وأول مدرائها، المسرحية على مكتبه في منزله المطل على ضفة النهر في منطقة هامرسميث وشعر فورا بأهميتها الواعدة. فأخذها إلى رتشاردسون الذي كان يستأجر شقة في الطابق العلوي، وقد أُعجب الأخير كثيرا بالنص. فالتزم الرجلان بإنتاجها كمسرحية في الموسم الأول للمسرح الملكي سنة 1956.

لكن من هو جون أوزبورن بالضبط؟ اتخذ ديفاين قرارا غير مألوف بأن يكتشف هوية أوزبورن على حقيقتها، فعزم على تتبعه حتى مخبأه. فتبين له أن المؤلف عاش في صندل بحري متهالك يتخلله التسريب ويرسو قرب جسر تشيزويك، وتشارك فيه مع زميل له بالتمثيل يدعى أنطوني كرايتون. وهكذا، اضطر ديفاين إلى استعارة قارب وتجديفه بنفسه حتى يصل إلى مسكن أوزبورن حيث كان المد مرتفعا في عصر ذلك اليوم من شهر أغسطس/آب سنة 1955. فطفق يطرح عليه الأسئلة بحماس غامر، فعلم أن أوزبورن ما هو إلا ممثل يبلغ من العمر 26 عاما ومعسر شق طريقه بعناء بين المسارح المحلية، وقد كتب جزءا من مسرحيته “انظر للوراء بغضب” جالسا على مقعد قابل للطي عند مرفأ موركامب بعيد انفصاله عن زوجته الممثلة باميلا لاين. عرض ديفاين لأوزبورن بنهاية تلك العصرية مبلغ 25 جنيها استرلينيا كعقد اختياري لمدة سنة كحقوق لعرض مسرحيته. وما لم يدركه أيا من الرجلين أنهما بذلك ساهما بصناعة تاريخ المسرح.

بيد أن أوزبورن كان عليه أن ينتظر فرصته، فشركة المسرح الإنجليزي لم تتولَ إدارة المسرح الملكى إلا في أبريل/نيسان من سنة 1956. أما مهمة الشركة فتمثلت بكل وضوح في تكوين كتلة مسرحية موازية لتلك العروض الصغرى المتكدسة التي تُقدم في الجانب الغربي من لندن (وست إند) لمسرحيات بريطانية جديدة يُماط عنها اللثام والكشف للجماهير عن أفضل الأعمال القادمة من الخارج. وقد أراد ديفاين أيضا، بعد أن زار قبيل ذلك مسرح بريخت “برلينر إنسيمبل”، أن يغير طابع المسرح البريطاني وأسلوبه تغييرا شاملا. فنمط المشاهد التصويرية الباذخة كان في طريقه إلى النبذ.

أما المكانة التي قُصدت لهذا المسرح فكانت، على غرار نموذج بريخت، تنضح بالإضافة والحدة والجمال. كما أنها أخذت توجها جنسيا مبطنا وسعيا لتخليص المسرح البريطاني من طابعه المتعارف عليه في التكلف والتفخيم؛ وهو إنجاز حققه فريق من المخرجين المساعدين الذين تصادف أن جميعهم من مثليي الجنس سرًا. إلا أن المسرح الملكي لم يحدث ثورة بين ليلة وضحاها.

 قُدم العرض الافتتاحي في أبريل/نيسان 1956 لمسرحية لأنجوس ويلسون بعنوان “أحراش التوت” The Mulberry Bush وهي مسرحية لائقة بالطبقة الوسطى لروائي موقّر ولم تترك كثيرا من الإثارة المرجوة. أما المسرحية الثانية فكانت لآرثر ميلر بعنوان “البوتقة” The Crucible ونالت نجاحا أكبر من سابقتها لكنها لم تكشف كثيرا عن سياسة المسرح الملكي. ثم في الثامن من مايو/آذار 1956، قُدّمت مسرحية “انظر للوراء بغضب” Look Back In Anger في عرضها الأول. ويعدّ هذا يوما سطرته كتب التاريخ لكنه، طبقا لشهادة أوزبورن في مذكراته “شبه رجل محترم”، لم يكن ثمة سوى شعور قليل آنذاك أن أمرا هائلا قد حدث. ولم يحز ذلك اليوم على مكانته كتاريخ أسطوري إلا لاحقا. وفي حقيقة الأمر، لم تنحُ التقييمات النقدية للمسرحية في الصحف اليومية نحوا كارثيا كما تشير الحكايات الخرافية المسرحية. فتقييمات الجرائد المسائية للتايمز والديلي تلغراف ولندن كانت جميعها سلبية تجاه المسرحية حتما. إلا أن فيليب هوب والاس، في جريدة مانشيستر جارديان، استحسن العمل بشيء من التحفظ فقال “أرى أنهم أخيرا يمتلكون كاتبا مسرحيا ذو إمكانيات مبشرة”، أما جون باربر في جريدة الديلي إكسبريس فأخذه الحماس الكبير (فوصف المسرحية بأنها “انفعالية وغاضبة ومحمومة وعصيّة” لكنها أيضا “صغيرة، صغيرة، صغيرة”)، أما ديريك غرانجر في جريدة الفانينشال تايمز فاتسم رأيه بمزيج من الإعجاب والفطنة حيث صرح قائلا “يجب أن يتجاوز تأثيرها إلى أبعد من حالة التحول الفردي المعزول والشاذ كما في مسرحية (في انتظار غودوه)”. غير أن الورطة تمثلت بعدم ترويج أو بيع جريدة الفانينشال تايمز لتذاكر كثيرة. وقد شعرت بلمسة تعاطف مع نقّاد النسخ المسائية، فأنا أعلم مدى صعوبة مسرحية غيرت معادلات اللعبة المسرحية واستيعابه ووصفها وتقييمها أمام المواعيد النهائية للنشر التي لا ترحم. لكن في يوم الأحد التالي، تغير الاتجاه العام تماما. حيث كتب كينيث تينان تقييما نقديا باقتباسات كثيرة في جريدة الأوبزيرفر يجعل من أوزبورن بوضوح تام ناطقا باسم الشباب الساخط وأعلن إعلانا مدويا قائلا “إنني أشك أن بإمكاني أن أحب أحدا لا يرغب برؤية مسرحية انظر للوراء بغضب”. أما هارولد هوبسون في جريدة صنداي تايمز فكان أكثر تحفظا، لكنه لقب أوزبورن بأنه “كاتب ذو مستقبل واعد ورائع”.

ومع أن تينان وهوبسون أطلقا تصريحاتهما الإيجابية، إلا أن المسرحية لم تنل مكانتها كأكثر المسرحيات بروزا فورا. لكن حدثان اثنان منحا المسرحية زخما جديدا. أولهما أن تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عرض ملخصا مدته 18 دقيقة للمسرحية وهو ما جعل شباك التذاكر يُحاصر ويكتظ. أما ثانيهما فكان بقرار مدير تحرير دار نشر فابر الشاب تشارلز مونتيث بأخذ إذن أوزبورن لنشر المسرحية مجزّأة ومن النادر أن تنال نصوص مسرحية مثل هذا النوع من المنزلة والرسوخ. بل إن مونتيث كتب لأوزبورن بعد مضي فقط شهر من ليلة العرض الافتتاحي قائلا “لم أتمتع كثيرا في المسرح كما تمتعت بتلك الأمسية منذ وقت طويل”، ومضى طالبا منه إن كان مهتما بالتأليف الروائي. لم ينجم عن ذلك الاستفسار أدب قصصي، لكن كانت هذه هي البداية لعلاقة طويلة ومتواصلة جمعت بينهما، حيث استمرت فابر بنشر جميع أعمال أوزبورن التالية. واتسمت تلك اللحظة بالأهمية الكبيرة كذلك إذ نشأت من خلالها فكرة احتلال النصوص المسرحية دورا حيويا في مشاريع دور النشر. أستطيع أن أدافع عن أهمية ذلك بحكم أنني مازلت أمتلك نسخة مطوية الصفحات من الطبعة الورقية الأصلية لمسرحية “انظر للوراء بغضب”. ويمكنني أيضا أن أشهد بالتأثير الذي تركته المسرحية. كنتُ طالبا بمدرسة ميدلاندز وأبلغ السادسة عشر من عمري حين عرضت المسرحية أول مرة، لكني أصبحت مشغول البال جدا بالعمل نفسه وكذلك بظاهرة مؤلفي “مسرح الغضب الشبان” الذين يفترض أن تلك المسرحية مثلتهم. لقد كتبتُ سابقا عن وقوفي خارج المسرح الملكي للتفرج على المسرحية في أحد عروضها الجديدة سنة 1957، وكيف أنني حدّقت بوجوه المغادرين من أول عروض يوم السبت لملاحظة مدى التغيير الذي قد يظهر على محياهم إثر تلك الفعالية المسرحية.



أدى رتشارد بيرتون دور جيمي بورتر في النسخة السينمائية من مسرحية “انظر للوراء بغضب” سنة 1959 التي أخرجها طوني رتشاردسون

لكن ما هي أسباب ترك مسرحية “انظر للوراء بغضب” كل ذلك التأثير الذي أحدثته؟ السبب الأول، والأبرز وضوحا، أنها وضعت قدرا كبيرا من إنجلترا الخمسينيات على خشبة المسرح. فمن خلال ذروة التعبير العاطفي البليغ لشخصية جيمي بورتر –و”ليس التعنيف اللفظي” كما يصرّ أوزبورن- تعالج المسرحية مسائل الجنس والطبقية والدين والسياسة والصحافة وذلك الشعور لبلد يختنق بثقافة سلطوية رسمية. وما أدركه قليل منا آنذاك أن أوزبورن، إلى جانب التسليم بتذمرات جيمي وبكائياته، يشعر بتعاطف خفي مع والد زوجته العقيد ريدفان، وهو من الطبقة العليا وبقايا رجالات الحكم البريطاني للهند. فأليسون، زوجة جيمي، تخبر أباها “إنك مجروح لأن كل شيء قد تغير، وجيمي مجروح لأن كل شيء ظل على حاله.” أظنها نصف محقة في ذلك، فبينما يحزن العقيد الاستعماري على الجنة المفقودة للحقبة الإدواردية، يتسم جيمي بالغضب والرومانسية والحنين لعالم لم يعرفه قط. لقد اُحتفي بالمسرحية في الخمسينيات من القرن العشرين على أنها وثيقة اجتماعية بالدرجة الأولى، فهي بمثابة برهان معبر خير تعبير عن شباب يشعر بالاغتراب. ثم نُظر لها على أنها دراسة ستريندبيرغية* عن الزواج المنغمس بمتاهة الحب والكراهية. لكنني أميل أكثر فأكثر إلى أن الثورة الحقيقية التي حققها أوزبورن تكمن في تحرير اللغة المسرحية. فأوزبورن قد كتب بنفسه عن اليأس الذي انتابه كممثل شاب عند محاولة فهم حوار سومرست موم واستيعابه فقال عنه إنه “حوار بليد وميت لا يُحفظ، ومتزعزع كمطاط صناعي،” وهي عبارته النموذجية عندما يريد أن يكيل اللعنات. ومن الناحية الأخرى، نجد أن لغة أوزبورن تنضح بالحياة بكل تشويقها وتستلهم مصادر متنوعة، بدءا من الصرامة الأخلاقية على نمطية بونيان** (لاحظ التشديد على كلمات مثل “النار” و”الدم”)، مرورا بتكرار الأصوات المنتظمة والرتيبة لقاعة الموسيقى والصراحة الجنسية لـ دي إتش لورنس. لقد برهن أوزبورن أن النثر المسرحي قابل لتحقيق شاعريته الغريزية، ومن بين الكتّاب المنتفعين من ذلك التنوع هارولد بينتر وجون آردن وبيتر غيل. وقد نشأ واقع فوري جراء النجاح الذي منحته مسرحية “انظر للوراء بغضب” إلى المسرح الملكي، حيث أسبغت عليه مركزا محوريا في الثقافة البريطانية، وشجعت الأجيال المتعاقبة للتحول نحو التأليف المسرحي. فثمة أسماء لامعة كانت معاصرة لأوزبورن، كآرنولد ويسكر وآن جيليكول.

وفي المقابل ظهرت أسماء أخرى كانت ثمارا لعقود أحرقها الطموح المسرحي الذي أشعله أوزبورن بيده، مثل كرستوفر هامبتون وهاورد برنستون. من اليسير السخرية من المفهوم الصحفي “شباب غاضبون” أو “مسرح الغضب”، (وهي عبارة عفوية صاغها بازدراء مسؤول الصحافة في المسرح الملكي). لكن مما لا جدال فيه أن مسرحية “انظر للوراء بغضب”، عبر بداهتها المتوهجة وحدتها القاسية وثرائها اللغوي، عملت على تغيير المسرح البريطاني. وأقتبس هنا كلمات آلان سيليتول الذي يقول “لم يسهم جون أوزبورن بالمسرح البريطاني؛ بل أعدّ قنبلة كبرى اسمها “انظر للوراء بغضب” ثم فجّر معظم أجزائها علينا. أما شظاياها فقد استقرت كل منها في مكانه بطبيعة الحال، لكن هذا المكان لن يعود على وضعه الذي كان عليه أبدا.

* نسبة إلى أوغست ستريندبرغ: وهو كاتب وروائي مسرحي سويدي هام في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين

** نسبة إلى جون بينان: وهو كاتب وواعظ إنجليزي عاش في القرن السابع عشر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق