مجلة الفنون المسرحية
حسن عبدالحميد
كم سيبدو الأمر طريفاً ومُحبّباً - إلى نشوةٍ ما- ونحن ندنو من ملامسة عنوان مسرحية المخرج (كاظم النصّار) الأخيرة المعنونة باسم (سينما)،حين نعرفُ - أو نُذكّر- بأن كلمة فيلم أشتقت من فيلمن (Filmen) التي تُستخدم في اللغة (الأنجلو- سكسونيّة) كاسم للزبد -(كَشوَة) باللهجة العامية المتداولة- الذي يتكوّن عند تسخين الحليب!!
ذلك العمل الذي تمّ عرضه على خشبة المسرح الوطني عبر توالي أيام 11)و12و 13نيسان/2017) بعد أن شكّل الإكتفاء بهذا العنوان من لدن مؤلفها (وهو المخرج نفسه) نسقاً من تضادٍ (تآمري) تضافر- ضمناً -على بثِّ روح السخرية ونثِّ رذاذ التهكم حين نعرف- أو نُذكرّ- بأن كلمة (سينما) أضحت ملمساً و معلّماً تداوليّاً لمعنى (الفرجة) العامة في حياتنا أو كناية لشيء مفضوح يشير إلى جملة سلوكيات وأفعال لمواقف يعي الجميع بها ويعلم بنوائبها وشرّ بلوها، وما من سلوىٍ سوى سبل الدفاع عن فعل ذلك بـ(الكوميديا السوداء) أو التعريض لها بعدم الإكتثراث عبر اللجوء إحتماءً بذلك النوع من (الضحك الضروري) الذي قال عنه (أرسطو) بعد أن أردف يكمل: (في سبيل الإزدياد من المعرفة).
لم تأتِ تسميّة مسرحيّة (النّصار) هذه مجرد تعبئة عابرة أو فرض إستمالة لفظية مغايرة خالية من صرامة تأسيس بُعدِها النفسي وخواطر تأثيرها الدرامي تحت ثقل مسمّى (الحرب) التي أستنفذت أبعادها المباشرة والمقنّعة الكثير من الأعمال المسرحيّة العراقيّة ، فيما مسعى (سينما)جرى ينوء بحمل إستجلاءات قصص لشخصيات عبر مسارب ما أسماها بـ(التراجيديا العاصفة)، بل هو (أي العنوان) تسويغ جوهري أشهر من خلاله مختزلات لقصص أبطاله سواء أكانت بمثابة تعريف أو مجمل سيرة ذاتية مبسطة لكل من (الجنرال) أدى الدور(إياد الطائي) و (الشاعر) أدى الدور (علاوي حسين) و(المرأة الإعلامية الطموحة والحالمة) أدت الدور (أزهار العسلي) و(سائق التاكسي) أدى الدور( زيدون داخل) أم توافد تلك القصص مشتركةً بفحوى همٌّ كوني يتلخص بقصة كبرى أستظلّت تحت ظلال لعناتها تطلعات وأحلام ومشاريع أرواح هؤلاء الأموات -الأحياء في كنف مقبرة واحد، سنلمسها تمتّد وتتسع مع توالي الأحداث ومسارات الكشف عما يجول في دواخل وخواطر أبطالها الاربعة.
ثورة الموتى.. جدوى العبث
فيما ستبقى تحذيرات وقرارات ومقترحات حفّار القبور أدى الدور (باسل الشبيب) قائمة ومتكررة ومُحذرة من شدة وطأة و تفاقم توالي قوة ضربات (الزلزال) الصاعق من جراء نتائج أثار أهوال الحرب ومتواليات أوجه فجائعها السانحة، ومن فرط الإستفراد بإستخدام كل القوى الممكنة والطرق المؤديّة للموت الذي أضحى معادلاً موضوعيّاً ملازماً لنبع (الثيمة) الرئيسيّة لهذا العمل المتمرس بتوريد الموقف الحاذق والجدل المحكوم بجملة عوامل و مصدات فكاهية جارحة ومهذبة في ذات المقاصد والتوريات، أن لم تكن شيّقة وطيعة في أقسى حالات التعبير عن رصانة الرصد ومهارة التثمين النوعي لقيمة الفن السامي و تباهياته المدروسة القادرة- بفضل إمتلاك المخرج لعدة تنويعات فكريّة وذهنيّة وأخرى شعريّة و رؤى جماليّة- على تصويب فوّهات إداناتها لبشاعة الحرب ومكائن طحن الحياة بالطريقة (الماكرة) والمبتكرة بتفويض نوبات من مويجات العبث (المحلي) الملازم لجدارة الوعي اليومي للمواطن العراقي، متمثلاً وصادحاً برؤية المخرج- المؤلف ونشاط ورشته في رسم وحسم وتصوراته فضلاً عن تطلعات خبرة الـ(دراما - تورج) الفنّان الواثق الحصيف (سعد عزيز عبد الصاحب) وموازرة مُقترحات أدوات لغة (السينوغرافيا) المبهرة للفنّان(جبار جودي) المبدع المتمرّد على كل ما هو مألوف وسائد في عالم التعبير بالموسيقى وبلاغة الضوء، وفي إستشراف روح الفكرة وفهم تقصّدات جماليات مخابئ النص عبر رهان المخيلة التي يغرف من ينابيعها تبريراته الإبداعية ومهاراته التحوليّة في جعل اللحظة حاضرة على نحوٍ يساند من تفعيل أثر التأويل كما يعاند لصالح التقليل من سطوة تسلل الملل مهما كان مجاله، و من توثيق أواصر شدّ الإنتباه، ولنا - هنا- في ذِكر مآثر(جودي) الكثير من الأعمال التي أقترنت بإسمه وعززّت من نصوع حضوره الأثيري في مثل هذه السوانح التي تنضّم إليها(سينما) كاظم النصّار بهذا الإنفتاح المنهجي الحُرّ وهو يتاخم بوعيه المتقدم تماثلات مهارات خطابه العالمي في توحيد لغة مقت الحرب ومجانية الموت، بمرتهنات مغايرة لما فعل الكاتب الامريكي (أروين شو)-مثلاً- في مسرحيته الذائعة الصيت (ثورة الموتى أو إدفنوا الموتى) التي كتبها في عام / 1935 والتي تُعد من أعنف وأشدّ الإتهامات المكتوبة والموثقة ضد الحروب على مر العصور والأزمان والتي خلّفت الكثير من الضحايا ا، ومن مصائر الجنود والمحاربين الذين لا يرغبون الخوض في حروبٍ لا تمت- أنبل قيمها- للإنسانية بأدنى صلة.
الموت.. بما يضاهي النسيان
(سينما)-المسرحية- خرق إجتراح لمعنى فعل القناع أو مجموعة الأقنعة التي أرتدتها شخصيات هذا العمل وفق رؤية تفاعلية نَسجت وجودها حنكة مخرج تواثب يُحيي بسالة النقد ولوائح التقريع وأطر التعبير من خلال ما أُصطلح عليه بـ(الكباريه السياسي) والذي سبق له تقديم عمله (أحلام كارتون) في كانون ثاني/2014 على منوال هذا التواصل المقرون بصراحة وضوج جهد خلاّق في خلق تجانس محسوس ما بين ملاك فريق ممثليه الذي تنازع في تقديم براعات إداء مخلص لذلك النسق العام الذي بُنيت عليه (سينما) سمات وجودها وتحريضات مساعيها في تكليف وتكثيف إستنفار طاقات الممثلين كما في مهارات دور حفّار القبور الرجل الأحدب(باسل الشبيب) الذي تواشج مع قدراته و مطوعيات جسده المرن على النحو الذي أعطى غرابة لافتة و أثر حضور تكلل يؤاخي من قدرات الممثل الباذخ الثقة (أياد الطائي) في سلسلة تكملة بارعة لأدوار كان قد جسّدها في مسرحيات(حصان الدم...ماكبث)-مثلاً- أو مسرحية (خيانة) وغيرها من شواخص الولع الشكسبيري- كما أتسمت-هنا ايضا- بالرصانة واللياقة العالية من حيث مقتربات الأداء والغور في عمق شخصية (الجنرال) ومكابدات كبريائه وما يتطلب من تلوينات فيما يحاذي الخط العام وهواجس الشخصيات الأخرى التي كانت ترفض الموت وهي تستذكر لحظات المواجهة له، كما (الشاعر) الذي أبدع وتبرّم مغداقاً في ترسيم حدود طريقة الحفظ ومتعة الإستظلال بأبيات من الشعر التي وردت منحوتةً بخواص ملكات المبدع(علاوي حسين) وطراوة روح وخفة دم الممثل الممتع(زيدون داخل)، وحيويّة إداء (أزهار العسلي) في واحد من الأدوار المهمة في حياتها الفنيّة على ما أتوقع وأظن.
ومع خواتم الفصل في ممكنات التوضيح الذي أنتخت فيه (سينما) وتسامت الفكر والمتعة والحل والمكر الإبداعي الذكي، ثم من جهة التمثيل الذهني والغرض الإفتراضي والوهمي الذي أضحى يقيناً محرضاً في تثوير معاناة الشخصيات وضخها ببواعث العبث ومرح السخريّة، وتآخي لغة الحوار ما بين العامي و نواتج الفصيح من الكلام وفواصل التوّقفات الإعلانيّة و روح الدعابة والتقريع في مواجهة مهام توسيع المقبرة لتكن جاهزة لقبول المزيد من الضحايا وقوافل الأموات وفكرة إنشاء تشابه (البرلمان) والمجلس التنفيذي والتشريعي لهؤلاء الموتى من الذي لم يتخلوا بالتنازل عن حرياتهم وتحقيق مشاريعهم وفرز تطلعاتهم وغيرها من مواقف وذكريات و تواشجات باهرة تجاوزت فكرة الموت الحالي والمتكرر بشكل مجاني في ربوع بلادهم المبتلاة بقادة يرون في الحروب ملهاة لوجودهم الدموي في حيواتنا، فيما يرى(ميلان كونديرا) أن (المشكلة الكبرى في الحياة الخاصة هي "الموت" بوصفه فقدان الذات ... على إنّها خلاصة لكل ما تتذكره تلك الذات وأن ما يرعبنا في الموت ليس فقدان النستقبل، بل ضياع الماضي ... وأن النسيان ما هو إلأ شكلٌ من أشكال الموت).
---------------------------------------------
المصدر : المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق