مجلة الفنون المسرحية
المسرح البرازيلي المعاصر
ملك مصطفى
رحلة روميو و جولييت في شوارع مريرة
في الأيام الأخيرة شهدت العاصمة الإسبانية نشاطاً متميزاً قادم من القارة الأمريكية الجنوبية؛ ومن بين ما أتيح لنا رؤيته و قراءة ما كتب عنه ، عرضين مسرحيين للمسرح البرازيلي الحديث ورغم إنهما تناولا موضوعين مختلفين تماماً في الرؤية أو في التقنيات المتاحة ،فقد كانا ممثلين جيدين لمسرح نفتقد لمثله ،بل إن العالم العربي على قطيعة مع نتاجاته، هذا مع العلم إن هناك وشائح ورؤى متشابهة ما بين المجتمعين وطريقة التفكير أو العمل الذي يخلق عادة بإمكانيات بسيطة تقترن أغلبها بتجارب شبابية وبمستويات عروض تنتمي لما يطلق عليه بمسرح الفرجة أو مسرح الفكرة الفقير.
العرض الأول الذي حمل عنوان “الشارع المرير” فإنه طرح بحلة جديدة عن حياة المسيح، ولعلها خطوة مكملة لطروحات سينمائية سابقة إعتمدت المعالجة الحرة و غير المتكلفة في النظر لإنسان صنع عالمه وإقترن بفكرة اللقاء الرباني. مع الشارع المرير فإننا سننتقل بتفاصيل حياة النبي ،مشاهد حياتية أولية تمر على الخشبة سريعة مفعمة بإضاءة بسيطة كانت تبتعد قدر الأمكان عن أن تكون مهرجانية باذخة لمنح الشخصية بعدها الإنساني القريب من الأرض البشرية. وهذا التتابع سيطول مع فكرة صلبه التي تتحول إلى نشيد مفعم بالأصوات المتداخلة في رثائه تتخللها العديد من الأغاني الشعبية البرازيلية والموسيقى التراثية والحديثة منها على وجه الخصوص، إذ تبلغ قمتها في البروز وإظهار قسمات حلة العرض وتفاصيله التي ستختم مع بعثه وإلتقائه بشخوص المسرحية في نشيد طويل ومتتابع مع نزول الستار مما يوحي بصلة الرحلة مع رحلة أي إنسان آخر . إن هذا النص هو إعادة لفكرة كتبها المؤلف إدواردو غاريدو مع بداية القرن وكانت بعنوان شهيد كلافاريو، وما حاول عمله المخرج غابرييل بييلا هو تعميق الجانب الرثائي فيه، مركزاً على بعده الدرامي من خلال حشود الأصوات الأوبرالية والغناء الإيحائي المستل من القراءات الكنائسية الزنجية. من هذا كان الجانب السينوغرافي أكثر حيوية من خلال التمازج الكلي لما ذكرنا مع الألوان والأضوية التي كانت توحي بإحدى إحتفاليات أعياد الميلاد حقيقةً. ولكن ما بين الحس الميلودرامي للعرض، كان هناك خيط خفي من التأمل والبِشر وهو ما أوضحه المخرج قائلاً بأن الفكرة كانت في الأساس ليست إحتفالية عزائية بشخص المسيح فحسب، بقدر ما هو تأكيد على السمة البرازيلية الخالصة، ودعماً لإظهار ثقافتها وتراثها الشعبي المتعلق بمسألة الدين ونظرتها للمقدس والشخوص اللاهوتية. لقد كانت مسرحية: الشارع المرير بحق نوع من التأثير السمعبصري الذي عبر عنه النص من خلال الوصول للمتفرج عن طريق الحركة والتمثيل العفوي المباشر وكأنها طريقة كسب لكائن آخر يسير معك في الشارع وتنتقل له عدوى الفرح أو الحزن والمشاركة بواسطة الحث والفرجة الممكنة و التي لا تبني سلماتها التوضيحية من فكرة غامضة فتقع أسيرة المداورة والتلكؤ. لقد حازت المسرحية سواء في البرازيل أو مهرجانات عالمية أخرى على عدة جوائز مثل: ريو دي جانيرو ، شارب لأفضل عرض لعام 1998 وجائزتي موليير و شيل .
أما عرض ” روميو وجولييت” للفرقة ذاتها فإنها تصريح حب وتعلق بأفكار العبقري الإنكليزي شكسبير وهي في آن واحد لفنان شعبي برازيلي يدعى مامبيمبي الذي كان يتخذ من الشارع قاعدة لمسرحه الذي يلقيه بدون تحضير وعلى مسمع الناس دون أي تأثيرات أخرى، الحركة والصوت مع الإيماءة والتدخل والمحاورة مع الناس. ولعل فكرة العرض قد جاءت من كون روميو وجولييت لشكسبير معروفة على نطاق عالمي مما سيتيح لها فرصة النجاح والمشاركة ضمن هذا النمط من المسرح. ولكنه يبقى كذلك عرضاً خالصاً لا علاقة لشكسبير ومسرحيته الذائعة الصيت بالعرض البرازيلي هذا، فقد إعتمد فكرة الهجر والظروف التي تتدخل في عدم إلتقاء الحبيبين ولكن من وجهة نظر شعبية خالصة، أي بمعنى آخر تجريد النص وإحالته إلى نمط فرجة برازيلية شعبية، تتحاور مفاصله مع كل عناصر الشارع البرازيلي من غناء ورقص وطرق تكوينه.
وطالما كانت فكرة النص تعتمد تراجيديا العشق، التحرر والموت الذي سيكون نهاية لقدر الشابين، فإن الفرقة وجدت في الحركة السيركية ومظاهرها الإحتفالية رقعة لتباري الشابين في الدفاع عن أحقية الحب في التواصل والإستمرار. التجديد في النص إنما ينبع تماماً من فكرة فهم فريق العمل للحكاية برمتها على كونها مباراة إظهار لقدرة البشر أي كان على الصمود ومعرفة حقه في التصريح، لذا لم تلتزم أية شخصية بمقياس ثابت لدورها فهي متنقلة ومتغيرة وفقاً للظرف ذاته ولرد فعل المتفرج والشريك معاً. إن الروح المتحررة لنص شكسبير في الوصول لغايته،قد حققت فعلها مصحوبة بدهشة وإنفعال لهذا الزخم من الأفكار والملامسة الواقعية لمعضلة الحب والموت ومعالجتها ببساطة غنية وتجديدية في كل شيء من الإيماءات إلى الملابس ، بل حتى في حركة المتفرج ضمن ساحة شاسعة مفتوحة ومجردة من قيودها هي الأخرى كحال العرض تماماً. إن هذين العرضين لفرقة غالابو المسرحية البرازيلية التي تراهن على قدرة النص الشعبي و التمثيل الحركي الإيحائي وتعتمد البساطة في التكوين والعمق في الطرح، إنما هما نموذجان دالان على الفهم الكبير لرسالة المسرح وقدرة عالية على المعالجة الواعية والفنية المحترفة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق